عندما اندلعت
الثورة الإيرانية عام 1979، مثّلت بالنسبة للعالم العربي
والإسلامي حدثًا استثنائيًا بكل المقاييس؛ إذ رآها جيل السبعينيات والثمانينيات العربي
بوصفها لحظة تحرّر كبرى من قبضة الاستبداد الداخلي المتحالف مع القوى الغربية، وكمنعطف
يعيد للعالم الإسلامي إحساسه بالعزة والانتماء إلى حضارة قادرة على إنتاج بديل مستقل
عن النماذج الاستعمارية أو الأنظمة القومية الفاشلة. لم تكن الاعتبارات الطائفية حاضرة
في الوعي العربي العام آنذاك، بل كان الشعور الغالب هو الانبهار بقدرة شعب مسلم على
إسقاط نظام ملكي مدعوم من الغرب، وبزوغ مشروع دولة تنادي بالاستقلالية والهوية الدينية
في مواجهة التغريب والهيمنة.
على الصعيد الدولي، نظر الغرب بقلق بالغ إلى الثورة، ليس فقط لأنها أطاحت
بأحد أهم حلفائه في المنطقة، بل لأنها دشّنت نموذجًا جديدًا لمزج الدين بالسياسة خارج
الإطار العلماني المألوف، وأطلقت موجة من الهواجس حول "الإسلام السياسي"
كقوة عالمية ناشئة. أما في السياق العربي، فقد سادت حالة مزدوجة من الأمل والخوف: أمل
في أن تشكّل الثورة رافعة لمشروع إسلامي وحدوي في مواجهة الاحتلال الصهيوني والتبعية
الغربية، وخوف من أن تتحوّل إيران إلى قوة عقائدية تسعى إلى تصدير ثورتها بوسائل سياسية
وطائفية، وهو ما تعمّق لاحقًا مع اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية التي مزّقت آمال
التضامن الإسلامي، ورسّخت الانقسامات المذهبية والسياسية في المنطقة.
اليوم، وبعد مرور أكثر من أربعة عقود، بات من الضروري التمييز بين مستويات
التحليل المختلفة لفهم الثورة الإيرانية: السياسي والجيواستراتيجي من جهة، والتاريخي
والعقائدي من جهة أخرى، بعيدًا عن التوظيف الطائفي أو الأدلجة المسبقة. فالثورة لم
تكن مجرد انتفاضة شعبية على حكم الشاه، بل كانت نتاجًا لمسار طويل من
التحولات الفكرية
والاجتماعية والثقافية في إيران، أفضى إلى قيام دولة عقائدية حديثة، تتجاوز حدود الجغرافيا
لتؤثر في كامل المشهد الإسلامي والدولي.
ولعل ما يعزّز الحاجة إلى قراءة الثورة الإيرانية في سياقها الأوسع، بعيدًا
عن الانقسامات المذهبية والاصطفافات السياسية الضيقة، هو ما أكّده لي المفكر والباحث
الإسلامي الموريتاني الدكتور محمد مختار الشنقيطي في الحوار الذي أجريته معه مؤخرا،
حيث شدّد على أن العلاقات بين الشعوب والدول الإسلامية ـ بما فيها إيران ـ ينبغي أن
تقوم على قاعدة التعاون المستند إلى المشترك الديني والعقائدي، لا على الانقسام والصراع.
فالتحديات التي تواجه الأمة في حاضرها لا يمكن تجاوزها إلا بروح جامعة، تتعامل مع الخلاف
المذهبي بوصفه تنوّعًا تاريخيًا، لا ذريعة للتمزق وإعادة إنتاج التبعية.
الجذور البعيدة والتحوّلات العميقة
من بين كل التحوّلات السياسية الكبرى في القرن العشرين، تظل الثورة الإسلامية
في إيران (1979) لحظة استثنائية، ليس فقط لأنها أطاحت بأقوى نظام حليف للغرب في المنطقة،
بل لأنها دشّنت أول تجربة توليف غير مسبوقة بين الدين والدولة في العصر الحديث، خارج
نطاق النموذج السني التقليدي أو التركي العلماني.
الخميني لم يكن مفكرًا بمعنى علي شريعتي أو باقر الصدر، لكنه كان صاحب رؤية ثورية واقعية، قاد الثورة من باريس، واستثمر المشاعر الشعبية، وحوّل الفكر الشيعي إلى دولة قائمة تستند إلى جهاز دستوري، ومجلس خبراء، وحرس ثوري، وشبكة مؤسسات دينية واقتصادية قوية.
لكن هذه الثورة لم تكن انبعاثًا عابرًا، بل حصيلة تراكم طويل من التحولات
التاريخية والثقافية والدينية والسياسية. ومن الخطأ اختزالها في شخصية الإمام الخميني
أو ظرفية سقوط الشاه، إذ لا يمكن فهم الثورة الإيرانية إلا في ضوء ثلاثة مستويات متداخلة:
أولاً ـ الجذور التاريخية للوعي الشيعي ـ الثوري
منذ موقعة كربلاء، تشكّل في الوعي الشيعي تصور مغاير للسلطة والشرعية،
يقوم على المظلومية، ورفض "السلطة الغاصبة"، والانتظار المخلّص للمهدي. لكن،
هذا الوعي لم يكن ساكنًا. فمع مرور الزمن، بدأت تظهر تيارات في الحوزة الشيعية تعيد
التفكير في علاقة الدين بالسياسة.
وقد شهد القرن العشرون تحولات فارقة في هذا السياق، أبرزها:ثورة الدستور (1905-1911) في إيران، حيث انقسم علماء الشيعة بين مؤيد
للملكية الدستورية ومعارض لها، ما فتح الباب أمام سؤال:هل يمكن لرجال الدين أن يتدخلوا في الشأن السياسي؟
صعود نظرية "ولاية الفقيه" مع الخميني، وتحوّلها من مفهوم فقهي
محصور في إدارة شؤون اليتامى والغائبين، إلى نظرية دولة وقيادة سياسية، تُضفي على الفقيه
ولاية مطلقة زمن غيبة الإمام المعصوم.
ثانيًا ـ الفكر الديني الثوري بين النجف وقم وباريس
في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، كان الفكر الديني في إيران والعراق
يعيش لحظة زخم: برز علي شريعتي كمفكر مثقّف، مزج بين الإسلام والاشتراكية والوجودية،
وساهم في إعادة تفسير التشيّع كثورة اجتماعية ضد الظلم. بينما انشغل محمد باقر الصدر في العراق بتأسيس مشروع فكري إسلامي شمولي
(اقتصادنا ـ فلسفتنا)، يحاكي المدارس الماركسية والليبرالية.
أما الخميني، فقد كان يخطّ مشروعه بهدوء في النجف أوّلاً ثم باريس لاحقًا،
حيث كتب "الحكومة الإسلامية" الذي اعتبر البيان الأول للثورة الإسلامية.
في باريس، اكتسب الخميني لغة خطاب حديثة، وخاطب وسائل الإعلام العالمية،
وأدار شبكة تواصل نشطة مع المعارضة الإيرانية، مستفيدًا من الهامش الديمقراطي الغربي
لتصدير مشروع سلطوي ديني إلى الداخل الإيراني.
ثالثًا ـ النظام الشاهنشاهي ونهاية الشرعية الإمبراطورية
كان نظام الشاه (محمد رضا بهلوي) يتباهى بكونه واجهة الحداثة الغربية
في الشرق الأوسط: مشاريع بنية تحتية ضخمة، احتفال فخم بمرور 2500 سنة على الإمبراطورية
الفارسية، تحالفات استراتيجية مع واشنطن وتل أبيب. لكنه كان في الوقت نفسه: قمعيًا داخليًا (شرطة السافاك، تقييد الحريات)،
مستلبًا ثقافيًا (سياسات التغريب العنيف)، معاديًا للهوية الدينية (قمع الحوزات، إهمال
الشعائر).
في ظل هذا الاستلاب، باتت الحوزة الدينية والمثقفون الإسلاميون (من شريعتي
إلى الخميني) بمثابة الملاذ الرمزي للهوية الإيرانية الأصيلة، وبدأت الثورة تنضج كرد
فعل اجتماعي/ديني على التهميش السياسي والتغريب القسري.
بين الثورة والدولة ـ التحول الكبير
عندما سقط الشاه، لم يكن البديل جاهزًا فقط، بل كان مؤطَّرًا نظريًا وعقائديًا.
وبسرعة، تحولت الثورة إلى دولة، وتحوّل الفقيه إلى "ولي فقيه مطلق الصلاحية"،
وتحوّل الشعب إلى "أمة تحت ولاية"، ما خلق واحدة من أندر التجارب في العصر
الحديث: دولة دينية بثوب جمهوري، تقوم على انتخابات وإعلام وصناديق، لكنها تخضع في
النهاية لشرعية دينية عليا لا تُساءل.
ثلاثية الثورة.. بين الفكر والنظرية والممارسة
شريعتي ـ الصدر ـ الخميني
1 ـ علي شريعتي (1933 ـ 1977): المثقف الثوري وبعث التشيع الرسالي
يعد علي شريعتي أحد أبرز المفكرين الإصلاحيين الإيرانيين، وصاحب مشروع
تجديدي حاول فيه دمج الوعي الإسلامي بالتحليل الاجتماعي الماركسي، والرؤية الوجودية
للإنسان. لم يكن رجل دين، بل مفكرًا وأكاديميًا تلقّى تعليمه في باريس، وهناك تأثر
بأفكار فرانتز فانون وجان بول سارتر، واستلهم من التجربة الجزائرية مقاومة الاحتلال.
أبرز أطروحاته:
التشيّع العلوي مقابل التشيّع الصفوي: فرّق شريعتي بين التشيع الثوري
الذي مثّله الإمام علي والحسين، وبين التشيع السلطوي الذي نما في ظل الدولة الصفوية،
واعتبر أن الخلاص يكمن في إحياء التشيع الأول كقوة تحرر اجتماعي.
الدين كحركة لا كمؤسسة:
نقد الإسلام الرسمي ورجال الدين التقليديين، ورأى أن الدين الثوري لا
يمكن أن يكون خاضعًا لسلطة أو دولة، بل يجب أن يكون في مواجهة الظلم والاستغلال.
الإنسان ـ المسؤول ـ الشهيد:
أعاد تعريف الإنسان المسلم بوصفه مشروعًا حرًا، واعيًا، مسؤولًا، يقف
ضد الطغيان، ويجعل من الشهادة ـ لا السلطة أو النجاة الفردية ـ ذروة الوعي التاريخي.
أثره:
كان شريعتي محبوبًا بين الطلبة والمثقفين، وكتبه مثل النباهة والاستحمار
وعودة إلى الذات ألهمت الآلاف. لكنه توفي في ظروف غامضة في لندن عام 1977، قبل الثورة
بعامين، ليبقى صوته صرخة روحية فكرية هزّت عمق المؤسسة الدينية والسياسية.
2 ـ محمد باقر الصدر (1935 ـ 1980): المنظّر الإسلامي الشامل
في النجف، وفي مواجهة التيارات الشيوعية والقومية، بزغ نجم محمد باقر
الصدر، أحد أهم فقهاء ومفكري القرن العشرين. كان الصدر مرجعية دينية وفكرية، جمع بين
الفقه العميق والرؤية الفكرية الحداثية، وسعى لتقديم مشروع إسلامي كامل بديل عن الرأسمالية
والاشتراكية.
لقد كانت الثورة الإسلامية في إيران، بكل ما حملته من جدل سياسي وفكري وعقائدي، لحظة مفصلية في التاريخ الحديث للإسلام السياسي. فهي أعادت الاعتبار لقوة الدين في المجال العام، وأطلقت نموذجًا غير مسبوق في الجمع بين العقيدة والدولة.
أبرز أطروحاته:
"اقتصادنا" و"فلسفتنا":
وضع فيهما أسس نظرية اقتصادية إسلامية مستقلة تقوم على مبدأ "العدل
الإلهي" والتكافل، وتفنيد النظامين الشيوعي والرأسمالي، مقدمًا تصوّرًا نظريًا
دقيقًا للاقتصاد الإسلامي.
نظرية المعرفة الإسلامية:
دعا إلى أسلمة المعرفة من خلال الجمع بين العقل والنص، وتجاوز الجمود
الفقهي لصالح التفكير المنهجي.
الدولة العادلة:
لم يطرح ولاية الفقيه كمبدأ سياسي، بل كان أقرب إلى تصور "مرجعية
الأمة" التي يقودها الفقيه من موقع أخلاقي وروحي، لا إداري تنفيذي.
نهايته:
عارض نظام صدام حسين بشدة، وساند الثورة الإيرانية معنويًا، لكن لم يلتحق
بها سياسيًا. أعدمه النظام العراقي عام 1980 بطريقة بشعة، تاركًا تراثًا فكريًا ضخمًا،
جعله الوجه الأهم للتشيع العراقي في مقابل الخمينية الإيرانية.
3 ـ روح الله الخميني (1902 ـ 1989): الفقيه السياسي وباني الدولة
بعيدًا عن التنظير الاجتماعي والثقافي، كان الخميني رجل فعل سياسي بامتياز.
بدأ حياته فقيهًا تقليديًا، ثم تحوّل إلى قائد ثوري، ومؤسس أول نظام سياسي قائم على
ولاية الفقيه المطلقة.
أبرز أطروحاته:
"الحكومة الإسلامية"
(1970):
في هذا الكتيب الصغير الذي ألقاه في دروسه في النجف، أعلن أن إقامة الدولة
الإسلامية واجب شرعي زمن غيبة الإمام المهدي، وأن الفقيه العادل يمتلك شرعية تماثل
المعصوم في إدارة شؤون الأمة.
ولاية الفقيه المطلقة:
طور مفهومًا غير مسبوق يمنح الفقيه صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية،
بل يجعله فوق الدستور، باعتباره ممثلًا للإمام الغائب.
الدولة الإسلامية لا الثيوقراطية:
كان يصرّ على أن الجمهورية الإسلامية ليست دولة رجال دين، بل "دولة
الشعب تحت راية الإسلام"، لكنها فعليًا أعادت تركيز السلطة في يد القيادة الدينية
العليا.
المشروع السياسي:
الخميني لم يكن مفكرًا بمعنى علي شريعتي أو باقر الصدر، لكنه كان صاحب
رؤية ثورية واقعية، قاد الثورة من باريس، واستثمر المشاعر الشعبية، وحوّل الفكر الشيعي
إلى دولة قائمة تستند إلى جهاز دستوري، ومجلس خبراء، وحرس ثوري، وشبكة مؤسسات دينية
واقتصادية قوية.
لقد كانت الثورة الإسلامية في إيران، بكل ما حملته من جدل سياسي وفكري
وعقائدي، لحظة مفصلية في التاريخ الحديث للإسلام السياسي. فهي أعادت الاعتبار لقوة
الدين في المجال العام، وأطلقت نموذجًا غير مسبوق في الجمع بين العقيدة والدولة. لكن
الأهم في سياقها العربي والإسلامي، أنها افتتحت عهدها بخطوة رمزية كبرى ظلّت حاضرة
في الذاكرة الجماعية حتى اليوم: إغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران وتسليمها إلى منظمة
التحرير الفلسطينية لتكون أول سفارة لفلسطين على أرض إيران.
لقد شكّل هذا الموقف المبكّر إعلانًا واضحًا بأن فلسطين ستظل في قلب المشروع
الإيراني الجديد، وأن الثورة ليست حدثًا داخليًا محضًا، بل جزءًا من صراع أوسع ضد الاستعمار
والهيمنة والاحتلال. ورغم ما اعترى التجربة من تحولات وصراعات إقليمية لاحقة، فإن هذه
الخطوة الأولى ترمز إلى البعد الأصيل الذي ربط بين الثورة الإيرانية وقضية الأمة المركزية.
من هنا، فإن قراءة الثورة الإيرانية تتطلّب تجاوز الانقسامات المذهبية
والسياسية، والنظر إليها كأحد أهم محاولات القرن العشرين لإعادة صياغة موقع الإسلام
في العالم الحديث. ولعل استحضار موقفها من فلسطين يذكّرنا بأن معيار الحكم على أي مشروع
إسلامي أو عربي لا يكمن فقط في بنيته الداخلية، بل أيضًا في مدى انحيازه للقضايا الكبرى
التي تعبّر عن وجدان الأمة ووحدتها.
وهذا ما سنتابع تفاصيله في ما سيأتي من قول، من خلال الوقوف عند أهم المفكرين
الذين نظّروا للثورة الإيرانية وأسّسوا لها، وساهموا في بلورة ملامحها الفكرية والسياسية.