منذ أسابيع، ينتقل
كبار المسؤولين الأمريكيين من الاستياء الخاص إلى القلق العلني بشأن سلوك بنيامين
نتنياهو
خلال أزمة
غزة. ولا يقتصر انزعاج واشنطن على الخلافات التكتيكية، بل يعكس خوفا أعمق
مفاده أن نتنياهو يحتفظ بخيار استئناف
حرب شاملة، حتى بعد موافقته العلنية على إطار
لوقف إطلاق النار وإعادة الإعمار تدعمه الولايات المتحدة. هذه الاحتمالية دفعت المبعوثين
والمسؤولين والوسطاء الخارجيين إلى طرح سؤال صريح: هل يلعب رئيس الوزراء
الإسرائيلي
لعبة مزدوجة؟
السبب المباشر للقلق
واضح ومباشر، لقد ساعدت واشنطن في التوسط في هدنة تربط وقف الحرب بالإفراج التدريجي
عن الرهائن، وتدفق المساعدات الإنسانية، وفتح تدريجي لإعادة إعمار غزة تحت إشراف دولي.
أبلغ المبعوثون الأمريكيون القادة الإسرائيليين مرارا بوجوب الحفاظ على هذا الاتفاق،
مع ذلك، فإن التصريحات والإجراءات الإسرائيلية على الأرض هددت هذا الترتيب مرارا وتكرارا،
من إغلاق المعابر، وتقييد حركة المساعدات، والتشكيك العلني في التزام حماس، مع التلميح
بأن إسرائيل قد "تعود إلى الحرب" إذا لم تُلبَّ الشروط. هذه الخطوات أقنعت
المسؤولين الأمريكيين بأن وقف إطلاق النار قد يكون هشا بشكل مقصود، وليس عن طريق الصدفة.
هناك ثلاثة دوافع
تشرح سبب تحوّط نتنياهو:
أولا، السياسة الداخلية.
يحكم نتنياهو بائتلاف هش يضم وزراء متشددين يرفضون أي تسوية مع حماس، ويعارضون أي مشاركة
فلسطينية فاعلة في مستقبل غزة. بالنسبة له، يُعد إظهار التشدد وسيلة للحفاظ على تماسك
ائتلافه وتقويض خصومه الذين يدعون إلى سياسة أكثر تحفظا.
ثانيا، الحسابات الاستراتيجية.
لقد سعى نتنياهو منذ فترة طويلة إلى صياغة التسوية بعد الحرب على أساس شروط تحافظ على
السيطرة الإسرائيلية على أمن غزة وتحد من السيادة الفلسطينية. إن قبول عملية إعادة
الإعمار بإشراف دولي يحمل في طياته مخاطرة التنازل عن النفوذ، في حين أن الحفاظ على
خيار استخدام القوة المتجددة يحمي النفوذ.
ثالثا، الميزة التفاوضية.
يدرك نتنياهو أن التهديد باستئناف الأعمال العدائية يركّز الاهتمام والضغط الدولي على
حماس -وعلى الوسطاء- وهو ما يمكنه استغلاله لانتزاع تنازلات بشأن الأمور المختلفة،
أو نزع السلاح، أو حرية العمليات للقوات الإسرائيلية. وتخلق هذه الدوافع حافزا قويا
لتأييد الاتفاق علنا، مع ترك الباب مفتوحا سرا لطريق العودة إلى الحرب.
منظومة الدوافع هذه
هي ما يقلق الدبلوماسيين الأمريكيين، فقد أبلغ المبعوثون الأمريكيون -بمن فيهم شخصيات
بارزة زارت تل أبيب في الأيام الأخيرة- نظراءهم الإسرائيليين بأنهم لن يقبلوا بخطوات
أحادية الجانب تقوّض الاتفاق، كما ألمحوا إلى استعدادهم لحجب الغطاء السياسي أو ممارسة
الضغط إذا خرقت إجراءات إسرائيل قواعد الهدنة. إن مجرد وجود وفود أمريكية رفيعة المستوى
في إسرائيل، بما في ذلك مبعوثون سياسيون ومستشارون، يعكس سعي واشنطن لاستباق الانهيار.
لكن هذا الوجود يكشف أيضا عن واقع جديد: وهو اضطرار الولايات المتحدة للعب دور
"شرطي" فاعل لكبح جماح حليف مقرب.
عواقب "اللعبة
المزدوجة" تمتد إلى ما هو أبعد من وقف إطلاق النار، ففي كل مرة تشدد فيها إسرائيل
الخناق على المعابر أو تؤخر المساعدات، تزداد معاناة المدنيين في غزة. الانهيار الإنساني
-نقص الغذاء والدواء، وتدمير البنية التحتية- يصبح كارثة أخلاقية وعاملا مضاعفا للمخاطر
الأمنية في آن واحد، إنه يعزز اليأس الفلسطيني ويقوّض مصداقية أي خطة لإعادة الإعمار
تعتمد على الاستقرار. باختصار، إذا أوقف نتنياهو إعادة الإعمار بينما يلقي اللوم على
حماس بلاغيا في الانتهاكات، فإنه بذلك يكون قد منع أي مشاركة دولية ذات معنى وضمِن
استمرار الصراع.
يجادل المنتقدون بأن
دور واشنطن أصبح متناقضا، لقد ساعد الرصيد الدبلوماسي الأمريكي في التوصل إلى الاتفاق، والآن من المتوقع أن يدافع المسؤولون الأمريكيون عن الاتفاق، وأن يمنعوا في الوقت نفسه
إسرائيل من انتهاكه. وهذا يخلق احتكاكا سياسيا في واشنطن نفسها، فالبعض في الولايات
المتحدة يرى نتنياهو كشريك مارق، بينما يرى آخرون أن الضغط الأمريكي يمثل تعديا على
السيادة الإسرائيلية. لكن الحقائق الإنسانية على الأرض تجعل الحسابات أوضح: إذا تم
تقييد المساعدات، فإن التكلفة الأخلاقية والسياسية للتقاعس ستقع على عاتق القدس وواشنطن
معا.
يواجه المجتمع الدولي الآن خيارا بسيطا ولكنه خطير؛ فإما قبول الوضع الراهن، حيث تحتفظ إسرائيل بالقدرة على استئناف الحرب كلما اقتضت سياستها الداخلية ذلك، أو المطالبة بضمانات أقوى: وصول إنساني كامل، ومراقبين دوليون بصلاحيات حقيقية، وعقوبات واضحة إذا خرقت إسرائيل القواعد
بالنسبة للفلسطينيين
والمدافعين عنهم، فإن نمط السلوك هذا يؤكد مخاوفهم طويلة الأمد. فسياسة إسرائيل غالبا
ما مزجت بين التنازلات المحدودة واستمرار ممارسات الاحتلال، وعندما يتم إصدار التنازلات
تحت الضغط، فمن الممكن هيكلتها بحيث يسهل التراجع عنها بمجرد أن يتلاشى الضوء الدولي.
التسلسل الأخير -إعلان بارز لوقف إطلاق النار، تلته قيود على الأرض وخطاب قومي- يتناسب
تماما مع هذا النمط. والنتيجة متوقعة: فترات هدوء مؤقتة تترك حكم غزة واقتصادها وحياتها
المدنية مدمرة، وعرضة لعمل عسكري متجدد.
يواجه المجتمع الدولي
الآن خيارا بسيطا ولكنه خطير؛ فإما قبول الوضع الراهن، حيث تحتفظ إسرائيل بالقدرة على
استئناف الحرب كلما اقتضت سياستها الداخلية ذلك، أو المطالبة بضمانات أقوى: وصول إنساني
كامل، ومراقبين دوليون بصلاحيات حقيقية، وعقوبات واضحة إذا خرقت إسرائيل القواعد.
والولايات المتحدة،
التي تتمتع بالنفوذ الأكبر على إسرائيل، يجب عليها أيضا اتخاذ قرار؛ يمكنها استخدام
هذا النفوذ لضمان احترام وقف إطلاق النار، مع حدود صارمة ومساءلة حقيقية، أو يمكنها
السماح لنتنياهو بمواصلة الموازنة بين السلام والحرب بما يتناسب مع احتياجاته السياسية.
الخيار الأول قد يسبب توترا دبلوماسيا مع إسرائيل، أما الثاني فسيؤدي بشكل شبه مؤكد
إلى مزيد من العنف والمعاناة للفلسطينيين.
سيُحكم على نتنياهو
من خلال أفعاله لا أقواله، فإذا صمد وقف إطلاق النار، ووصلت المساعدات الإنسانية إلى
غزة، وحصل المدنيون الفلسطينيون على إغاثة حقيقية، وبدأت إعادة الإعمار تحت إشراف دولي،
فقد يفتح ذلك الباب أمام الاستقرار والعدالة اللذين طال انتظارهما، ولكن إذا بقيت الحدود
مغلقة، واستمر الدمار، وانهارت الهدنة، فإن ذلك سيفضح لعبة نتنياهو المزدوجة أمام العالم.
بالنسبة للفلسطينيين -وأولئك الذين ما زالوا يؤمنون بالسلام القائم على المساواة والكرامة
الإنسانية- لن تكون هذه النتيجة مجرد فرصة ضائعة أخرى؛ بل ستكون فشلا أخلاقيا للمجتمع
الدولي نفسه.