أفكَار

العدالة الاجتماعية كأداة للتحول.. رؤية "العدل والإحسان" للدولة والمجتمع المغربي

إن قراءة الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان، تفتح آفاقا واضحة لفهم العدالة ليس باعتبارها مبدأ أخلاقيا فحسب، بل كمشروع سياسي واجتماعي متكامل..
إن قراءة الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان، تفتح آفاقا واضحة لفهم العدالة ليس باعتبارها مبدأ أخلاقيا فحسب، بل كمشروع سياسي واجتماعي متكامل..
تعتبر العدالة قضية محورية في الفكر السياسي والاجتماعي لأي مجتمع يسعى إلى التنمية والاستقرار، فهي الرابط بين المبادئ الأخلاقية العليا ومتطلبات الحياة اليومية للمواطنين، وتتسم مسألة العدالة في السياق المغربي، بتحديات متعددة، تتعلق بالاختلالات المؤسساتية، والتفاوتات المجالية والاجتماعية، وغياب الشفافية والمساءلة.

في هذا الإطار، تقدم الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان  رؤية شاملة للعدالة، باعتبارها قيمة أخلاقية وجذرا دينيا وأفقا نضاليا، ينبني على مشاركة شعبية فعلية، ويترجم إلى سياسات مؤسساتية واقتصادية واجتماعية ملموسة، وتُعد الوثيقة بالنسبة للجماعة، تعبير تفصيلي إلى حد ما لمشروعها السياسي والاجتماعي، إذ تجمع بين المرجعية الإسلامية للفكر الأخلاقي والسياسي، وبين مقاربة حديثة لإرساء دولة الحق والقانون والمؤسسات، مع التركيز على التداول السلمي للسلطة والمساءلة، وضمان مشاركة المواطنين في صياغة السياسات العمومية .

تنطلق الوثيقة من فرضية أن العدالة ليست مطلبا نظريا أو فضيلة أخلاقية، بل أداة لتحول مجتمعي شامل، يربط بين البعد الأخلاقي والسياسي والتنموي، ويستجيب لإشكاليات الفقر، والتمييز المجالي والتفاوت الاجتماعي، والاستبداد المؤسساتي.

وبناء على ذلك، تطرح الدراسة مجموعة من الأسئلة يسعى المقال للإجابة عنها:

ـ كيف يمكن تأسيس مشروع سياسي وتنموي يحقق العدالة بمفهومها الشامل، ويضمن حقوق الإنسان والكرامة والمساواة بين المواطنين؟

ـ ما هي المحددات الأخلاقية والسياسية للعدالة في المغرب، وكيف ترتبط بالسياسات المؤسساتية والاجتماعية؟

ـ كيف يمكن ترجمة هذه المبادئ إلى سياسات وممارسات مؤسساتية ملموسة تضمن الإنصاف وتوازن توزيع الموارد؟

ـ ما الدور الذي تلعبه المشاركة الشعبية والحركات الاجتماعية في تعزيز العدالة وتحقيق التغيير المجتمعي المستدام؟

أولا ـ العدل والعدالة.. الأساس الأخلاقي والإطار المؤسساتي.

1 ـ الجذر الأخلاقي والديني لمفهوم العدل

يمثل العدل في الفكر الإسلامي القيمة المركزية التي تحدد العلاقات بين الأفراد والدولة، وبين الإنسان وخالقه. فهو لا يُنظر إليه كفضيلة مجردة، بل باعتباره مرجعية أخلاقية شاملة، تستند إليها الشرعية السياسية والاجتماعية، وتشكل الأساس الذي تقوم عليه كل الممارسات المؤسساتية والسياسات العامة، في هذا السياق، يؤكد الإمام عبد السلام ياسين:"العدل أم المصالح التي يقصد إليها الشرع، هو صُلب الدين، وحوله تُطيفُ همومُ المسلمين، وبه بعث الله الرسل والنبيئين، مبشرين ومنذرين".

تنطلق الوثيقة من فرضية أن العدالة ليست مطلبا نظريا أو فضيلة أخلاقية، بل أداة لتحول مجتمعي شامل، يربط بين البعد الأخلاقي والسياسي والتنموي، ويستجيب لإشكاليات الفقر، والتمييز المجالي والتفاوت الاجتماعي، والاستبداد المؤسساتي.
فالعدل ليس قاعدة أخلاقية فردية، بل هو مبدأ منظم للمعاملات الاجتماعية والسياسية، ويضبط علاقات القوة داخل الدولة والمجتمع، بحيث يضمن تحقق المصلحة العامة ويقي من مظاهر الظلم والتهميش التي قد تؤدي إلى الاضطراب الاجتماعي أو الانحراف عن المسار الأخلاقي والسياسي السليم.

على هذا الأساس، يُبرز المشروع السياسي لجماعة العدل والإحسان صلة العدل بالسياسات المؤسساتية والديمقراطية، معتبرا أن الشورى ليست ممارسة تقليدية، بل هي روح الحكم وفلسفته في الإسلام، وتمثل الضمانة العملية لتحقيق التداول السلمي للسلطة والتحصين ضد نزعات الاستبداد .

وبهذا المعنى، يُنظر إلى العدل على أنه حلقة وصل بين القيم الدينية العليا والآليات الديمقراطية الحديثة، بحيث يكتسب البعد الأخلاقي معنى عمليا ملموسا في تصميم المؤسسات، ووضع التشريعات، وتنظيم توزيع الموارد والسلطة. ويؤكد هذا المنظور أن غياب العدل الأخلاقي والسياسي يؤدي إلى التهميش الاجتماعي والفقر والتمرد، فيما يعزز وجوده الثقة في المؤسسات ويرسخ التماسك المجتمعي.

2 ـ العدالة.. من القيم الأخلاقية إلى الممارسة المؤسساتية

إن الانتقال من مفهوم العدل كقيمة أخلاقية وجذر ديني، إلى العدالة كإطار عملي ومؤسساتي، يتطلب بناء منظومة سياسية متكاملة قادرة على ترجمة المبادئ إلى سياسات ملموسة. فالعدل، حين يظل محصورا في البعد الأخلاقي، يفتقد إلى الأثر الاجتماعي والسياسي الفعلي، ويصبح مبدأ نظريا لا يغير من الواقع شيئا. لذلك، ترى جماعة العدل والإحسان أن تحقيق العدالة يمر عبر دولة الحق والقانون والمؤسسات، وسياسات اجتماعية واقتصادية مهيكلة، تهدف إلى حماية المال العام، وتوزيع الثروات بشكل عادل، وتجريم الإثراء غير المشروع، وتعزيز الحكامة، وتقوية الأجهزة الرقابية، وتمكين المواطنين من حقوقهم الأساسية، وضمان حد أدنى من العيش الكريم، تقول الوثيقة "لا يتحقق هذا العدل في منظور الجماعة إلا في ظل منظومة سياسية متكاملة على أساس دولة الحق والقانون والمؤسسات، ومن خلال سياسات اجتماعية واقتصادية تهدف إلى التوزيع العادل للثروات وحماية المال العام، وتجريم الإثراء غير المشروع، وتفعيل الحكامة الجيدة، وتقوية الأجهزة الرقابية داخل الدولة، وتمكين المواطنين جميعهم من الحقوق الأساسية، وما يتطلبه العيش الكريم" .

تتضح رؤية الجماعة هنا في ربط العدالة بحقوق الإنسان الأساسية، وبممارسات الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مما يجعلها عنصرا جوهريا في صون الكرامة الإنسانية وتحقيق التوازن المجتمعي. فالعدالة ليست رفاهية سياسية أو خدمة اجتماعية ظرفية، بل هي حق وواجب متجذر في طبيعة الدولة والمجتمع، كما تؤكد الوثيقة السياسية:"باعث الحق والواجب، وذلك باعتبار العدالة الاجتماعية حقا وواجبا، وليست خدمة اجتماعية ظرفية أو إحسانا عموميا".

العدل ليس قاعدة أخلاقية فردية، بل هو مبدأ منظم للمعاملات الاجتماعية والسياسية، ويضبط علاقات القوة داخل الدولة والمجتمع، بحيث يضمن تحقق المصلحة العامة ويقي من مظاهر الظلم والتهميش التي قد تؤدي إلى الاضطراب الاجتماعي أو الانحراف عن المسار الأخلاقي والسياسي السليم.
يشير هذا الطرح من منظور سوسيولوجيا السياسة، إلى أن العدالة تتطلب ترابطا جدليا بين المبادئ الأخلاقية والآليات المؤسساتية، بحيث لا يمكن تحقيقها إلا عبر ممارسات سياسية واقتصادية واضحة، تضمن توزيعا عادلا للموارد، وتوفيرا لفرص متكافئة للمواطنين، مع تعزيز دورهم الرقابي والمشارك في تحديد السياسات العمومية. وبهذا تصبح العدالة أداة استراتيجية لتحقيق التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي، وضمان مصداقية الدولة أمام المواطنين.

3 ـ التداول السلمي والمساءلة.. ركيزتا العدل السياسي واستقرار الحكم

يشكل التداول السلمي للسلطة والمساءلة ركيزة أساسية للعدل السياسي في مشروع جماعة العدل والإحسان، من أجل بناء دولة مدنية حديثة، قائمة على القانون والمؤسسات. فالدولة، من منظور الجماعة، ليست أداة لإدارة الموارد أو فرض السيطرة، بل فضاء لضمان حقوق المواطنين، وتحقيق العدالة، وممارسة المشاركة الشعبية الفعلية. ولهذا السبب، تؤكد الوثيقة السياسية على أهمية إقامة دولة مدنية منضبطة للتعاقد الدستوري المنبثق عن الإرادة الشعبية، مع فصل وتوازن السلطات، وضمان التداول السلمي للسلطة عبر مؤسسات ديمقراطية فاعلة .

يشير هذا الطرح من منظور سوسيولوجيا السياسة، إلى أن التداول السلمي ليس إجراء شكليا، بل عنصرا محوريا في تثبيت شرعية الدولة ومصداقية مؤسساتها، كما أنه يتيح للمواطنين ممارسة حقوقهم والمشاركة في صنع القرار، مع ربط المسؤولين بالمحاسبة والمساءلة بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية أو السياسية. هكذا، تتحقق العدالة بشكل متكامل حين تتظافر القيم الأخلاقية للعدل مع الآليات المؤسساتية للمساءلة والشفافية، مما يحد من الاستبداد ويعزز الثقة بين الدولة والمجتمع.

ثانيا ـ نقد الواقع الاجتماعي والسياسي وإنتاج التفاوت

1 ـ ضعف التشريعات وأثرها على العدالة

تمثل التشريعات العمود الفقري لأي نظام سياسي يطمح إلى تحقيق العدالة، سواء كانت اقتصادية، اجتماعية، أو قضائية، غير أن الوثيقة السياسية تشير بوضوح إلى أن ضعف بعض التشريعات أو عدم توافقها مع الدستور يؤدي إلى تعميق الفوارق الاجتماعية ويهدد الاستقرار المجتمعي .

يعكس هذا الوضع غياب الرقابة المؤسساتية الفاعلة على صياغة التشريعات وارتباطها بالمصالح الخاصة لفئات محددة. فالبرلمان، الذي يفترض أن يكون ممثلا للشعب ومنظما للعدل، قد يتحول إلى أداة لتكريس الريع والفوارق، ما يخلق فجوة بين المبادئ الدستورية والأداء التشريعي الفعلي.

إن هذا الضعف التشريعي لا يقتصر أثره على التوازن الاجتماعي فحسب، بل يحد أيضا من قدرة الدولة على تنفيذ سياسات العدالة الاجتماعية بشكل فعال، ويزيد من شعور المواطنين بالغبن والاستبعاد، مما يفضي إلى تآكل الثقة في المؤسسات وارتفاع مخاطر الاحتجاج الاجتماعي. وبذلك، يصبح الإصلاح القانوني ضرورة استراتيجية لإعادة ربط العدالة الاجتماعية بالممارسة المؤسساتية وتحقيق توازن حقيقي بين الحقوق والواجبات.

2 ـ الهيمنة السياسية وأثرها على القضاء

تشير الوثيقة السياسية للجماعة إلى أن التحدي الأساسي أمام تحقيق العدالة في المغرب ليس مجرد قصور تشريعي أو إداري، بل يتعلق بالهيمنة السياسية وطابع النظام الأمني، وما ينتج عنه من تحكم مركزي في مختلف السلط، بما فيها السلطة القضائية .

إن هذا الوضع يعكس سيطرة البنية السياسية على مؤسسات العدالة، ما يحد من استقلال القضاء ويضعف فعاليته في حماية حقوق المواطنين وضمان إنصافهم، فغياب استقلالية القضاء لا يؤدي فقط إلى استمرار الفساد والتفاوت، بل يقوض شرعية الدولة ومصداقية مؤسساتها، ويحول دون تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية على أرض الواقع.

ولذلك، يصبح تعزيز استقلالية القضاء وحماية السلطات الرقابية من النفوذ السياسي أولوية استراتيجية، لضمان تحول المبادئ الأخلاقية للعدالة إلى واقع مؤسساتي ملموس، بما يحقق التوازن بين السلطة وحقوق المواطنين، ويضمن احترام القانون ومبادئ حكم الدولة.

3 ـ الفوارق المجالية والاجتماعية

يؤكد المشروع السياسي للجماعة أن حماية كرامة الإنسان وتحقيق العيش الكريم مرتبطان ارتباطا مباشرا بإرساء سياسات واضحة للعدالة الاجتماعية، وتعتبر الوثيقة أن التفاوتات المجالية والاجتماعية تمثل مؤشرا طبيعيا موجودا في كل المجتمعات، إلا أن الخطر يظهر عندما تتحول هذه التفاوتات إلى فوارق صارخة ومؤسسية، ما يعكس أزمة بنيوية حقيقية في غياب العدالة والإنصاف، يعني ذلك أن غياب العدالة المجالية والاجتماعية لا يؤدي فقط إلى تفاقم الفوارق بين الجهات والمناطق، بل يضعف التماسك الاجتماعي ويزيد من هشاشة الفئات الضعيفة، كما أن استمرار هذه الفوارق يشير إلى قصور السياسات العمومية في توزيع الموارد والبنيات التحتية، ويكرس الجمود الاجتماعي والمجالي، مما يقوض فعالية التنمية ويحد من فرص المشاركة الشعبية في العملية التنموية.

ولهذا، تعتبر إعادة توزيع الموارد وتحقيق العدالة المجالية والاجتماعية، هدفا مركزيا لأي مشروع سياسي، يسعى إلى التنمية المستدامة، وهي شرط أساسي لضمان الاستقرار الاجتماعي وتمكين المواطنين من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية.

ثالثا ـ المشروع البديل.. عدالة اجتماعية تبني تنمية دائمة

1 ـ نظام سياسي يحمي حقوق المواطنين

ترى الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان أن أي مشروع للتنمية أو العدالة الاجتماعية، يظل رهينا بوجود نظام سياسي يضمن حقوق المواطنين وحرياتهم، فغياب الديمقراطية وتحكم السلطوية في المجال العام يجعلان التنمية مجرد شعار فارغ، لذلك تشدد الوثيقة على أن المدخل الأساس هو بناء نظام ديمقراطي يؤسس لكرامة الإنسان ويجعله منطلقا وغاية لأي تغيير أو إصلاح، انسجاما مع التكريم الإلهي الذي خُص به الإنسان.

كما تعتبر أن الفساد المستشري في مؤسسات الدولة ليس عارضا ولا خللا إداريا، بل هو نتاج بنية سياسية سلطوية تعيد إنتاج الريع والامتيازات، ومن ثم فإن القطع مع الفساد لا يكون إلا بقطع مع الاستبداد نفسه، عبر إقامة نظام ديمقراطي قائم على المشاركة الشعبية والمحاسبة والشفافية .

تصبح الديمقراطية بهذا المعنى عند الجماعة ليس باعتبارها آلية انتخابية شكلية، بل منظومة قيمية ومؤسساتية، تحمي الإنصاف وتضمن الكرامة، وتمنع تحول السلطة إلى أداة للهيمنة. لأنها الشرط الأولي لإرساء العدالة الاجتماعية وتحقيق تنمية دائمة، حيث يتكامل السياسي بالاجتماعي في رؤية شمولية لإصلاح الدولة والمجتمع معا.

2 ـ العدالة الاجتماعية مدخل للتحرر والتنمية

تمثل العدالة الاجتماعية في تصور جماعة العدل والإحسان حجر الزاوية لأي مشروع تنموي وسياسي مستدام، إذ ترتكز على قاعدة مفادها أن بناء دولة العدل والكرامة والحرية، لا يمكن أن يتحقق إلا عبر إحداث قطيعة فعلية مع الاستبداد، وتوفير شروط وآليات جديدة تكفل حرية الاختلاف، وتمكن جميع المواطنين من العيش في إطار دولة واحدة تحكم بدستور ديمقراطي، وتنظم الحياة العامة على أسس لامركزية عادلة ومتكافئة تكرس المساواة وتضمن الحقوق والحريات الأساسية للجميع . وتؤكد الوثيقة أن العدالة الاجتماعية ليست خدمة ظرفية أو إحسانا عموميا، بل هي حق وواجب مترابط مع مسؤولية الدولة والمجتمع، وهو ما يجعلها معيارا للتقييم الأخلاقي والسياسي لممارسات الحكم، ومرتكزا لتقويم السياسات الاقتصادية والاجتماعية بما يحقق الإنصاف والتكافؤ بين المواطنين.

يؤكد المشروع السياسي للجماعة أن حماية كرامة الإنسان وتحقيق العيش الكريم مرتبطان ارتباطا مباشرا بإرساء سياسات واضحة للعدالة الاجتماعية، وتعتبر الوثيقة أن التفاوتات المجالية والاجتماعية تمثل مؤشرا طبيعيا موجودا في كل المجتمعات، إلا أن الخطر يظهر عندما تتحول هذه التفاوتات إلى فوارق صارخة ومؤسسية، ما يعكس أزمة بنيوية حقيقية في غياب العدالة والإنصاف
وعلاوة على ذلك، ترتبط العدالة الاجتماعية بالبعد التنموي، فهي شرط وغاية في الوقت نفسه، إذ تعمل على ضمان الكرامة الإنسانية، وتعزز الحرية ضمن نموذج حضاري يحمي الهوية المجتمعية ويحافظ على الترابط الاجتماعي، ما يجعلها أداة فاعلة للتقليل من الفوارق المجالية والاجتماعية، ومنع انحرافها نحو مظاهر الظلم والتهميش . وفي منظور عملي مؤسساتي، تقترح الوثيقة إرساء نظام ضريبي عادل وفعال ومحفز، يلتزم بمبدأ المساهمة وفق القدرة، ليكون أداة تمويل مستدامة للسياسات العمومية التي تحقق العدالة الاجتماعية، وتضمن توزيع الموارد المالية والخدمات الأساسية بشكل متوازن بين مختلف الفئات والمناطق، مما يعزز ثقة المواطنين في الدولة ويؤسس لمجتمع متماسك ومستدام .

3 ـ عدالة مجالية لتنمية محلية عادلة

تضع الجماعة العدالة المجالية في صلب رؤيتها التنموية، باعتبارها مدخلا أساسيا لتحقيق التنمية الشاملة والعادلة، فهي تؤكد على ضرورة الفصل التام بين التنمية المحلية والاعتبارات الأمنية الضبطية، وذلك عبر إحداث وزارة مستقلة عن وزارة الداخلية تعنى بالجهات والجماعات الترابية وتؤسس لعلاقة جديدة بين الدولة والمجتمع المحلي تقوم على الثقة والنجاعة . وترى أن أي مشروع للتنمية لا يمكن أن يكون ناجعا إلا إذا استحضر الخصوصيات المجالية والبيئية للجهات والمناطق، واستجاب لتطلعات المواطنين في استدامة التنمية، من خلال الحفاظ على الموارد الطبيعية، وتوجيه الاستثمار العمومي نحو البنيات التحتية الأساسية بشكل متوازن ومرشد، مع السعي إلى تشجيع التكامل الاقتصادي بين المجال الحضري والعالم القروي.

وفي السياق نفسه، تعتبر الجماعة أن تعزيز العدالة المجالية يقتضي فك العزلة عن القرى والبوادي عبر تحسين شبكة الطرق الجهوية والإقليمية وضمان حد أدنى من الخدمات الأساسية، بما يضمن مشاركة الجميع في ثمار التنمية الوطنية دون تمييز أو إقصاء . ومن ثم، فإن العدالة المجالية في منظورها ليست مطلبا تنمويا تقنيا، بل هي ركيزة سياسية واجتماعية لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، ولمواجهة التفاوتات البنيوية التي راكمها منطق التهميش والتمييز الترابي لعقود.

4 ـ الصحة والخدمات الاجتماعية.. ركائز العدالة والكرامة

تعتبر الصحة والخدمات الاجتماعية من الركائز الأساسية للعدالة الاجتماعية، إذ أنها تمثل مقياسا حقيقيا لقدرة الدولة على حماية حقوق المواطنين وتمكينهم من العيش الكريم، وترى الجماعة أن تحقيق العدالة الصحية يتطلب مراعاة البعد المجالي وضمان المساواة في النفاذ إلى الخدمات، عبر مراجعة الخريطة الصحية الوطنية لتوزيع الموارد البشرية والمرافق والتجهيزات الطبية بشكل متوازن بين مختلف الجهات والمناطق، كما تؤكد من خلال وثيقتها السياسية على ضرورة تطوير المنظومة الصحية الجهوية لضمان تقديم خدمة القرب الصحي المتكاملة، تشمل البنيات، الأطر، التجهيزات، والتخصصات، بما يضمن تلبية احتياجات المواطنين بشكل متكافئ .

وتؤكد هذه المقاربة أن الصحة ليست خدمة فردية، بل هي مكون أساسي للعدالة المجالية والتنمية الشاملة، ومرآة لانضباط الدولة في تطبيق سياسات اجتماعية عادلة تحمي المواطن وتعزز كرامته.

5 ـ العدالة الاجتماعية امتداد للعدالة الدولية والحوار بين الشعوب

لا يمكن تحقيق العدالة في السياق الوطني من وجهة نظر الجماعة فحسب، بل يمتد إلى الفضاء الدولي حيث تتفاعل الدول والمجتمعات فيما بينها وفق مبادئ ومصالح مشتركة، ومن هذا المنطلق، تشدد الوثيقة على تطوير وتفعيل الحضور المغربي في المنظمات الدولية بما يخدم الأمن والسلم والاستقرار، ويعزز التفاهم بين الشعوب ويغلب لغة الحوار وترجيح بناء المصالح المشتركة في حل الأزمات والنزاعات الدولية .

ترتبط هذه الرؤية بالبعد القيمي والسياسي للمشروع، إذ يرى أن العدالة الدولية هي امتداد للعدالة الاجتماعية الوطنية، وأن الالتزام بمبادئ السلم والاستقرار العالمي يعكس التزام الدولة بحقوق الإنسان والتعايش السلمي، ويؤسس لشراكات دولية قائمة على المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل.

كما يُبرز هذا التصور أن العمل الدولي المدروس والمستمر، يساهم في حماية الهوية الوطنية، ويضمن تكافؤ الفرص بين الدول والمجتمعات، ويحول دون الهيمنة أو الاستغلال، ويرسخ ثقافة التعاون والنزاهة على الصعيد العالمي.

رابعا ـ العدالة من مطلب اجتماعي إلى مشروع للتحول المجتمعي

تعتبر جماعة العدل والإحسان أن العدالة ليست قيمة أخلاقية أو مطلبا سياسيا محدودا، بل تتعدى ذلك لبناء أفق نضالي واسع، يؤطر الفعل الجماعي ويقود مسار التحول المجتمعي، انطلاقا من قاعدة المجتمع وصولا إلى إعادة بناء البنى السياسية والاقتصادية على أسس عادلة ومنصفة، وفي هذا الإطار، تؤكد الوثيقة أنه: "لا تتأتى دولة المجتمع بهذه الخصائص في ظل مجتمع ضعيف تنخره عوامل التفكيك والتهميش، وتترسخ فيه آليات التجهيل، مع ما يصاحب ذلك من استقالة من الشأن العام وضعف لرقابة الشعب على مؤسسات الدولة التي تمثله" .

1 ـ دعم الحركات الاجتماعية كأداة للتعبئة الشعبية

تعتبر الجماعة الحركات الاجتماعية فضاء أساسيا للتعبير عن المطالب الشعبية، وتقوية الضغط على السلطة، وتعزيز وعي المجتمع بقوته الاجتماعية وإمكاناته السياسية في الرقابة والضغط، ينسجم هذا التوجه مع مقاربة تشارلز تلي (Charles Tilly) للحركات الاجتماعية باعتبارها "مصانع للتغيير" التي تعيد توزيع السلطة، وأدوارها في تشكيل الهوية السياسية وبناء التحالفات الاجتماعية.

2 ـ استراتيجية "التحرر من الأسفل" ومأسسة الوعي المجتمعي

تتبنى الجماعة استراتيجية تمكين الفئات الشعبية عبر التربية السياسية والتنظيم المحلي، حيث تعتبر أن التربية والتوعية شرطان أساسيان للتحرر والفعل الجماعي، وتسعى الجماعة من خلال هذه المأسسة إلى خلق ثقافة سياسية جديدة، تقوم على المشاركة الفعلية والاقتراح البناء والمسؤول، بما يهيئ الأرضية لتغيير جذري في بنية السلطة والسياسة، رغم صعوبة هذا الخيار وكلفته وطول مساره.

3 ـ نقد التغيير الشكلي والدعوة إلى عدالة شاملة

تنتقد الجماعة الإصلاحات المفروضة من أعلى باعتبارها ترقيعات لا تعالج جذور الأزمات الهيكلية، بل تحافظ على الهيمنة والاستئثار الطبقي، في هذا الصدد تدعو الوثيقة إلى:"ترسيخ الحكامة القضائية والعدالة الناجزة، وتقوية هيآت التقصي عن انتهاكات حقوق الإنسان والإبلاغ عنها بشراكة مع المجتمع المدني".

تضع الوثيقة السياسية تصورا استشرافيا للدولة والمجتمع المغربي، يقوم على العدالة باعتبارها إطارا أخلاقيا ومؤسساتيا، وعلى المشاركة الشعبية كرافعة للتحول المجتمعي، مما يمهد الطريق لمستقبل أكثر استقرارا وعدالة وازدهارا، يكون فيه المواطن محور السياسات وفاعلا في صياغة مستقبله.
وترى الجماعة أن العدالة الشاملة والمعارضة الفاعلة، لا تتحققان إلا عبر إعادة هيكلة شاملة للسلطة والمؤسسات، بما يقطع مع آليات الريع والاستئثار بالسلطة وجمع الثروة، ويؤسس لفضاء سياسي يسمح بالمشاركة الفعلية، والمساءلة، وتوزيع الموارد بشكل متوازن، بهذه الرؤية تتحول العدالة من قيمة أخلاقية إلى محرك للتحول الجذري، يربط البعد الأخلاقي بالبعد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويضمن تمكين المواطنين من ممارسة حقوقهم كاملة في إطار شرعية حقيقية.

خاتمة

إن قراءة الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان، تفتح آفاقا واضحة لفهم العدالة ليس باعتبارها مبدأ أخلاقيا فحسب، بل كمشروع سياسي واجتماعي متكامل، قادر على إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس من الشفافية، والمساءلة، والمشاركة الشعبية الفاعلة، فالعدالة تصبح أداة استراتيجية لتأسيس نظام سياسي ديمقراطي، يحمي الحقوق والحريات، ويكفل التوازن بين السلطات، ويعزز التنمية المستدامة على المستوى المجالي والاجتماعي.

تستشرف هذه الرؤية المستقبلية، أفقا واسعا تتحقق فيه الكرامة الإنسانية والتنمية الشاملة، عبر سياسات متدرجة، تبدأ من قاعدة المجتمع، وترتبط بالتحولات المؤسساتية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وصولا إلى الممارسات الدولية التي تحترم التعايش السلمي ومصالح الشعوب. من هذا المنطلق، تؤكد الجماعة أن أي إصلاح سياسي أو اجتماعي، لا يرتكز على مشاركة المواطنين وحركاتهم الجماعية، وعلى قطيعة حقيقية مع منطق الهيمنة والاستبداد، سيظل محدود الأثر وغير قادر على إحداث تغيير جذري.

هكذا، تضع الوثيقة السياسية تصورا استشرافيا للدولة والمجتمع المغربي، يقوم على العدالة باعتبارها إطارا أخلاقيا ومؤسساتيا، وعلى المشاركة الشعبية كرافعة للتحول المجتمعي، مما يمهد الطريق لمستقبل أكثر استقرارا وعدالة وازدهارا، يكون فيه المواطن محور السياسات وفاعلا في صياغة مستقبله.

*باحث في علم الاجتماع السياسي  ـ المغرب.
التعليقات (0)

خبر عاجل