النسيج
المصري غنيٌّ بالتنوع، وممتدٌّ على قدر تاريخ مصر وعطائها، والمثل القائل: "يا
داخل مصر منك ألف" يؤكد أن صاحب أي حرفة أو
فكرة، سيجد له في مصر نظراء
وقرناء بالألوف، وهذا الخط ممتدٌّ على استقامته.. وكثيرا ما
يُعاب على المصريين التغنّي بالتاريخ، وعدم الرغبة في العودة من الماضي، حيث
السبعة آلاف سنة حضارة، أو أزهر الألف عام، وهذه أرقام غير قابلة للنقص أو الزيادة!
لن أبدأ
من عقود
التنوع الزاهرة التي فيها أحمد شوقي وعباس العقاد، ثم بيرم التونسي وعبد
الرحمن الأبنودي، أو طه حسين ومحمود شاكر، ثم سيد قطب ونجيب محفوظ، وإنما سأعرض
لنماذج من ثراء الحالة المصرية في صورتها الحالية، بل في أضيق نطاق لها، حيث دائرة
اهتمامي ومتابعتي، ممن هم بيننا الآن، وما زالوا على ثغر العطاء الثري، حيث أتابع
بشغف د. سعيد إسماعيل، مؤسس
علم أصول التربية، والذي يدرّسها منذ عام 1961م، كما
أتابع عبقرية الاحتجاج عند الشاب أنس حبيب ابن العشرين ربيعا، وتابعت لقاءه مع
الإعلامي حافظ الميرازي بنفس الاهتمام الذي تابعت به لقاءه السابق مع أستاذه د.
حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية.
كما لا
أستغني عن معلومات وتحليلات د. خليل العناني، لا سيما مع ضيفه المتميز د. مأمون
فندي، وأتعامل مع كتابات د. سليم عزوز على أنها من الأوراد اليومية، كما أتوقع أن
يصبح اسم أ. أسعد طه في المستقبل القريب مرجعا لعلم التغريد، وفي كل نقاش أو حوار
مع د. علاء صادق أخرج بنتيجة واحدة، وهي أن جلال العلم لا يفارقه، حتى في الحديث
عن الرياضة واللعب، كما رأيت في د. محمد سليم العوا ود. سيف الدين عبد الفتاح
تجسيدا للفقه القانوني والسياسي، كالتي رأيتها في حلقات الفقه المقارن.
وجمعني
لقاء وحيد مع د. طارق الزمر ود. أيمن نور، فوجدت بينهما مشتركات كثيرة، مردها في
المجمل إلى طبيعة البيوت العريقة التي خرجا منها، والأسماء الكبيرة التي ينتسبان
إليها. وأتابع مسيرة م. سميح ساويرس المثيرة ودروسها المفيدة، وكلما دعوت لنفسي
بحسن الخاتمة أشركته في دعائي، كما أتابع كتابات أ. جمال سلطان بنفس درجة اهتمامي
بإنتاج م. محمد إلهامي، وأتعامل مع د. حلمي الجزار ود. عبد المنعم أبو الفتوح على
أنهما عناوين مرحلة ومن صناع تاريخها، ولا ينقضي عجبي من جسارة أ. عصام سلطان،
واتزان م. أبو العلا ماضي، وعقلانية د. محمد محسوب، وكيف تكونت بهم حالة "الوسط".
كثيرا ما
أشفقت على المناضل يحيى حسين عبد الهادي، الذي رضي بدفع فاتورة نضاله، ورفض حبس
لسانه أو مقاله، وستجد في نفس الصفحة على اليمين اسم د. مجدي قرقر، الذي سدد
الفاتورة نفسها.
أما
السفير محمد الطهطاوي فهو نسيج وحده، حيث أعاد صورا من الوفاء ورعاية المبادئ يندر
وجودها في واقعنا المعاصر، وعند كتابة التاريخ سيدخل من بوابته الخاصة، التي تسامي
بوابة أجداده؛ الشيخ رفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن باشا عزام. وعلى نفس درجة القرب
والصداقة كانت علاقتي مع الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، الذي مثّل حالة تجديد فريدة
في الحركة الإسلامية بعد جمود طويل، وقدم أداء مختلفا استفاد فيه من مشوار والده
الدعوي والبرلماني.
وعلى ذكر
البرلمان، ففي تجربة برلمان ما بعد 25 يناير 2011، كان أقرب النواب إليّ وأكثرهم
حفاوة بي، أ. محمد عبد العليم داود، وكيل المجلس عن حزب الوفد، وهو أول من تحدث من
النواب عن القدس وفلسطين في الجلسات الافتتاحية!
مصر التي هي كل هؤلاء، وكل واحد منهم يمثل لونا من ألوانها الزاهية، وطيفا من أطيافها المختلفة، وعبقرية ثرائها تكمن في هذا التنوع، ومعاند لطبائع الأشياء من يسعى لجعلها شيئا واحدا
مصر
يلخصها عندي حرصي على الجلسة الأسبوعية مع الشيخ المحدث أبي إسحاق الحويني،
والأخرى مع الفنان الساخر محمد باكوس، كذلك اعتزازي بالتلمذة على مدرسة د. يوسف
القرضاوي والشيخ محمد الغزالي، وطريقة د. عمر عبد الرحمن والشيخ أحمد المحلاوي.
مصر التي
هي كل هؤلاء، وكل واحد منهم يمثل لونا من ألوانها الزاهية، وطيفا من أطيافها
المختلفة، وعبقرية ثرائها تكمن في هذا التنوع، ومعاند لطبائع الأشياء من يسعى
لجعلها شيئا واحدا: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّة وَاحِدَة
ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ
خَلَقَهُمْ".. الآية (سورة هود).
وبقيت
السلطة في مصر في عقودها المتتابعة على مسافة واحدة من هذه الأطياف المختلفة،
واختطّت لنفسها قانونا يمنع تقريب أي صاحب رؤية أو فكرة مستقلة، لأن العقلية
العسكرية تقوم على الطاعة المطلقة، ومقياس النجاح في الانصياع للأوامر ولو جانبت
الصواب، وتعتبر النقاش في مراحله الأولى من عوامل تقويض الاستقرار، وأن مبدأ
الشورى مجرد لافتة لتمرير فكرة المعارضة "الشريرة"!
ولعل
تجربة الصديق العزيز د. عصام حجي في الاقتراب من دائرة الحكم، ثم خروجه سريعا
منها، خير دليل على ذلك، في الوقت الذي تفخر فيه جامعات الغرب بعمله فيها وانتسابه
إليها، وشاهدت تقريرا لزيارته للمدارس هناك، في إطار تقديم النموذج والقدوة
للأجيال الناشئة. غادرنا عصام حجي إلى وكالة ناسا وجامعات أمريكا، وبقي في مصر
نموذج عصام كاريكاتير!
ما ذكرته
من أسماء وتخصصات أردت به مضرب المثل في دائرة اهتمامي الخاصة، لكن الصورة المصرية
الحالية من كافة جوانبها تزخر بما يحمل مشروع نهضة أمة، وليس قُطرا أو مصر فقط.
ومصر بمجموع طاقتها ومواردها، وفي مقدمتها العنصر البشري، لو تهيأت لها الفرصة،
ووجدت المظلة الجامعة التي عمودها وقطب رحاها هذا التنوع، لحصلت مكانة الأستاذية،
وكانت بحق أم الدنيا.