أفكَار

اختبار الأمة العربية.. درس حرب الخليج الثانية في السيادة والمقاومة والنهضة

حرب الخليج الثانية لم تكن مجرد معركة على الكويت، بل لحظة حاسمة في انقلاب المفاهيم الكبرى: عن السيادة، والمقاومة، والاستقلال، وعن النهضة نفسها. (كونا)
حرب الخليج الثانية لم تكن مجرد معركة على الكويت، بل لحظة حاسمة في انقلاب المفاهيم الكبرى: عن السيادة، والمقاومة، والاستقلال، وعن النهضة نفسها. (كونا)
أواصل قراءة تشريح العقل العربي في تعاطيه مع المنعطفات التاريخية الكبرى، لا بحثًا عن وقائع الحرب بقدر ما هو تفكيك لبنية الوعي التي أنتجت العجز أمامها. فكل أزمة كبرى في التاريخ العربي تكشف أن جوهر المأزق ليس في الحدث ذاته، بل في طريقة تمثّله واستيعابه، وفي هشاشة العلاقة بين الفكرة والسلطة، بين المقاومة والنهضة، بين الدولة والأمة. من هذه الزاوية، تبدو حرب الخليج الثانية أكثر من مجرّد حرب عابرة؛ إنها مرآة عميقة لأزمة السيادة العربية، ولانكسار الحلم النهضوي حين يُختزل في شعارات تُدار من خارج التاريخ.

في اختبار الخليج تَكشّف وعيٌ عربيّ مأزوم، عاجز عن تحويل الصدمة إلى مشروع، وعن تحويل الخلاف إلى اختلاف منتج. وهكذا يصبح درس الحرب درسًا في العقل قبل أن يكون في الجغرافيا، وفي الفكر قبل أن يكون في السلاح.

كانت حرب الخليج الثانية، التي اندلعت إثر غزو العراق للكويت في أغسطس 1990، أكثر من مجرد صراع عسكري أو أزمة سياسية عابرة؛ فقد مثلت لحظة اختبار حاسمة للأمة العربية، كشفت هشاشة السيادة، عمق الانقسامات الداخلية، وعجز المشروع العربي عن تحقيق نهضة حقيقية قائمة على العدالة والاستقلال والتداول السلمي للسلطة.

في هذه الحرب، لم تتحدد المعركة بين دول فقط، بل امتدت إلى وعي الشعوب والمجتمعات العربية، بين من رأى في صدام رمزًا للمقاومة، ومن اعتبره معتديًا على دولة شقيقة. وسط هذه الانقسامات، دخلت القوى الإقليمية والدولية لتعيد رسم خرائط النفوذ، مؤسِّسةً لنظام شرق أوسطي جديد قائم على الهيمنة والتبعية، بينما ظل السؤال البنيوي عن النهضة مؤجلًا.

إن قراءة حرب الخليج الثانية بهذا المنظور ليست مجرد استعراض للتاريخ، بل نافذة على التحديات البنيوية المستمرة في العالم العربي: من ضعف السيادة إلى استغلال الانقسامات، ومن غياب التداول السلمي على السلطة إلى بقاء سؤال النهضة معلّقًا بين الشعوب وأنظمتها.

لحظة مفصلية

لم تكن حرب الخليج الثانية، التي اندلعت بعد غزو العراق للكويت في أغسطس 1990، مجرد أزمة سياسية عابرة أو خطأ تكتيكي في الحسابات الإقليمية؛ بل مثّلت لحظة مفصلية في التاريخ العربي المعاصر، كشفت عن عمق أزمة النظام الإقليمي العربي، وهشاشة السيادة، واستعصاء مشروع النهضة في بيئة مشبعة بالاستبداد، والانقسام، والتبعية.

لقد اندلعت هذه الحرب في نهاية عقد الثمانينات، الذي خرجت منه المنطقة منهكة من حرب استنزاف مدمرة بين العراق وإيران، ووسط نظام عربي أنهكته التناقضات المذهبية والمصالح القُطرية، ومشهد دولي كان يتحول جذريًا مع سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي. لكن، خلف هذه المعطيات الظرفية، كان هناك سؤال بنيوي غائر في قلب الجرح العربي: لماذا لم تنتج الدولة العربية الحديثة نموذجًا قادرًا على منع الصراع والانقسام دون اللجوء إلى العنف؟

لم تكن حرب الخليج الثانية، التي اندلعت بعد غزو العراق للكويت في أغسطس 1990، مجرد أزمة سياسية عابرة أو خطأ تكتيكي في الحسابات الإقليمية؛ بل مثّلت لحظة مفصلية في التاريخ العربي المعاصر، كشفت عن عمق أزمة النظام الإقليمي العربي، وهشاشة السيادة، واستعصاء مشروع النهضة في بيئة مشبعة بالاستبداد، والانقسام، والتبعية.
وفي العمق، فإن غزو العراق للكويت لم يكن سوى الوجه العسكري والسياسي لانفجار أعمق: انفجار أزمة المشروع العربي نفسه، بما يحمله من وعود الوحدة والتحرر والتنمية، وهي وعود تحطمت على صخرة الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية، وغياب التداول السلمي على السلطة، وتفكك البنية الفكرية القادرة على مواجهة التحديات.

لقد جاءت حرب الخليج الثانية إذًا لتعيد رسم الخرائط، لا بين الدول فقط، بل داخل الوعي العربي نفسه. ففي الوقت الذي رُفعت فيه شعارات "تحرير الكويت"، و"حماية الشرعية الدولية"، كانت الجيوش الأمريكية تدخل الخليج لأول مرة بهذا الحجم، وتُرسي قواعدها العسكرية في صميم الجغرافيا العربية، وتُعلن ـ بشكل ناعم لكنه واضح ـ أن زمن الاستقلال الوطني قد انتهى، وأن الهيمنة لن تعود استعمارًا مباشرًا، بل عبر أنظمة محلية، تعيش في خوف دائم من شعوبها، ومن جيرانها، ومن الحركات الإسلامية المتنامية.

ولعلّ الأخطر من كل ذلك، أن الحرب فتحت جرحًا في مفهوم "الأمة" نفسه، إذ انقسم العرب بين مؤيد لصدام باعتباره رمزًا للمقاومة (ولو مؤقتًا)، ومعارض له بوصفه معتديًا على دولة شقيقة. وبين الحالتين، غاب السؤال الجوهري: كيف تحوّل الخلاف السياسي إلى حرب، والاختلاف في المصالح إلى استدعاء للغزو الأجنبي؟

من هنا، فإن دراسة حرب الخليج الثانية ليست استعادة لحادثة عسكرية فحسب، بل هي نافذة على الانهيار البنيوي في البنية السياسية والفكرية العربية، وانكشاف فشل النخب، وعجز الحركات السياسية (إسلامية، قومية، ليبرالية) عن إنتاج بديل حقيقي يعيد ترتيب الأولويات حول هدف مشترك: النهضة، لا النفوذ؛ التحرر، لا الاستقواء؛ التداول السلمي على السلطة، لا التوريث أو الانقلابات.

في هذا السياق، تصبح حرب الخليج لحظة اختبار كبرى: اختبار لفكرة الدولة، والسيادة، والشرعية، والنهضة.. وهي لحظة لا تزال تداعياتها حاضرة حتى اليوم، في واقع خليجي مأزوم بالتبعية، وعراق ممزق بالاحتلال والطائفية، ومشرق عربي لم يتعافَ بعد من شرخ 1990.

العالم العربي والإسلامي أمام غزو الكويت.. انقسام الرؤية، وانكشاف المشروع

مثّل غزو العراق للكويت صيف عام 1990 أحد أشدّ الانقسامات السياسية والأخلاقية في تاريخ العالم العربي الحديث. فبدل أن تتوحد الأمة العربية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي أو الهيمنة الغربية، وجد العرب أنفسهم في مواجهة عسكرية داخلية، يستنجد فيها بعضهم بالغرب ضد بعضهم الآخر، وتتفكك فيها الروابط القومية والمذهبية لصالح الاصطفافات السياسية والأمنية.

1 ـ الانقسام العربي الحاد:

انقسم العالم العربي بحدة إلى معسكرين:

ـ معسكر مؤيد لصدام حسين: ضمّ عددًا من الحركات القومية واليسارية، وأطرافًا في الشارع العربي، وحتى بعض الإسلاميين الذين رأوا في موقف صدام ـ في ظاهره ـ مواجهة ضد الهيمنة الغربية والتفوق الأمريكي. هذا المعسكر رأى في غزو الكويت امتدادًا "طبيعيًا" لأزمة الحدود، وصراعًا على الموارد في ظل غياب رؤية عربية موحدة.

ـ معسكر معارض بشدة: ضمّ دول الخليج العربي (وعلى رأسها السعودية والكويت) ومعظم الأنظمة الملكية، بالإضافة إلى منظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية، التي نددت بالغزو واعتبرته اعتداءً على سيادة دولة عضو، مما شرّع ـ برأيهم ـ الاستعانة بالقوات الدولية لحماية الكويت واستعادة شرعيتها.

2 ـ الإسلاميون بين الحيرة والانقسام:

الحركات الإسلامية عمومًا، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، عاشت مأزقًا عميقًا:

ـ بعض فروع الإخوان (خصوصًا في الأردن وفلسطين) أيّدت العراق، انطلاقًا من موقف معادٍ للغرب، ومن دعمهم المبدئي لأي مشروع يُظهر مقاومة للهيمنة الأمريكية.

ـ في المقابل، أيّدت بعض التيارات السلفية ـ خاصة في السعودية والخليج ـ موقف دولهم ورفضت أي مظهر من مظاهر "العدوان"، معززة ذلك بخطاب ديني يربط "طاعة ولي الأمر" بـ"درء الفتنة"، وهو ما تم استغلاله لاحقًا لتبرير التواجد الأمريكي في جزيرة العرب.

ـ ظهرت لأول مرة بوادر انقسام داخل البيت السني بين من يتبنى خطاب "الطاعة السياسية" ولو بوجود الاحتلال، ومن يفضّل خطاب "الممانعة" ولو على حساب الإجماع الرسمي، وهو ما مهّد لاحقًا للظهور العلني لتنظيمات مثل "القاعدة".

3 ـ التداعيات الإقليمية:

ـ نهاية الحلم القومي: أُسدل الستار على الخطاب القومي الناصري، الذي فقد ما تبقى من مصداقيته، بعد أن تحوّلت المواجهة من "تحرير فلسطين" إلى "احتلال الكويت".

ـ تثبيت التبعية الخليجية للغرب: دخلت القوات الأمريكية بشكل دائم إلى الخليج، لا كقوة تدخل عابرة، بل كفاعل مركزي في الأمن والسياسة والاقتصاد، خصوصًا مع توقيع اتفاقيات دفاعية طويلة المدى.

ـ تصعيد الخطاب الطائفي: بدأت بذور الطائفية ـ التي ستنفجر لاحقًا في 2003 وما بعده ـ تُزرع بصمت في هذه المرحلة، من خلال خطاب "الدفاع عن السنّة" في وجه "المد الشيعي"، لا سيما مع تزايد التنسيق الإيراني مع الحركات الإسلامية غير السنية، مثل "حزب الله" و"الجهاد الإسلامي".

سؤال النهضة على هامش الحرب.. غائب أم مغيّب؟

كانت المفارقة الكبرى أن هذه الحرب لم تفتح بابًا لمراجعة جذرية للفكر السياسي العربي، بل أُغلقت المساحات أكثر، وتراجعت الحريات، واتّسع الشرخ بين الشعوب وأنظمتها:

تراجعت الآمال في إصلاح داخلي، إذ بررت الأنظمة مزيدًا من القبضة الأمنية تحت ذريعة "الخطر الخارجي".

استُنزف العقل العربي في نقاشات انفعالية، بين من يرى في صدام "صلاح الدين الجديد"، ومن يعتبره "هولاكو العصر"، دون مساءلة عمق الأزمة السياسية العربية.

تم إقصاء التداول السلمي للسلطة من جدول الأعمال كليًا، إذ برزت فكرة أن النظام القوي هو النظام الذي يتحالف مع القوى الكبرى، لا الذي يستمد شرعيته من شعبه.

الآثار الإقليمية والدولية لحرب الخليج الثانية.. تشكُّل شرق أوسط جديد

1 ـ إعادة تعريف السيادة في العالم العربي

بعد حرب الخليج الثانية (1990 ـ 1991)، برز مفهوم جديد للسيادة في المنطقة، لا يقوم على الاستقلال الكامل، بل على "السيادة المنقوصة"، القائمة على:

ـ الاستقواء بالحماية الدولية: إذ باتت العديد من دول الخليج ترى في الوجود الأمريكي ضمانة مباشرة لأمنها الوطني، ولم يعد الدفاع الذاتي شرطًا حتميًا لبقاء الدولة.

ـ تدويل الصراعات العربية: لم تعد الخلافات تُحلّ ضمن إطار عربي، بل في أروقة الأمم المتحدة أو تحت غطاء واشنطن، ما عمّق فقدان الثقة بالمنظومة العربية الجماعية، وخصوصًا الجامعة العربية.

2 ـ التحولات داخل الدولة القُطرية

ـ العراق خرج من الحرب مهزومًا، مثقلًا بالعقوبات، منهكًا اقتصاديًا، ومنهارًا معنويًا، وهو ما جعله مهيأً ـ لاحقًا ـ للغزو الأمريكي عام 2003، بحجج تتعلق بأسلحة الدمار الشامل والديمقراطية، لكنها في جوهرها كانت استكمالًا لتفكيك الدولة العراقية.

مثّل غزو العراق للكويت صيف عام 1990 أحد أشدّ الانقسامات السياسية والأخلاقية في تاريخ العالم العربي الحديث. فبدل أن تتوحد الأمة العربية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي أو الهيمنة الغربية، وجد العرب أنفسهم في مواجهة عسكرية داخلية، يستنجد فيها بعضهم بالغرب ضد بعضهم الآخر، وتتفكك فيها الروابط القومية والمذهبية لصالح الاصطفافات السياسية والأمنية.
ـ الكويت تحولت إلى "قاعدة استراتيجية"، أعيدت سيادتها بشروط، ورُبطت تمامًا بالمنظومة الأمنية الغربية، ما كرّس نموذج الدولة الصغيرة التابعة أمنيًا.

ـ السعودية شهدت ولادة التيار "الصحوي الجهادي"، بعد استياء بعض العلماء والدعاة من دخول القوات الأمريكية، وتواطؤ الدولة مع الوجود الأجنبي، مما مهّد الأرض لنشوء تنظيم القاعدة وتصدير خطاب العداء لأمريكا من داخل السعودية نفسها.

3 ـ صعود إيران بهدوء

في غمرة الانقسام العربي، ومأزق العراق، صعدت إيران كقوة إقليمية ذات مشروع طويل النفس:

ـ قدّمت نفسها بوصفها نموذجًا للممانعة في مقابل أنظمة عربية "مرتهنة"، مما زاد من شعبيتها في أوساط الشارع العربي، لا سيما مع تصاعد الخطاب الفلسطيني في طهران، واستمرار الدعم لحزب الله.

ـ استغلت انهيار العراق للتغلغل أكثر في الفضاء العربي (خصوصًا في سورية ولبنان لاحقًا)، ما مهّد لإعادة صياغة التوازنات الإقليمية لصالحها، في ظل تآكل الأنظمة التقليدية.

4 ـ التأسيس لنظام شرق أوسطي جديد

ـ بدأت تتبلور الرؤية الأمريكية ـ كما ظهرت لاحقًا مع إدارة جورج بوش الابن ـ لـ "شرق أوسط جديد"، تُعاد فيه صياغة الجغرافيا السياسية للمنطقة، على أسس طائفية ومذهبية، تُمكّن واشنطن من الهيمنة المباشرة وغير المباشرة.

ـ صار وجود القواعد العسكرية الأمريكية دائمًا، وتحوّل الخليج إلى مركز عمليات إقليمي للقوة الأمريكية، يُدار منه الأمن، وتُراقب منه حركات الشعوب.

من حرب الخليج إلى الانفجار الكبير

حرب الخليج الثانية لم تكن مجرد معركة على الكويت، بل لحظة حاسمة في انقلاب المفاهيم الكبرى: عن السيادة، والمقاومة، والاستقلال، وعن النهضة نفسها.

فقد اختزلت النهضة في "الاستقرار"، وغُيّبت أسئلة التعدد السياسي، والحريات، وتداول السلطة. كما انتعش المشروع الغربي في شكله الأمني، لا التنموي، وصارت الأنظمة العربية أكثر استعدادًا لشراء الحماية بدل بناء مشروع وطني جامع.

لكن تحت الرماد كان الغليان يتصاعد، وكان الانفجار العربي الكبير المؤجل يتشكل.. في النفوس، وفي وعي الجيل الجديد الذي سيشهد بعد أقل من عقدين، انطلاقة ربيع عربي، وإن كان مشوشًا، لكنه كشف عن تعطّش حقيقي للتغيير الجذري.

لقد أظهرت حرب الخليج الثانية، بتفاصيلها العسكرية والسياسية والفكرية المختلفة، أن غياب المثقف العربي لم يكن مجرد قصور في النقد أو التحليل، بل امتد إلى غياب فعلي في قيادة الأحداث والمشاركة في تحديد مستقبل الأمة. فبينما صاغت الأنظمة السياسية وأجندات القوى الخارجية مسار الحرب وما بعدها، ظل المثقف العربي خارج المعادلة الحقيقية، عاجزًا عن التأثير في رسم السياسات، حماية السيادة، أو طرح رؤية بديلة للنهضة.

وبالتالي، فإن درس هذه الحرب لا يقتصر على الهزائم العسكرية أو التحولات الإقليمية، بل يشير إلى ثغرة بنيوية في الفكر والسياسة العربية، حيث يتعين على المثقف أن يتحرك ليس فقط كمراقب، بل كشريك فاعل في صياغة المستقبل، لملء الفراغ الذي تركته الأنظمة والأجندات الخارجية، وضمان أن تكون النهضة العربية مشروعًا شعبيًا وجوهريًا، لا مجرد شعار يختفي خلف معارك النفوذ والسيطرة.
التعليقات (0)

خبر عاجل