قضايا وآراء

تنازع الأجهزة الأمنية المصرية بين انقلابين

قطب العربي
"السيسي تدخل لضبط التوازن المختل بين الأجهزة الأمنية وأحزابها المعبرة عنها"- AI
"السيسي تدخل لضبط التوازن المختل بين الأجهزة الأمنية وأحزابها المعبرة عنها"- AI
تعتمد النظم العسكرية الحاكمة بشكل عام على أجهزتها الأمنية، فهي تدرك أنها تحكم بلا شرعية حقيقية، وهي لا تولي الشعوب أي اعتبار، فقد وصلت إلى حكمها عبر صناديق الذخيرة القاتلة لا صناديق الانتخاب الحر، وتحرص هذه النظم العسكرية وعلى رأسها النظام المصري؛ على تقوية هذه الأجهزة لمواجهة أي تمرد شعبي، وفي سبيل ذلك تغدق عليها المزايا المادية والمعنوية، وتحرص على ضبط التوازن بينها بحيث لا يتضخم أحدها فيثير حفيظة غيره، أو حتى يصبح خطرا على النظام ذاته.

شهدت مصر هذه الصراعات بين الأجهزة الأمنية والعسكرية عقب انقلاب الثالث والعشرين من تموز/ يوليو 1952، وانقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، ورغم وجود بعض الاختلافات الشكلية في المشهدين، إلا أن الجوهر ظل واحدا، حيث يسعى كل جهاز أو سلاح لتعزيز نفوذه في منظومة الحكم على حساب غيره من الأجهزة والإدارات.

الانتخابات النيابية التي بدأت في مصر منذ آب/ أغسطس الماضي ولا تزال مستمرة، كشفت تنافسا خفيا بين 3 من الأجهزة الأمنية الكبرى، هذا التنافس بدأ عقب ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، حين انهار جهاز أمن الدولة على يد الثوار الذين اقتحموا مقراته، واستولوا على الكثير من ملفاته، وقد تم ذلك بضوء أخضر من الجيش في جزء منه، والذي سبق المتظاهرين في دخول المقر الرئيس للجهاز في مدينة القاهرة، بعد أن منع المتظاهرين من الاقتحام لبعض الوقت حتى تمكن من تهريب ضباط الجهاز، والوصول إلى أهم الوثائق والتسجيلات. كان هذا الموقف تعبيرا عن غضب مكتوم عبر سنوات حكم مبارك من جهاز أمن الدولة الذي استطال على ضباط الجيش أيضا.

بدأت الأجهزة الأمنية في إعادة تموضعها في المشهد العام، وأراد كل جهاز أن يعزز نفوذه في مفاصل السلطة وأدواتها، فأنشأت هذه الأجهزة أحزابا سياسية لتصبح واجهتها في النفوذ البرلماني والسياسي، وتنافست على إدارة المشهد الإعلامي

خلال فترة حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة عقب الثورة كان للمخابرات الحربية، والتي كان يرأسها اللواء عبد الفتاح السيسي، اليد العليا، وتولت هي إدارة جهاز أمن الدولة، وساعدته على إعادة بناء نفسه، وإعادة تسميته ليكون جهاز الأمن الوطني، وأصبحت المخابرات الحربية هي التي تدير العديد من الملفات التي تخرج عن طبيعة اختصاصها الأصلي، المتعلق بمتابعة الوضع الأمني داخل القوات المسلحة، وفي المناطق الحدودية بشكل خاص.

عقب انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 كان جهاز الأمن الوطني قد استرد عافيته، وكان قد ساهم بقوة في الحشد والتعبئة لمظاهرات 30 حزيران/ يونيو 2013 ضد حكم الرئيس مرسي، إلى جانب الجهازين الآخرين وهما المخابرات الحربية التي ظلت صاحبة يد عليا خاصة في الملف الإعلامي، والمخابرات العامة التي تعرضت لعمليات غربلة متصلة أسفرت عن إقالة عدد كبير من قياداتها العليا التي لم يكن السيسي يثق في ولائها التام له.

بدأت الأجهزة الأمنية في إعادة تموضعها في المشهد العام، وأراد كل جهاز أن يعزز نفوذه في مفاصل السلطة وأدواتها، فأنشأت هذه الأجهزة أحزابا سياسية لتصبح واجهتها في النفوذ البرلماني والسياسي، وتنافست على إدارة المشهد الإعلامي، فتنافست في تأسيس قنوات تلفزيونية ومواقع صحفية، كانت اليد العليا للمخابرات الحربية مع ترؤس اللواء عباس كامل لها، ومع انتقاله لرئاسة المخابرات العامة انتقل النفوذ في المشهد الإعلامي لها، حيث تم توحيد غالبية القنوات والشركات الإعلامية تحت سقف الشركة المتحدة للإنتاج الإعلامي والتابعة بدورها لصندوق إيجل كابيتال الذي يدير استثمارات المخابرات العامة.

ظل التنافس قويا على النفوذ البرلماني والسياسي، وفي أول انتخابات برلمانية عقب الانقلاب في 2015 أدار الملف ضابط خدم سابقا في المخابرات الحربية والعامة، وهو اللواء سامح سيف اليزل الذي أوكلت إليه مهمة المقرر العام لقائمة في حب مصر، وهي القائمة التي ضمت الأحزاب الأمنية الجديدة مع بعض الأحزاب الأخرى، ولأن الأحزاب الأمنية كانت حديثة عهد، إذ تم تشكيلها قبل الانتخابات بشهور قليلة فلم يتم تصديرها للفائزين، بل حل حزب مستقبل وطن (الأمن الوطني) في المركز الثاني بعد حزب المصريين الأحرار الذي أسسه رجل الأعمال نجيب ساويرس، وكان في تلك الفترة أكبر داعم للنظام الجديد، وحل حزب حماة وطن (المخابرات الحربية) رابعا بعد حزب الوفد، فيما حل حزب الشعب الجمهوري (الأمن الوطني) في المركز الخامس.

تغير المشهد في انتخابات 2020، حيث تصدرت الأحزاب الأمنية المراكز الثلاثة الأولى، وكانت الصدارة لحزب مستقبل وطن (الأمن الوطني)، وحماة وطن (المخابرات الحربية)، والشعب الجمهوري (الأمن الوطني أيضا)، ولم تكن المخابرات العامة دخلت المنافسة بعد، وقد حاولت اللحاق بالركب عبر تأسيس حزب الجبهة الوطنية أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2024 ليشارك في الانتخابات النيابية الحالية، ولكن المفاجأة أنه حل ثالثا وبفارق كبير جدا عن حزب مستقبل وطن الذي حصل مع رديفه الشعب الجمهوري على نصف مقاعد القوائم، وبفارق كبير أيضا عن حزب حماة وطن. وهذه النتائج النهائية في انتخابات مجلس الشيوخ، والأولية في انتخابات مجلس النواب؛ تكشف الأوزان النسبية الحالية لكل جهاز في إدارة المشهد السياسي الداخلي، ومن الواضح كما كتبت سابقا أن السيسي تدخل لضبط التوازن المختل بين الأجهزة الأمنية وأحزابها المعبرة عنها، وذلك عبر إعادة الانتخابات في 19 دائرة ستعيد جزئيا تشكيل الخارطة البرلمانية لمحاولة منع تصاعد التنافس، أو وصوله إلى مرحلة التنازع، والصراع بين الأجهزة الأمنية.

أشرت في مقالات سابقة أيضا إلى أن تضارب توجهات الأجهزة الأمنية تسبب في ارتباك سياسي، فقد حاولت المخابرات العامة عبر رؤيتها التقليدية إقناع السيسي بفتح نوافذ بسيطة للتنفيس السياسي لمنع الانفجار، وكان من ذلك فكرة الحوار الوطني، وتشكيل لجنة للعفو الرئاسي، ومحاولة ترميم صف 30 يونيو كحاضنة شعبية للنظام، إلا أن جهاز الأمن الوطني تدخل في كل مرة ليفسد تلك الخطط، فأفرغ الحوار الوطني من مضمونه، وهكذا ظهر تعاظم نفوذ جهاز الأمن الوطني، فهو يجيد لعبة تخويف رأس النظام من الخطر المحدق به إذا سمح بأي تنفيس سياسي، لكننا الآن بصدد غضب يتفاعل داخليا حول النفوذ بين الأجهزة المختلفة استدعى تدخل السيسي، وليس معلوما إلى أين سيصل هذا الغضب والتنازع.

لكننا الآن بصدد غضب يتفاعل داخليا حول النفوذ بين الأجهزة المختلفة استدعى تدخل السيسي، وليس معلوما إلى أين سيصل هذا الغضب والتنازع

ما يحدث حاليا من تنافس بين الأجهزة الأمنية لا يبتعد كثيرا عن جوهر الصراع الذي شهدته الأذرع العسكرية والأمنية لنظام 23 يوليو 1952، فقد وصل الأمر في تلك الفترة حد رفع السلاح بين القوى العسكرية، مثل سلاحي الفرسان والمدفعية، كما "تعملقت" المخابرات العامة، حتى صار شائعا مصطلح "دولة المخابرات" التي لم تقتصر على وظائفها الرئيسية، بل تدخلت في الشأن السياسي والأمني الداخلي بشكل طاغ على بقية الأجهزة. وقد استغل عبد الناصر هزيمة 1967 في تطهير جهاز المخابرات، ومحاكمة رئيسه صلاح نصر، وعدد من قياداته ضمن محاكمة المسئولين عن الهزيمة وعما وُصف بمحاولة انقلابية ضده في ذلك الوقت بقيادة المشير عبد الحكيم عامر.. وقد حرص كلا من السادات ومبارك على ضبط التوازن بين الأجهزة الأمنية طيلة حكمهما، مع عدم السماح لأي جهاز بالخروج عن اختصاصاته الوظيفية.

حين تغيب الديمقراطية، والمنافسة السياسية الحقيقية، تكون الساحة خالية لمراكز القوى داخل النظام، حيث تغري القوة صاحبها باستخدامها لتعزيز نفوذه، ومع السعي لتعزيز النفوذ يحرص كل جهاز على تأكيد ولائه للنظام، وأنه الأكثر قدرة على حمايته، ومواجهة خصومه، لكن مصر في غنى عن هذا التنافس أو التنازع الأمني، لأنه ضار بالدولة نفسها، وأمنها وصورتها، والحل هو إصلاح سياسي شامل يعيد المسار الديمقراطي، والحكم المدني بشكل كامل، والانتخابات التنافسية الحرة، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ويعيد الجيش لثكناته، مع ترسيم الحدود والاختصاصات بين الأجهزة الأمنية وفقا لقواعد دستورية وقانونية صارمة.

x.com/kotbelaraby
التعليقات (0)