أفكَار

سجن الغنوشي والفضاء الديمقراطي في تونس.. مأساة المشروع الفكري وصراع التيارات

عندما قدّم راشد الغنوشي نفسه ليلة الانقلاب عند أبواب قصر البرلمان المغلقة بقوة الآليات العسكرية للتعبير عن رفضه للانقلاب وللدفاع عن الديمقراطية والدستور والمؤسسات الشرعية منعه جندي من دخول مقر المؤسسة الدستورية التي يترأسها بدعوى الدفاع عن الوطن.
عندما قدّم راشد الغنوشي نفسه ليلة الانقلاب عند أبواب قصر البرلمان المغلقة بقوة الآليات العسكرية للتعبير عن رفضه للانقلاب وللدفاع عن الديمقراطية والدستور والمؤسسات الشرعية منعه جندي من دخول مقر المؤسسة الدستورية التي يترأسها بدعوى الدفاع عن الوطن.
يندرج نص القيادي التونسي في حركة "النهضة" رضا إدريس ضمن حوار فكري وسياسي معمّق حول أزمة التعايش بين التيارات الفكرية والسياسية في تونس بعد الثورة، حيث تُطرح مسألة العلاقة بين الدين والديمقراطية، وضرورة ترسيخ الثقافة الديمقراطية لضمان حقوق الإنسان وسيادة القانون. يستجيب إدريس من خلال تحليله لمقال هالة الباجي، للجدل المتعلق بـسجن راشد الغنوشي، كرمز لمشروع "المسلم الديمقراطي"، ويضعه في سياق صراع بين نخب سياسية حداثية تعتبر الإسلاميين خصماً أيديولوجياً وبين من يسعى للحفاظ على التعددية والمؤسسات الديمقراطية.

يتناول النص الدلالات الإنسانية والفكرية والسياسية والأخلاقية لهذه الأزمة، مسلطاً الضوء على مأساة شخصية الغنوشي وعائلته، وعلى ضعف النخب الحداثية في فهم التحولات الفكرية للتيار الإسلامي المعتدل، وكذلك على دور السلطة التسلطية في تحويل القضاء إلى أداة للانتقام السياسي. وفي هذا الإطار، يُعتبر سجن الغنوشي تعبيراً عن مأزق تونس الديمقراطي وأزمة التعايش بين الأطراف المختلفة، وليس مجرد حدث فردي، وهو ما يجعل النص مساهمة في النقاش البنيوي حول مستقبل التجربة الديمقراطية التونسية.

مقال مرجعي

صدر للكاتبة المفكّرة والأديبة المحترمة السيّدة هالة الباجي مقال مرجعي بمجلة "النوفيل أبسرفاتور" الفرنسية يوم 1 سبتمبر 2025 حول المنعطف الإستبدادي بتونس وفقر جزء من النخبة "الحداثية" في مجال الثقافة الديمقراطية وخاصة حيال القمع إذا سُلّط على المخالفين من العائلة الإسلامية حتى وإن كانوا من السبّاقين والمجتهدين في التوفيق بين المرجعية الإسلامية والقيم الديمقراطية والحاضّين على التوافقية السياسية وضمان الحريات للجميع من مثل الشيخ راشد الغنوشي.

إن سجن الغنوشي اليوم يمثل طعنة غادرة لهذا المشروع الفكري والحضاري، وإعلاناً متعسفاً عن فشله، لا لقصور فيه، بل لسطوة الطرف الآخر، ثم لأن الطرف الآخر، الذي تسميه الباجي "القوميون الحداثيون"، رفض الحوار من الأساس. لقد استمرّوا في رؤية النهضة كعدو أيديولوجي يجب شيطنته تمهيدا لإقصائه وقمعه، وفشلوا في إدراك أن البديل عن ديمقراطية مَعيبة تشارك فيها النهضة، لم يكن دولة علمانية مثالية، بل سلطوية جديدة ستلتهم الجميع وتغتال كل جميل!
نحاول هنا محاورة هذا المقال من باب تعميق أطروحته النقدية للتجربة وإثراء تطلعاته الإستشرافية لنظام ديمقراطي تعددي على رأي جون جاك روسو ولمجتمع آمن مفتوح على رأي كارل بوبر، لعلّنا نقف عند أهم الدلالات الإنسانية والفكرية والسياسية والأخلاقية لمقاربة الكاتبة لموضوع يتصل بجوهر تجربة الإنتقال الديمقراطي في مهده الأول تونس صعودا ونزولا نجاحا وإخفاقا والذي أُجمله في إشكال مدى الحاجة لرسوخ الثقافة الديمقراطية لنجاح  تجربة ديمقراطية !

المدخل.. صوت الضمير في زمن الصمت          

عندما تكتب مفكرة بحجم هالة الباجي، وبالنظر لتاريخها النقدي للتيار الإسلامي ولدولة ما بعد الإستقلال على حدّ سواء، شهادتَها عن "أحد أشدّ مشاهد الظلم التي لا تٌطاق" في سجن راشد الغنوشي، فإننا لا نقرأ مجرّد مقال رأي، بل نشهد لحظة تاريخية فارقة تكاد تكون سابقة في مجالها وحيِّزِها. مقالها ليس دفاعًا عن شخص أو عن حزب، بل هو مرثيّة/ آمِلة للديمقراطية الوليدة، وجرس إنذار، ودعوة لمراجعة نقدية موجِعة للذات.

هذا التحليل إسهام في حوار بنيوي مع مقال السيدة الباجي، نحاول من خلاله أن نستلهم من رؤاها العميقة ونضعها في سياقها التطوري، مستخدمين محاورها الأربعة منارات نهتدي بها لفهم أبعاد المأساة التونسية: الدلالات الإنسانية، والفكرية، والسياسية، والأخلاقية.

1 ـ الدلالات الإنسانية: "كرامة رواقيّة" في وجه الظلم                             

تفتتح هالة الباجي مقالها بمشهد إنساني مؤثر، راشد الغنوشي، الرجل البالغ من العمر 83 عامًا آنذاك، يتحدث "بصوت أقرب إلى الهمس" عن الصفح والتعددية، ليُعتقل في الليلة التالية، ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم ولم يتمّ بعدُ تناول وجبة إفطاره، في "هجوم مسلح" ويُجبر على الجلوس على كرسي طوال الليلة في انتظار تحقيق في "جريمة" تنبيه التونسيين من خطر الفتنة والحرب الأهلية إن تمّ إقصاء أي طرف من العائلة الوطنية الواسعة.. هذه الصورة التي ترسمها الباجي ليست مجرّد استعطاف، أو تظلّم، بل هي جوهر المأساة الوطنية. إنها تكثيف درامي لمسيرة رجل بدأت بالاضطهاد في عهد بورقيبة وبن علي، حيث تعرض للسجن والتعذيب وصدرت بحقّه أحكام بالإعدام والنفي، لتنتهي بشكل دائري خبالي في نفس الزنزانة تحت حكم نظام جديد ساهم الغنوشي نفسه في رسم معالمه وبناء مؤسساته كما هو حال وطنيين آخرين من عائلات فكرية وسياسية مختلفة.

كما أن رفض الغنوشي المثول أمام القضاة في جلسات المحاكمة بعد خطفه خارج القانون ليس مجرد تكتيك قانوني، بل هو امتداد لتلك "الكرامة الرواقيّة". إنّه موقف يرى في المحاكمة مسرحية سياسية سمجة تهدف إلى "التنكيل به كزعيم سياسي وكرمز من رموز الثورة والتجربة الديمقراطية". وتكتمل دائرة  المأساة الإنسانية هنا حين يمتدّ العقاب ليشمل عائلته، بأحكام قاسية صدرت تباعا بحق إبنه وبناته وأصهاره في قضايا كيدية سخيفة، وهو ما يحوّل الرغبة في الانتقام السياسي إلى عقاب جماعي يهدف إلى سحق الرجل على المستوى الشخصي والعائلي على نمط الأحكام السلطانية في القرون الوسطى.

2  ـ الدلالات الفكرية.. "المسلم الديمقراطي" الذي لم يُفهم

تضع الباجي يدها على الجرح الأعمق حين تتساءل عن معنى فكرة الغنوشي عن "المسلم الديمقراطي"، الذي ترى أنه يبشر بـ "إسلام مفكٍّر، قائم على حرية إختيار الشخص"، هذا المفهوم الذي حاول الغنوشي بلورته وتطويره عبر مسيرته الإجتهادية كان يهدف إلى التوفيق بين المبادئ الإسلامية وقيمه العليا كالعدل والإحسان والحرية وآليات الديمقراطية والحداثة السياسية كالتعددية وسيادة القانون والفصل بين السلطات ومأسسة ضمان الحريات الخاصة والعامة وتحرير المجتمع المدني وتجلت أبرز التطبيقات هذا المنعطف في الفصل بين الحزب السياسي كمؤسسة مدنية تنافسية، والعمل الدعوي الذي يهدف لتوحيد المجتمع حول فضائل الدين الجامعة، لقد كان مشروعًا للخروج "من المطلق إلى النسبي، ومن مجال الطاعة إلى مجال التفكير والإختلاف".

لعل الأهم في طرح الباجي هو نقدها الذاتي المرير: "نعم، لقد ضللنا نحن الحداثيون، الطريق في خضم الإيديولوجية السلطوية" حيث تقرّ بأن النخب "التقدمية" كانت "عاجزة عن فهم هذا الرابط الحميم، الذي لا يوصف بحدّ دقيق في الغالب، بين  المسلم الراسخ في إيمانه والمواطن المتعلق بحريتة وانعتاق الإنسان" ، كأنّ الحقيقة على تمامها و الخيار الفلسفي الوحيد لدى هذه النخب أن تختار بين أن تكون "مؤمنا" أو أن تكون "مواطنا" ولا سبيل للجمع بين الإثنين !

هذا الاعتراف الصادق هو مفتاح فهم الانهيار الحالي. لقد فشلت هذه النخب في رؤية التطور الذي طرأ على حركة النهضة، وهو ما كانت الكاتبة نفسُها قد أشارت إليه في حوار عام 2014، حين أكّدت أن "إسلاميي عام 2014 ليسوا إسلاميي الستينيات" وأن النهضة "أوفت بالتزامها" وتطورت نحو العقلانية والبراغماتية.

إن سجن الغنوشي اليوم يمثل طعنة غادرة لهذا المشروع الفكري والحضاري، وإعلاناً متعسفاً عن فشله، لا لقصور فيه، بل لسطوة الطرف الآخر، ثم لأن الطرف الآخر، الذي تسميه الباجي "القوميون الحداثيون"، رفض الحوار من الأساس. لقد استمرّوا في رؤية النهضة كعدو أيديولوجي يجب شيطنته تمهيدا لإقصائه وقمعه، وفشلوا في إدراك أن البديل عن ديمقراطية مَعيبة تشارك فيها النهضة، لم يكن دولة علمانية مثالية، بل سلطوية جديدة ستلتهم الجميع وتغتال كل جميل!

3 ـ الدلالات السياسية: "كيف قضى القوميون الحداثيون على الديمقراطية"

تحت هذا العنوان، تشرح الباجي بوضوح الآليةالسياسية للكارثة: "لم يتحمّلوا مشاركة الشيء الذي احتكروه على مدى ثلاثة أرباع قرن: أي  الدولة". فبدلاً من القبول باللعبة الديمقراطية، عملوا على "تصفية النظام الذي يمنحهم  (أي  الإسلاميين) الحق في الوجود، أي  الديمقراطية"... فأضعنا الدولة والديمقراطية مع .

هذا التحليل يتطابق مع الواقع السياسي الذي تكشفه الأحداث. لقد أستغل قيس سعيّد حالة الإستقطاب هذه وخيبة الأمل الشعبية من أداء الطبقة السياسية بأكملها (إسلاميين وعلمانيين)، ليُقدّم نفسه كبديل فوق ـ أيديولوجي، بينما كان في الحقيقة يهدم أسس الدولة الديمقراطية خطوة بخطوة، لبِنة بعد لبنة منذ 25 تموز / يوليو 2021.

إن سجن الشيخ راشد الغنوشي، رئيس أكبر حزب سياسي ورئيس البرلمان المنتخب، لم يكن على الأرجح هدفًا بحدّ ذاته، بل كان الخطوة الإستراتيجية الأهم لـتجريف الفضاء العام وقتل السياسة واغتيال الديمقراطية، وإرساء نظام رئاسوي مطلق بلا أي شراكة أو رقابة أو مساءلة أو توازن.
لقد تم تحويل القضاء إلى أداة لتصفية الخصوم، وافتعال قضايا "التآمر على أمن الدولة"، في سرديات مهزليّة استهدفت طيفًا واسعًا من المعارضة من  السياسيين والصحفيين والنشطاء من كل الإتجاهات وتؤكد شهادات المحامين وتقارير المنظمات الحقوقية الدولية أن هذه المحاكمات تفتقر لأبسط شروط العدالة، حيث تعتمد في الغالب على "وشايات كاذبة من شاهد سرّي محجوب الهوية" وتغيب فيها الأدلة المادية والإثباتات القانونية

إن سجن الشيخ راشد الغنوشي، رئيس أكبر حزب سياسي ورئيس البرلمان المنتخب، لم يكن على الأرجح هدفًا بحدّ ذاته، بل كان الخطوة الإستراتيجية الأهم لـتجريف الفضاء العام وقتل السياسة واغتيال الديمقراطية، وإرساء نظام رئاسوي مطلق بلا أي شراكة أو رقابة أو مساءلة أو توازن.

4 ـ الدلالات الأخلاقية: "شغف بالقوة"

ترى الكاتبة أن الأزمة على التمام هي أزمة أخلاقية، أزمة "شغف بالقوّة" وتواطؤ مضطرب بين بعض النخب "الحداثية" والدولة التسلّطيّة والشعبويّة "الطائشة" وتصل إلى استنتاج قاسٍ بأن "القومية ـ التقدمية ما بعد الإستعمارية هي ضديد الإنسانية" لأنها بُنيت على "سحق حرية الضمير" و"ازدراء الكرامة".

هذا الانهيار الأخلاقي هو ما يسمح اليوم بتصاعد "درجات غير إنسانية من سوء المعاملة". إن الدفاع عن حق راشد الغنوشي في محاكمة عادلة، من وجهة نظر الباجي، ليس موقفًا سياسيّا فحسب بل هو تمسّك بالحدّ الأدنى من المبادئ الأخلاقية التي تُميّز المجتمع المتحضر عن قانون الغاب كذلك، إنه دفاع عن "الحق والعدل للجميع دون استثناء"، وهو المبدأ الذي بدونه لا يمكن بناء أي بديل ديمقراطي وطني ذي مصداقية .

إن شجاعة السيدة الباجي في قول الحقيقة في وجه السلطة وفي وجه معسكرها الأيديولوجي، دعوة مخلصة ومتجرّدة للنخبة السياسية والفكرية التونسية للتخلي عن أحقاد الماضي والبحث عن المشتركات الإنسانية والأخلاقية والوطنية، وإدراك أن المعركة اليوم لم تعد بين "الحداثيين" و"الإسلاميين"، بل بين من يؤمنون بالحرية والكرامة وسيادة القانون ومن يسعون لترسيخ دكتاتورية جديدة باسم "الوطنية" و"التطهير". هذا المشروع الذي إنبرى للنهوض به ثلة من الفاعلين السياسيين والفكريين والمدنيين من مختلف الأطياف الوطنية من العائلة الليبرالية واليسارية والإسلامية ومن المستقلين ويتبدى اليوم في مساهمات نظرية ومواقف جريئة ومراجعات صادقة ومبادرات عقلانية واعدة                                                       

ختاما.. على أبواب قصر باردو مأساة وأمل:

تختم السيدة هالة الباجي مقالها بمشهد رمزي بليغ وحزين، عندما قدّم راشد الغنوشي نفسه ليلة الانقلاب عند أبواب قصر البرلمان المغلقة بقوة الآليات العسكرية للتعبير عن رفضه للانقلاب وللدفاع عن الديمقراطية والدستور والمؤسسات الشرعية منعه جندي من دخول مقر المؤسسة الدستورية التي يترأسها بدعوى الدفاع عن الوطن. ألم يشرح أحد لهذا الجندي أنه إذا لم يعد للوطن برلمان ودستور، فقد انتهى هذا الوطن ولم يبقى للجندي ما يدافع عنه.

هذا المشهد يلخّص المأزق التونسي كما يلخّص مناط خلاصه فالمعركة اليوم هي معركة وعي، معركة لإعادة شرح أبجديات الديمقراطية والمواطنة لجيل كامل تم تسميم عقله بخطاب الكراهية والشعبوية وتزييف الوعي، وتأتي مقالة هالة الباجي محاولة شجاعة لبدء هذا الشرح الضروري والمؤلم كما سيسهم فكر الغنوشي المستنير ووثبته الجريئة وشجاعة أمثاله من الوطنيين الشرفاء من كل الإتجاهات وبلاءهم وصبرهم على المكاره وإصرارهم على الحق في إسترجاع الديمقراطية وصيانتها وبناء تونس عزيزة ومستقرةومزدهرة ومشعّة المفعول الناصب لإنجاز التغيير وإنقاذ المعاني والمباني في هذا الوطن العزيز.
التعليقات (0)

خبر عاجل