أفكَار

"القابلية للاستعمار".. رحلة الأمة بين الخواء الروحي والمادية المهيمنة

إن الخلاص من القابلية للاستعمار وحالة الوهن التي ركنت إليها الأمة يبدأ باستعادة الهوية الإيمانية بوصفها منطلق الحضارة..
إن الخلاص من القابلية للاستعمار وحالة الوهن التي ركنت إليها الأمة يبدأ باستعادة الهوية الإيمانية بوصفها منطلق الحضارة..
شارك الخبر
يقدّم الدكتور حاتم عبد العظيم، أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله، في هذا النص المخصص خصيصاً لـ"عربي21"، قراءة متعمقة لنظرية القابلية للاستعمار التي طرحها المفكر والفيلسوف مالك بن نبي منذ نحو سبعة عقود.

ويستعرض الكاتب كيف ترتبط هشاشة الأمة وفقدان وعيها بالقيم الدينية والخواء الروحي بالمادية والانحلال القيمي، مما يجعلها أرضاً خصبة للاستعمار الثقافي والفكري، حتى ولو كانت مستقلة شكلياً. ويؤكد النص أن الخلاص الحقيقي يبدأ باستعادة الهوية الإيمانية، وبناء نماذج حياة متجذرة في هذه الهوية، لتستعيد الأمة قدرتها على الاستقلال الحضاري والحرية الفكرية، وتحول الاستقلال الظاهر إلى استقلال حقيقي ومؤثر على الواقع.


أسئلة عالقة

مضى على طرح المفكر والفيلسوف الكبير مالك بن نبي نظريته في القابلية للاستعمار ما يقرب من سبعة عقود، وعلى الرغم من ذلك ما زالت الأسئلة التي كشف عنها بن نبي وأطلقها بشجاعة عالقة في ذات الفضاء دون أن تجد جوابا شافيا.

ولو أردنا الوقوف بشيء من التأمل أمام السؤالات المهمة في طرح ابن نبي ربما نجد أنفسنا أمام المركزيات الآتية:

ـ سؤال الهوية الدينية:

يرى ابن نبي أن أولى محطات الذوبان وافتقاد الوعي بالذات الحضارية افتقاد الوعي بالدين بعمقه الحضاري وتحويله إلى طقوس شعائرية معزولة عن صياغة الحياة وفقا لمنظومة قيمية محكمة متماسكة تجيب عن الأسئلة الوجودية، وتمنح الإنسان الدافعية والرغبة في العطاء الواعي المثمر، وتصنع سرديتها ورؤيتها الخاصة للحياة والمجتمع.

وتفريغ الروح من الإيمان أول مراحل القابلية للاستعمار؛ فالروح الخاوية تمثل المدخل الأمثل للمستعمر الذي يفضل بغير شك احتلال العقول وحشوها بأفكاره، وقد سماه ابن نبي في كتابه "شروط النهضة" : المعامل الداخلي الذي يسكن الإنسان فيجعله تلقائيا طوع إرادة المستعمر، يستبطن أفكاره ويدافع عنها وينفذ إرادته قبل أن يبوح بها.

تفريغ الروح من الإيمان أول مراحل القابلية للاستعمار؛ فالروح الخاوية تمثل المدخل الأمثل للمستعمر الذي يفضل بغير شك احتلال العقول وحشوها بأفكاره، وقد سماه ابن نبي في كتابه "شروط النهضة" : المعامل الداخلي الذي يسكن الإنسان فيجعله تلقائيا طوع إرادة المستعمر، يستبطن أفكاره ويدافع عنها وينفذ إرادته قبل أن يبوح بها.
وعليه فخواء الروح من قيم الدين أول مراتب القابلية للاستعمار، وهو ذات المعنى الذي أدركه مراد هوفمان في كتابه "خواء الذات والأدمغه المستعمرة" حيث يقول: "ومن الغريب، أن تستمر المستعمرات سابقًا فى الافتتان بالحداثة والاشتراكية الغربية، كما لو لم تكن كلّ منها قد فقدت مصداقيتها فى الغرب فى كلُّ من الحرب العالمية الأولى والثانية! لا يمكن تبرير ذلك إلا بوقوع كثير من العقول القائدة فى آسيا وأفريقيا فى أسر الافتتان بتعاليم سادتهم السابقين، حتى أصبحوا غربيين أكثر من العديد من مفكرى الغرب! أقل ما يقال إن هؤلاء المفكرين العلمانيين فى العالم الثالث عملوا لاستقلال بلادهم من داخل حدود الحضارة الغربية.

وبهذا، اكتملت الحلقة النهائية لاستعمار الأمة، بمجرد استقلالها، عملية الاختراق تلك، المسماة بالعولمة، لا تتعلق باختراق حدود جغرافية، ولكن بالسيطرة على العقول، وفى الحقيقة لم تفطم معظم البلاد العربية والإسلامية نفسها من سادتها المستعمرين، حتى حركات الإصلاح والإحياء الإسلامية لم تستطع بشكل حاسم حتى الآن تغيير ذلك الوضع البائس".

ـ سؤال المادية:

إذا تحقق ذلك الخواء الروحي وتمييع المرجعية الدينية وانهيار منظرومة القيم فإن ذلك يعني بالضرورة أن تلهث النفس وراء أطماعها ورغباتها المادية، حتى إذا غلب ذلك على أبناء المجتمع فإنه يتدحرج تلقائيا نحو المستعمر مسلما رقبته بذل وانكسار لسكين الذبح أو طوق الاستعباد، والمادية تستحضر من النفس أسوأ ما فيها وتنحط بها إلى أدنى مراتب البشرية، وتحول الإنسان من كائن رسالي صانع للحضارة يعطي بكلتا يديه لتحقيق القيم التي يؤمن بها إلى هيكل فارغ من المضمون تملكه لذاته وشهواته وأطماعه.

والمادية هي الوجه الآخر للحداثة فأن تكون حداثيا يعني أن تكون ماديا، والحضارة الغربية قد جعلت هذه المادية شعارا لحضارتها ودثارا، ووضعت الناس أمام معادلة مقتضاها : إما أن تكون على هذه الطريقة المادية أو تكون منبوذا مرميا بنعوت التطرف والتخلف، وفي هذا يقول المفكر الفرنسي شارل سان برو: "إن الغرب وضع المسلمين أمام خيارين: فهم إما متطرفون تجب مواجهتهم، أو مسلمون تابعون للغرب يفتقدون لهويتهم الحقيقية" ولا يزال خيار كثيرين منهم أن يكونوا ماديين بالمعيار الغربي؛ ليرضى عنهم ويسمح لهم بالبقاء.

إن الخلاص من القابلية للاستعمار وحالة الوهن التي ركنت إليها الأمة يبدأ باستعادة الهوية الإيمانية بوصفها منطلق الحضارة، وبناء نماذج الحياة المعبرة عن تلك الهوية والإيمان بها واغتنام فرص تنزيلها على الواقع لتبدأ الأمة رحلة الاستئناف الذي تأخر طويلا.
ونحن أمام متوالية منطقية تماما: خواء روحي يؤدي إلى نزعة مادية وتلك هي البيئة الخصبة المواتية للاستلاب الحضاري والقابلية للاستعمار ولندع ابن نبي يشرح بعبارته تلك الفكرة المركزية التي تعيننا على فهم الوضعية الحضارية للأمة المسلمة: "المدنية تبدأ دائماً بدعوة روحية، وتدفعها العاطفة المتعلقة بهذه الدعوة ـ لا العقل ـ في طريق الصعود، إلى أن تصل إلى قمة التشبع الروحي، أي: قمة الإيمان بالدعوة، وبعد ذلك تسير ـ أي: المدنية ـ في خط أفقي يسيطر عليه العقل.. العقل الذي يبدأ في السيطرة على الدولة والمجتمع.. ويظل العقل يسير بالمدنية إلى الأمام، وهو في كل خطوة يبتعد عن الدعوة الروحية… عن الفكرة المثالية.. عن "الأيدولجي".. إلى أن يصل المجتمع إلى حد تتغلب فيه المادية الفردية والجسدية على الروح والمبدأ، فيبدأ في الانحلال، وتبدأ المدنية في الهبوط إلى أسفل، إلى أن تصل إلى الحضيض.. فلا يعود هناك مجتمع بل مجرد مجموعة من الأفراد لا رابط بينهم.. ولا تعود هناك "فكرة" بل مجرد مصالح فردية.. وفي هذه المرحلة تتولد "القابلية للاستعمار" شيئاً فشيئاً.. حتى تصبح الأمة كالثمرة الفاسدة، لا يكاد المستعمر يهز شجرتها حتى تسقط تحت أقدامه.. وقد مرت المدنية الإسلامية ـ مثلاً ـ بكل هذه المراحل.. نبتت من دعوة روحية.. من أيدولوجي"، أو مثالية غذت الروح الشعبية، ودفعتها إلى الصعود، حتى وصلت إلى قمة الإيمان.. ثم بدأ العقل يسيطر على الدولة الإسلامية.. وابتعد العقل عن مثل الدعوة وروحانيتها، فبدأ الانحلال.. وبدأ الهبوط.. وبدأت المقاومة تضعف ويصبح جسد الأمة قابلاً للاستعمار …"

ـ سؤال الحرية والاستقلال

يرى ابن نبي أن سؤال الاستقلال والحرية هو الآخر بحاجة إلى إعادة تحرير، فقد يكون بلد ما مستقلا نظريا: له علم ونشيد، ونظام سياسي يتغنى باسمه ليل نهار، لكنه في الحقيقة لا يزال مستعمرا بالكامل، امتص المستعمر روحه وشخصيته وقيمه ومثالياته ومجتمعه، وفي عبارة بديعة يصور ابن نبي تلك الحقيقة فيقول: "قد أخطأنا نحن ـ في البلاد العربية ـ عندما تصورنا أن الاستعمار هو الاحتلال، وأن الجلاء هو الحرية.. وكان من نتيجة هذا الخطأ في التفسير، أننا وجهنا كل كفاحنا ضد الجيوش الأجنبية، لا ضد "الشخصية" الأجنبية، ولا ضد "الفكرة" الأجنبية، التي تولد بالتالي "النفوذ الأجنبي!" ثم أخطأنا مرة ثانية عندما كافحنا الاستعمار في مظاهره الخارجية التي تنحصر في تعدى بلد على بلد.. ولكننا لم نكافح جوهره، وهو قابليتنا نحن الدول العربية ـ للاستعمار.. هذه القابلية التي مهدت الطريق لثلاثين مليون إنجليزياً لاستعمار ستمائة مليون آسيوي.. والتي سهلت لدولة صغيرة كهولندا أن تستعمر أندونيسيا كلها. كان يجب أن نوجه كفاحنا ضد أنفسنا .. ضد انحلالنا .. ضد تفكك مجتمعنا.. ضد النقص الروحي الشنيع الذي نعانيه. ما الذي يولد "القابلية للاستعمار" .

 المسألة إذن ليست شكلية بحيث يرحل الإنجليز الحمر ليحل محلهم الإنجليز السمر، بل الاستقلال الحقيقي أن تؤمن الأمة بذاتها الحضارية وتستحضر شخصيتها الأصيلة وتخرج من مزالق التبعية والاستلاب وتصنع من جديد نموذجها المتفرد، ولا تظل أسيرة التبعية باسم الحداثة،  أو رهينة الاحتلال الطوعي باسم العولمة أو الانفتاح.

إن الخلاص من القابلية للاستعمار وحالة الوهن التي ركنت إليها الأمة يبدأ باستعادة الهوية الإيمانية بوصفها منطلق الحضارة، وبناء نماذج الحياة المعبرة عن تلك الهوية والإيمان بها واغتنام فرص تنزيلها على الواقع لتبدأ الأمة رحلة الاستئناف الذي تأخر طويلا.
التعليقات (0)

خبر عاجل