أفكَار

العربية والإسلام.. وحدة الروح والبيان.. جدلية الدين واللغة في حفظ الهوية والرسالة

لو لم يكن القرآن هو حافظ اللغة العربية لتغيرت كثيرا عما هي عليه الآن، ولو فرضنا أن كتب التوراة أو الإنجيل أو القرآن أنزلت بلغات أخرى غير ما أنزلت به فعلا ) لوجدنا هذه اللغات مستعملة حتى يومنا هذا.
لو لم يكن القرآن هو حافظ اللغة العربية لتغيرت كثيرا عما هي عليه الآن، ولو فرضنا أن كتب التوراة أو الإنجيل أو القرآن أنزلت بلغات أخرى غير ما أنزلت به فعلا ) لوجدنا هذه اللغات مستعملة حتى يومنا هذا.
في هذا المقال الجديد الذي يكتبه خصيصاً لـ"عربي21"، يواصل الكاتب والباحث الجزائري الدكتور أحمد بن نعمان مشروعه الفكري الرصين في قراءة القضايا الكبرى للأمة من منظور حضاري متكامل، حيث يتناول هذه المرة العلاقة العضوية بين الإسلام واللغة العربية بوصفها علاقة وجود وهوية لا انفصال فيها بين الدين واللسان، بين الوحي وأداة تبليغه.

ينطلق الدكتور بن نعمان من رؤية فلسفية ولسانية تعتبر أن كل دين يرتكز في جوهره على لغة تعبّر عن قيمه وتنقل شعائره، غير أن خصوصية الإسلام تكمن في أن لغته – العربية – لم تكن مجرد وسيلة للتواصل، بل غدت وعاءً للوحي الإلهي ذاته، ومعجزة بيانية خالدة حفظت نفسها بحفظ القرآن. ومن هنا، يؤكد الباحث أن العربية ليست ملكاً للعرب وحدهم، بل هي لغة الأمة الإسلامية جمعاء، وأن استمرارها في الحياة واستعصاءها على محاولات التبسيط والتغريب إنما هو ثمرة ارتباطها بالقرآن وبالعبادة ذاتها.

ويبيّن الكاتب في هذا المقال أن الإسلام هو الذي أنقذ العربية من الاندثار كما أن العربية حفظت نقاء الإسلام ومعانيه الأصيلة، وأن العلاقة بينهما هي علاقة تفاعلية متبادلة لا يمكن فصلها دون المساس بجوهر الرسالة الإسلامية نفسها. ويرى أن كل محاولة للفصل بين "العروبة" و"الإسلام" إنما تستهدف ضرب وحدة الأمة الثقافية والدينية معاً، لأن اللغة هي الوعاء الحي للعقيدة، والدين هو الروح التي تبث الحياة في اللغة.

بهذا الطرح العميق، يقدم الدكتور أحمد بن نعمان قراءة فكرية لسانية تُعيد الاعتبار إلى العربية كلغة وحي ورسالة، وتؤكد أن الدفاع عنها ليس مسألة لغوية فحسب، بل واجب ديني وحضاري في آنٍ واحد.
العلاقة العضوية بين الإسلام واللغة العربية .


أولا ـ علاقة اللغات بالأديان عموما 

1 ـ إن الأديان مهما اختلفت أنواعها سماوية كانت أو وضعية هي عبارة عن مجموعة من القواعد الضابطة لسلوك الفرد مع نفسه ومع الجماعة البشرية التي ينتمي إليها، ومن حيث هي كذلك (أي الأديان) فهي تتطلب بالضرورة الاستعمال اللغوي في الدعوة لها وفي ممارسة طقوسها وشعائرها، بل في اعتناقها، كالتشهد في الإسلام مثلا (حيث يعتبر التلفظ بالشهادتين شرطا أساسيا للدخول في الإسلام).

2 ـ يؤثر الدين في اللغة ببعض الخصائص التي يتميز بها، ومن قدر الخصائص الرموز التي تحمل الدلالات، ولا توجد بنفس المعنى في غير النطاق الديني، ككلمة (أحد) التي ترمز إلى الوحدانية وكلمة (الخلود) و(الصّراط) و(الحساب والعقاب)... والرموز الحرفية مثل: (ألف لام ميم) و يا سين)، في القرآن الكريم

فهذا النظام الرمزي في لغة الدين له تأثير ظاهر في النظام اللغوي عموما حيث يُغيّر مدلول كلمات أو يضيف دلالات جديدة إلى اللغة السائدة.

إن الأديان مهما اختلفت أنواعها سماوية كانت أو وضعية هي عبارة عن مجموعة من القواعد الضابطة لسلوك الفرد مع نفسه ومع الجماعة البشرية التي ينتمي إليها، ومن حيث هي كذلك (أي الأديان) فهي تتطلب بالضرورة الاستعمال اللغوي في الدعوة لها وفي ممارسة طقوسها وشعائرها، بل في اعتناقها، كالتشهد في الإسلام مثلا (حيث يعتبر التلفظ بالشهادتين شرطا أساسيا للدخول في الإسلام).
من خصائص الدين أن يتعلق بمبادئ وقيم ثابتة، وبكائن علوي أبدي(الخالق) والاتصال بهذا الكائن العلوي الأبدي أو اتصال الكائن العلوي بالكائنات الدنيا يتم بوسيلة الاتصال التي هي اللغة، ومن ثم يكون الدين من أقوى الوسائل المحافظة على اللغة، ونجد ذلك واضحا في لغة الأدعية مثلا وأسلوب التضرع إلى الله ... الذي لا يكاد يتغير في جميع الديانات منذ ظهورها، مع أنه كلام بشر، ويجوز الاجتهاد في تغيير أسلوبه (نقصد الكلمات التي تصاغ بها الأدعية إلى الله، وليس كلام الله المقدس الذي لا يجوز تغييره، ومن الأمثلة البارزة على ذلك: اللغة العبرية التي زالت من التداول منذ أكثر من عشرين قرنا، ولكنها بقيت محفوظة كلغة خاصة بفضل علاقتها بأسفار التوراة التي ظل اليهود يحافظون عليها حيثما تشتتوا في أقطار العالم إلى أن فرضوا وطنا (قوميا) لهم في هذا القرن على حساب حقوق أهله الشرعيين (..) فوجدوا وسيلة الاتصال قائمة بين اليهود ـ على ضعفها ـفعملوا على تقويتها، وإثرائها بالمفردات العلمية لتساير العصر، وليجعلوا منها إحدى دعائم القومية اليهودية وإحدى وسائل الاتصال بين أشتات اليهود من سلالات البشر المختلفة، ويمكن القول بأن اللغة العبرية اللغة الوحيدة في العالم التي عادت إلى وضعها الصحي بعد جمود دام أكثر من عشرين قرنا ونفس الكلام يمكن أن يقال عن اللغة العربية، فلو لم يكن القرآن هو حافظ اللغة العربية لتغيرت كثيرا عما هي عليه الآن، ولو فرضنا أن كتب التوراة أو الإنجيل أو القرآن أنزلت بلغات أخرى غير ما أنزلت به فعلا ) لوجدنا هذه اللغات مستعملة حتى يومنا هذا .

وأقرب مثال إلينا في هذه الحالة هي اللغة القبطية في مصر، فعلى الرغم من زوال هذه اللغة تماما من التداول اليومي منذ عدة قرون فإننا نجدها باقية في الكنائس القبطية ومستعملة في الطقوس الكنائسية والأدعية والتراتيل، ويمكن ملاحظة هذا في الاحتفالات الرسمية بعيد الميلاد والقيامة في التليفزيون المصري كل سنة على المباشر !!.

ويكفي القول في موضوع المحافظة بأن الدين يتعلق بكائن أبدي (خالد). واللغة التي بلغ بها هذا الدين، أو اللغة التي تمارس بها طقوسه لا بد أن تكون بالضرورة باقية ما بقي هذا الدين قائما في المجتمع.

تفرض لغة الدين نفسها على معظم فئات المجتمع، لأن الدين يكون عادات وقيما وتقاليد في المجتمع لا يجد الفرد بدا من اتباعها - طوعا أو كرها ومن الأمثلة التي يظهر فيها فرض الدين للغة على الألسن ترديد الناس لبعض التعابير الدينية المختلفة. والملاحظ أن تلك التعابير تتردد على السنة أناس قد يجهرون بالحادهم.. فهم على كفرهم يذكرون الله إذ يقسمون بقولهم ( والله العظيم ) أو يترحمون على الأموات بقولهم (الله يرحمه) أو يردون على المتسولين بقولهم (الله يفتح، أو الله كريم) وذلك يصدر منهم لاشعوريا - بفعل ما للنظام الديني من قوة الجبر والإلزام الأفراد الجماعة على عدم الخروج عن بعض قواعده، وضوابطه العامة.

ويظهر تأثير الدين في اللغة في المناسبات المتعددة كالمواسم والأعيان وترديد الناس للمدائح الدينية بكيفية خاصة، ولغة خاصة، ومن أوجه هنا الارتباط بين الدين واللغة ما يظهر باستمرار من كتابات أدبية أو فلسفية أو فقهية أو علمية.. تكتب حول الدين شرحا أو نشرا أو دفاعا عنه.

5 ـ والملاحظ في هذا المثال الأخير أن للغة ـ أيضا ـ تأثيرا في نشر الدين بقدر ما للدين من دور في نشر اللغة والحفاظ عليها، فبالقدر الذي كان الدين دافعا للكتاب والفلاسفة والعلماء على التفكير وإنتاج الآثار الأدبية الرائعة دفاعا عنه ونشرا له، كانت اللغة وسيلة مؤثرة في الدين بوصفها أداة تبليغ للآخرين. وكلما كانت غنية في بلاغتها، وأجادت التعبير عن التعاليم التي يبشر بها الدين ساعدت على نشره وأرسخت مبادئه ورغبت فيه.. ولعل بلاغة القرآن وإعجازه البياني الذي يؤثر في النفوس الأوضح مثال على تأثير اللغة في نشر الدين.

ولا أدل على ذلك من أن القرآن المترجم لا يجد قارئه أي ذوق أو جاذبية أو أثر في نفسه أشبه بذلك الذي يستشعره المسلم من بلاغة المعنى وحلاوة التعبير وعذوبته عندما يقرأ القرآن باللغة العربية، ونخلص إلى الإقرار بوجود علاقة قوية بين الدين واللغة تتمثل في تأثير كل منهما في الآخر بمقادير متفاوتة. وبقدر ما يكون الدين منتشرا في المجتمع بقدر ما تكون علاقته باللغة اقوى تأثيرا وتأثرا، والعكس صحيح في بعض الأحيان

أي بقدر ما يبتعد أفراد المجتمع عن الدين تكون لغة هذا الدين ضعيفة في المجتمع، وأبرز مثال على ذلك ضعف اللغة اللاتينية وتقلصها في أوربا حينما بدأ نطاق الدين المسيحي يضيق مع بداية عصر التنوير" والثورة التكنولوجية، وهو ما اضطر رجال الدين المسيحي في السنوات الأخيرة إلى الافتاء بجواز إلقاء خطب الوعظ.. باللغات المحلية التي يفهمها الجمهور ترغيبا له في الدين، وفي هذه الحالة أيضا نجد أنفسنا أمام مثال واضح العلاقة اللغة بالدين حيث يعمد إليها كوسيلة لنشر الدين والتبشير به وترغيب الناس في تعاليمه . ويظهر ذلك جليا في الحملات التنصيرية التي ما انفكت تجوب أقطار العالم، وخاصة إفريقيا مبلغة تعاليم المسيح باللغات المحلية علما بأن هذا إن انطبق على الإسلام من حيث أسلوب الدعوة باللغات المحلية فإنه لا ينطبق عليه في تلاوة القرآن الكريم باللغات المحلية أو الدعاء، أو الصلاة، وهذا ما يجعل اللغة العربية أكثر ارتباطا بالإسلام من سائر الديانات  الأخرى،

ثانيا ـ علاقة اللغة العربية بالإسلام خصوصا:

فإذا كانت للغة علاقة تأثير بالدين السائد في المجتمع.. على النحو السابق ذكره بوجه عام... فإن للغة العربية علاقة خاصة بالدين الإسلامي تتميز بها عن علاقة سائر اللغات في العالم بدياناتها السماوية أو الوضعية ويعود السبب الأول في هذه العلاقة إلى نزول القرآن الكريم المعجزة البيانية الخالدة باللغة العربية، وما نجم عن ذلك من تقديس المسلمين لهذه اللغة كتقديسهم للقرآن. وتقديس المجتمع لشيء من الأشياء يتطلب بالضرورة فهمه والمحافظة عليه. وهكذا ارتبطت اللغة العربية ارتباطا قويا بالإسلام، لأنها مفتاح فهم العقيدة الدينية، ووسيلة المحافظة عليها ، ما بقي لهذه العقيدة معتنقون في المجتمع، وما كان للغة العربية أن تسود ولا أن تكتسح الأقطار المجاورة شرقا وغربا، وتنتشر فيها، وتؤثر في لغاتها، أو تحل محلها بالسرعة والكيفية التي عرفها صدر الإسلام، لو لم تكن هي لغة القرآن ولغة فهم الدين الجديد، فالإسلام كان دفعا جديدا لرقي اللغة العربية. وجاء هذا الدفع على يد القرآن نسقا جديدا في التعبير إلى جانب الشعر والنثر، وكان القرآن الرابط الأقوى بين اللغة والدين، فما يقوله القرآن يصبح هو القاعدة والمعيار، وهو الفيصل في الدين واللغة العربية معا، ولو تتبعنا اللغة العربية في العهد الإسلامي لوجدنا كتاباتها متأثرة في المبنى والمعنى بالقرآن الكريم ويليه الحديث النبوي الشريف، ومن أمثلة الكلمات والتعابير في اللغة العربية التي ترجع في أصلها إلى القرآن: (العروة الوثقى سنة الله، مثقال ذرة، أسوة حسنة المثل الأعلى، بكرة وأصيلا، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وإلى جانب القرآن يوجد الحديث الذي ترك آثاره على اللغة العربية أيضا.. ونتج عن حرص المسلمين على فهم القرآن والحديث أن اجتهدوا في وضع قواعد النحو والصرف الحماية القرآن من اللحن في قراءة العديد من آيات القرآن مثل ( إنما يخشى الله من عباده العلماء)، و (إن الله بريء من المشركين ورسوله)، و (إذ ابتلى إبراهيم ربه)، ولولا القواعد النحوية التي تمكن القارئ من قراءة مثل هذه الآيات بكيفية سليمة لوقع فيها تحريف كبير، كما يسر المسلمون قراءته بوضع النقط والحركات على الحروف، وتعمقوا في دراسة فقه اللغة لتفسيره، وفهم دلالته العميقة ووضعوا علوم البيان لمعرفة سر الإعجاز البياني في القرآن، وفي هذا المعنى يقول ابن خلدون في المقدمة ما نصه: أعلم أن ثمرة هذا الفن (أي البيان) إنما هو فهم إعجاز القرآن»، وكان للإسلام فضله على اللغة العربية في اشتراط التعبد بها، الأمر الذي جعل الملايين من الشعوب الإسلامية حتى غير العربية منها تحاول أن تتعلم اللغة العربية ولو بالقدر اليسير الذي يمكنها من قراءة الدعوات وبعض السور القصار من القرآن الكريم، وهذه الشعوب إن لم تكن تجيد اللغة العربية، فهي دائمة التشوق إليها من غيرها.

بالقدر الذي كان الدين دافعا للكتاب والفلاسفة والعلماء على التفكير وإنتاج الآثار الأدبية الرائعة دفاعا عنه ونشرا له، كانت اللغة وسيلة مؤثرة في الدين بوصفها أداة تبليغ للآخرين.
وهذه الرغبة في تعلمها، والتحدث بها، نلاحظها بكل وضوح لدى الشعوب الإسلامية في العالم. ففي الوقت الذي لا نجد للغة العربية أثرا يذكر في المجتمع الهندوسي مثلا نجدها اللغة الثانية في باكستان، ويوجد اتجاه قوي في هذا البلد لجعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية والوطنية بدلا من اللغة الانجليزية لو وجدوا المساعدة والتشجيع من العرب !! وقد كانت اللغة العربية في موريتانيا والصومال وجيبوتي وجزر القمر ... اللغة الثانية من حيث الاستعمال حتى قبل انضمام هذه البلدان إلى الجامعة العربية. فالإسلام إذن هو الذي أخرج العربية من جزيرتها لتنتشر في أقطار العالم العربي والإسلامي، وجعل عباقرة الشعوب الإسلامية، حتى غير العربية ينتجون الآثار الأدبية والفكرية الخالدة باللغة العربية في زمن قياسي)، وما كتب الرازي، وابن سينا، والفارابي، والغزالي، والبيروني، وسيبويه، والطبري والبخاري، وابن معطي، وابن مالك.. إلا أمثلة على ذلك .

فرغم الظروف المتاحة للحملات الصليبية المتعاقبة على العالم الإسلامي، ورغم كل ما بذله ويبذله هؤلاء الغزاة (إلى اليوم) من جهود مضنية للقضاء على لغة القرآن، فقد باؤوا بالفشل الذريع، وتحطمت كل مساعيهم على صخرته الصلبة، حيث بقيت لغة كلام الله (رغم انتشار اللهجات المحلية وتباينها أحيانا في العالم العربي) هي اللغة النموذجية الوحيدة التي تفرض نفسها فرضا على كل اللهجات العربية، والمعين الأقوى الذي أخذت ولا تزال تأخذ منه هذه اللهجات مفرداتها للتعبير عن المعاني الراقية في شتى مجالات الحياة.

ومن أقوى الأدلة على هذه العلاقة الربانية الحتمية بين الإسلام والعربية هو فشل كل المحاولات الظاهرة والباطنة داخل العالم العربي وخارجه، للقضاء على العربية بتغيير قواعدها باسم التبسيط) أو استبدال حروفها باسم التسهيل) أو إجراء أي تحويل في بنياتها باسم الإصلاح أو أي شعار آخر مستحدث لهذا الغرض. وذلك كله راجع إلى كونها لغة القرآن ليس إلا !

فقد حوربت من أعدائها لهذا السبب، وحوفظ عليها من أبنائي للسبب ذاته أيضا. أي لأنها لغة كلام الله، ولغة تأدية الشعائر الدينية.

ولعل هذا ما دفع بشيخ الإسلام ابن تيمية إلى الإفتاء بوجوب تعلم اللغة العربية على كل مسلم اعتمادا على قاعدة أصولية مفادها أن معرفة الإسلام مرتبطة بمعرفة اللغة العربية، وعلى ذلك فمعرفتها واجبة على كل مسلم ومسلمة بحجة أن ما لا يتم الواجب إلا به يعتبر واجبا".

فمن هذا المنطلق إذن، يلتقي الناطقون بالعربية وغير الناطقين بها من المسلمين الحقيقيين في جميع أقطار العالم.

ولعل السبب الذي جعل المسلمين يتفقون حول وحدة الدين ويختلفون حول وحدة اللغة هو حساسية موضوع اللغة، وعلاقتها بالجنسية أو القومية وغيرها من المصطلحات المستحدثة في هذا العصر، وقد

ظهرت من ثمة دعوى الفصل بين ما هو قومي عربي وما هو مسلم اللا قومي، على اعتبار أن اللغة مسألة قومية، والدين رسالة سماوية تهم كل الذين يدينون به بقطع النظر عن جنسياتهم وقومياتهم في سائر أقطار الدنيا. وبدت هذه الحجة كافية ظاهريا - لبعض المتربصين بوحدة الأمة كي يدقوا أسفين الخلاف والتعارض بين الإسلام ولغة القرآن، أو بين الناطقين بها كلغة أساسية وغير الناطقين بها من المسلمين.

ويمكن إظهار تهافت هذه الحجة ـ حسب رأينا في النقاط التالية :

1 ـ إن اللغة بالفعل هي أكثر ارتباطا بالقومية من الدين بصفة عامة ومن الإسلام بصفة أخص، لأنه دين للبشرية قاطبة كما هو معلوم وان الدين واحد، في حين أن لغات العالم متعددة، ولكن هذا الأمر إذا كان صحيحا بالنسبة للغات الأخرى مع الإسلام، فإنه غير صحيح مع اللغة العربية بالذات، لأنها مرتبطة بالإسلام ارتباطا عضويا كما ذكرنا، ومن قبل التخلي عن دينه اليهودي أو المسيحي أو المجوسي أو البوذي من أجل الإسلام... فلماذا لا يتخلى أيضا عن التعصب للغته المحلية أو الوطنية من أجل الإسلام ووحدة المسلمين !؟

2 ـ إن الوضع المتميز للغة العربية جعلها ذات وظيفة مزدوجة

صيرتها بالمنظور القومي (العلماني) لغة قومية للعرب وحدهم، لكنها بالمنظور الديني الإسلامي لغة قومية لسائر المسلمين .. بقطع النظر عن جنسيتهم السياسية ... إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون..

ولا وحدة ثقافية حقيقية لأية أمة بدون وحدة حقيقية في دينها ولسانها. كما ذهب إلى ذلك جمال الدين الأفغاني وابن باديس ونقرهما على ذلك إقرارا كاملا  !!.

3 ـ إن الانتماء القومي لأي شعب في الدنيا لا يرجع إلى كون هذا الشعب منحدرا بالضرورة من عنصر أو عرق واحد، وإنما يرجع إلى الانتماء أو الاندماج الإرادي لهذا الشعب في الثقافة المتبناة، ولا دخل في هذه المسألة لخرافة السلالة والعرق التي أبطلها العلم فضلا عن الدين الإسلامي بالذات، الذي نهى عن حمية الجاهلية !!

4 ـ إن أكثر من 90% من أفراد المجتمع العربي الحالي، أي المجتمع الإسلامي الناطق بالعربية هم خارج الجزيرة العربية، ومن ثم فهم مسلمون قبل أن يكونوا عربا كما قلنا .

وبعبارة أخرى فهم عرب لأنهم مسلمون وليسوا مسلمين لأنهم عرب ولا عروبة عندهم - بدون إسلام، أي ما كان للعالم العربي الحالي، ولا للحضارة العربية الإسلامية المعروفة في الشرق والغرب أن يوجدا لولا أمثال عقبة بن نافع، وحسان بن نعمان، وموسى بن نصير، وطارق بن زياد، وعبد الرحمن بن رستم، ويوسف بن تاشفين، وابن تومرت وغيرهم من الذين عربهم الإسلام فأوجدوا ما يعرف اليوم بالعالم العربي، وبعبارة أدق العالم الإسلامي الناطق بالعربية مشرقا ومغربا .

ويلخص هذا المعنى الدكتور حسين مؤنس في كتابه "الحضارة"، حيث يقول: «ومع ذلك فإن العرب لم يضعوا أية سياسة لنشر اللغة العربية، بل كان القرآن الكريم هو دافع الناس الأكبر إلى تعلمها. ثم تكفلت اللغة العربية بقية التحويل اللغوي بفضل ما امتازت به من فضائل داخلية في صلبها وتركيبها ....

إن الأمر هنا كان عملية انتشار ثقافي ديني متمثل في الإسلام والقرآن ولغوي فكري متمثل في انتشار اللغة العربية وكتابتها وآدابها شعرا ونثرا).
التعليقات (0)

خبر عاجل