بشكل متسق مع رؤية
ترامب لـ"السلام" السائر دائما لصالحه، فصّل
الخطة الأخيرة على مقاس
إسرائيل لهدفين أساسيين، أولهما هو تحجيم الظهور الإعلامي المكثف
لغزة وحربها المؤلمة، وثانيهما، وهو الأجدر بالمناقشة والتحليل النقدي، تخفيف وطأة
العزلة الدولية والغضب العالمي تجاه إسرائيل، أملا منه في نهاية المطاف لتحويل
غزة
لكائن أليف مستأنس وسط الإقليم العربي والإسلامي، فضلا عن تحقيق نظرته العقارية
باعتبارها "ريفيرا الشرق الأوسط الجديد"، التي هي بالتأكيد استعمار جديد
لكنه مبني على عقيدة الصدمة بالدرجة الأولى المطبقة في تشيلي وبيرو والمكسيك وماليزيا،
وفقا للكاتبة والصحفية المخضرمة نعومي كلين في كتابها الموسوعي.
ولكن ما افتقدت له الخطة لدى ترامب في عقله الخطير "شرعنة الخطة لترسم
إطار واضح ومعلوم"، بحد تعبير الكاتب المختص في الشئون الفلسطينية ميتشيل
باترييك، ملمحا في مقال له على موقع موندويس إلى أن الخطة الترامبية خطة ممهدة
لنسخة جديدة وعصرية من الانتداب البائد البريطاني المستمر من عام 1920 حتى 1946، وتولت
الولايات المتحدة بعد خروج بريطانيا العظمى وأفولها المتسارع زمام النشأة عن طريق
قرار التقسيم المشؤوم رقم 181 لعام 1947. ولعل هذا ما جعل البروفيسور والخبير
الاقتصادي جيفري ساكس مع سهيل فارس؛ يصف الخطة بالاستعمار الاستيطاني الأمريكي،
مختلفا فقط في هدفه الماكر بعكس القرار الممهد للنكبة عام 1948.
خطة ترامب هي خطة جوفاء لا تضمن غير المكافأة أو على أقل تقدير الاستمرار الصامت في الإبادة الجماعية بوتيرة أبطأ وأكثر هدوءا وتنفيذها كاملا
فخطة ترامب هي خطة جوفاء لا تضمن غير المكافأة أو على أقل تقدير الاستمرار
الصامت في الإبادة الجماعية بوتيرة أبطأ وأكثر هدوءا وتنفيذها كاملا، سامحا
للاحتلال الإسرائيلي بالإلقاء المعتمد لـ1250 طنا من المتفجرات في 19 تشرين الأول/
أكتوبر الماضي، وفي 19 تشرين الثاني/ نوفمبر (تاريخ كتابة المقال) بقصف وحشي على
مخيم عين الحلوة، ليتضح الهدف الحقيقي من وراء الخطة الترامبية في إعطاء الاحتلال
الإسرائيلي فترة نقاهة واستجماع قوة حتى تقنن بشكل نهائي من مجلس الأمن، وتحل
"أزمة المقاومة للأبد بنزع سلاحها"، كما نُشر في وسائل الإعلام
الإسرائيلية مثل قناة كان والقناة 12 العبرية.
فنزع السلاح في خطة ترامب ليس إلا ورقة ضغط مزيفة ومكررة
عدة مرات في هذا السياق المخزي والمرير الذي لا ينم عن شيء حقيقي، بل عن نزع حق
المقاومة الموجود في القانون الدولي، لتكتمل الصورة الهزلية والخليفة الاستعمارية
والإطار المضحك للخطة الملغومة، والتي تفرغ المقاومة من معناها، محولة الاستعمار
الفعلي في غزة لأشبه بنظام إنساني، منتظرين التأطير الذي يسمح بذلك،
والذي بالتأكيد لن يغير الكثير بل بالأحرى لن يحرك حجرا في غزة.
وبالنسبة لترامب، فقد طور من لعبة الصفقة الأخيرة مع حماس حتى يضعها في مأزق
مؤسس وفخ محكم، لكن "ناورت" بحركة ذكية وتفاوضية بارعة منقطعة النظير برمي
الكرة في ملعب الخصم والوسطاء، ومنهم أمريكا والعرب، فلا إبادة توقفت والقصف مستمر
حتى اللحظة مع التجويع والتدمير، لغاية فرض قرار الوصاية الدولية رقم 2081 بتكرار
نفس سيناريوهات خسارة أمريكا العراق وأفغانستان، بالخسارة الفادحة والأمل الكاذب المخادع
بتحقيق النكبة الثانية ونجاح استراتيجية "إنهاء العمل" في فلسطين كاملة.
انتداب ووصاية دولية وأجواء تجهيزية لما قبل النكبة: وصاية إسرائيلية بقناع
غربي ترمي للتصفية الأخيرة
في كتاب التطهير العرقي في فلسطين، يشير المؤرخ ذائع الصيت والمناهض
للصهيونية إيلان بابيه لصورة النكبة الأولى عبر الصورة الأكبر التي توفر الصورة
الأوسع من الانتداب البريطاني، المتمثلة في وعد بلفور عام 1917 م، وحتى قبلها بجعل
فلسطين محكومة دوليا تمهيدا للانتداب، ما أدى بالنهاية للنكبة عام 1948، في محاولة
لإنهاء الفلسطيني أو على الأقل "جعله دائم الخنوع والقابل للسيطرة عليه
بسهولة". كما وصف بابي الهدف الكامن وراء تلك اللحظة النموذجية في الوحشية والمكررة
من البداية، مع اختلاف تفاصيل طفيفة في القرار الأخير لمجلس الأمن لتدويل الإبادة
الجارية وتطبيع الاستعمار المباشر الوحشي.
فمن خلال هذا المنظور التاريخي، يكشف الغرض الأساسي لقرار مجلس الأمن
الأخير في وضع خطة ترامب في حيز التنفيذ قسرا، في رسالة واضحة تنم عن الوجه الآخر للقانون
الدولي الذي طالما استُخدم كسلاح حاد وقاسي الحدة، مثلما استخدم لهندسة الشرق
الأوسط في معاهدات سايكس بيكو وسيفر وفرساي؛ المؤسسة لواقع جديد يؤسس لحمايات
أجنبية قاسية أدت بالضرورة لنشأة الكيان الإسرائيلي نفسه.
فبعد النكبة أيضا، زاد الأمر وطأة وحدة من التسليح القانوني للكيان
الإسرائيلي بغطاء أمريكي واضح؛ يمرر ويناور وينسف أي طريق مسالم وودي، ويحل القضية
الفلسطينية وفقا للمزاعم التاريخية، حتى الوصول للقيد الحاكم لكل دولة عربية وهي
اتفاقيات التطبيع مثل كامب ديفيد ووادي عربة، وانتهاء باتفاقيات أبراهام التي يود ترامب
أن ينهي بها مقاومة غزة من أجل ما أسماه أستاذ العلوم السياسية ستفين والت في
مقاله في مجلة السياسة الخارجية في تموز/ يوليو الماضي "وهم الهيمنة
الإسرائيلية"، مثل اللحظة المؤلمة قبيل مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1981.
أما النص "القانوني" للقرار، فهو عبارة عن
حل مؤقت، بل يضع خطة ترامب قيد التحقق دون ذكر مجرد للفلسطينيين من قريب أو بعيد،
جاعلا الصين وروسيا تمتنعان عن التصويت للقرار من الأساس لأنه لا يوفر أدنى
المعايير المطلوبة من الدولة المنتظرة في فلسطين، حيث يطبق النقطتين الشاملتين
الخاصتين بـ"مجلس السلام وقوة الاستقرار الدولية"، في تعبير صارخ وتفجير
شامل ومكتمل الأركان للأوضاع في غزة والضفة، لتقفز إسرائيل في نهاية المطاف بـ"مرضها
العصابي" الكامن في الانتقام الشامل وعقليتها الإبادية التي اخترقت القرار
الخاص بالأجواء فيما قبل النكبة عام 1947 م. ونتيجة لذلك، من الحتمي أن هذا القرار
الاستعماري سيحول الأجواء لكتل حارقة من اللهب تجاه الجميع، متضمنة بيت الولايات
المتحدة نفسه.
هكذا، باتت اليوم القرارات الأممية تخدم الاستعمار
الصهيوني بكل وقاحة ظاهرة، مع تأسيس واضح وسعي حثيث للشرق الأوسط الجديد التي تستنزع
فيه إسرائيل بجنونها الاعتيادي لتشكيله بالقوة الغاشمة، ما يطرح تساؤلا حيويا حول جدوى
القرار الدولي من الأساس، في حلقة من محاولات بائسة لتسليح القانون الدولي لصالح
إسرائيل التي تود "أن تخلق قانونا دوليا له حصانة ذاتية" يجعلها محصنة وممنوعة
من الحساب وتحقيق العدالة في أول هولوكوست مذاع، ومواجهته لعقبات مفصلية تعقد من
إعادة الإعمار وإنهاء الإبادة الجماعية في غزة بطريقة حقيقية وقاطعة.
الفشل المُمكن المتسارع: النزعة الإسرائيلية التوسيعية
مانعة بصلابة لأي قرارات تسوية
بغرض النظر عن مدى صمود واستمرار الاتفاقية الهشة
بالأساس، فإن إسرائيل تواجهها بكل قوة باطشة ومانعة من الدولة المارقة
"الماسكة بزمام" الولايات المتحدة، وهذا يفسر سلوك
نتنياهو المتبني للخروقات
الدائمة تحت ذرائع واهية، فضلا عن الإجراءات القمعية والسياسات الاستراتيجية المتبعة
لمصلحة نتنياهو في نهاية المطاف، أو باعتراف الصحافي الإسرائيلي بن ريف في صحفية
الغارديان البريطانية أنه "لن تطبق المرحلة الثانية"، نقلا عن الصحفي
المقرب من نتنياهو نفسه عميت سيجال في القناة الـ13 العبرية، بصريح العبارة المعهود
أسلوبها.
من المنطقي من خلال تلك الدلائل الثابتة؛ النظر لإسرائيل حاليا باعتبارها قوة على وشك السقوط والانهيار المدوي
فذلك عبارة عن دائرة مفرغة من العوائق الصلبة الناجمة
بالأساس عن استراتيجية راسخة في إسرائيل عقب 7 أكتوبر وفقا للقياديين الأمنيين في
مركز ماسخاف للدراسات الأمنية والاستراتيجية مائير بن شبات وآرشر فيدفمان، واللذين
تقلدا مناصب قيادية كبيرة في الاستخبارات والأجهزة الأمنية الإسرائيلية مثل
الشاباك والموساد والوحدة 8200، وذلك في دراسة موسعة في مجلة الشئون السياسية في 7
تشرين الأول/ أكتوبر الماضي؛ تؤكد أن إسرائيل "لا تمتلك استراتيجية متماسكة
غير الاستمرار الأبدي في الترتيبات الأمنية بشكل منفردة"، بتجاهل تام وقفز
على أي "رؤى للسلام" حتى مع المحيط الإقليمي الخاص بها.
من المنطقي من خلال تلك الدلائل الثابتة؛ النظر
لإسرائيل حاليا باعتبارها قوة على وشك السقوط والانهيار المدوي، ولهذا تتوسع في
الضفة الغربية بشكل يقترب من قيام "دولة المستوطنات"، التي هي على الأقل
وسيلة قوية وصخرة أخرى بدأت منذ أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي. أي بعبارة أخرى؛
إسرائيل دخلت في المرحلة الصفرية للمواجهة الشاملة مع الجميع بلا أدنى استثناء من
الدول المحيطة، مع تزايد الحماسة الإبادية في المجتمع الإسرائيلي النازي فكريا؛ في
اتفاقه بالإجماع -غير قلة قليلة- على نسف المجتمع الغزي عن بكرة أبيه.
إن استمرت الأزمات الإنسانية بتلك الوتيرة المتسارعة
في تحقيق الرغبات التوسيعية، فإن المدى الواصل للتسويات معها يجعلها مخترقة ومتفجرة
دائما، مع التغاضي الكامل من ترامب والولايات المتحدة عن خروقاته سواء في لبنان
البالغة أكثر من 10 آلاف، أو غزة البالغة قرابة 30 اختراقا من بينهما الدموية والبربرية
الكاملة. فتأتي نبوءة الدكتور الكبير والمفكر حامد ربيع تجسيدا حيا لتلك اللحظة
النماذجية المخترقة لحدود الدبلوماسية المعهودة وتعقيدات القوانين، لتنتهي إلى أن
"إسرائيل في حالة حرب مفتوحة" لا تعلم لها نقطة نهاية أو "مستقبلا
ملموسا"، كما حددها البروفسير أوري جولدنبرج، سوى الجمود المتحجر وعدم
الاستقرار المحاط بعلاج وحيد وهو الزوال الأبدي.