لم
يكن فوز المرشح الديمقراطي زهران
ممداني منبتّ الصلة بطوفان الأقصى الذي قاده رجال
غزة صبيحة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بل كان أحد ثمار ذلك الطوفان الذي
ظهرت له ثمار أخرى في مناطق متفرقة من العالم، وإن لم تستفد غزة نفسها بالقدر ذاته
كما استفاد غيرها، بل إنها تعرضت للخراب والدمار الشديد ناهيك عن فقدانها لحوالي
70 ألف شهيد حتى الآن، والمأمول أن يرد كل من استفاد من غزة هذا الجميل لها، عبر
المساهمة في تثبيت وقف الحرب، وإعادة إعمار القطاع، وتعويض أهله، والإسهام في
تحقيق الحلم الفلسطيني بوطن مستقل عاصمته القدس.
ليس
خافيا أن العدوان على غزة حرّك أصحاب الضمائر الحية عبر العالم، فانطلقت المظاهرات
في العديد من المدن والعواصم التي لم تكن تلقي بالا لمثل هذه الاعتداءات من قبل،
وكان المشهد أكثر حيوية في واشنطن ونيويورك وبقية الولايات الأمريكية التي قاد
التظاهر فيها جيل الشباب، وخاصة طلاب الجامعات الكبرى، وكشفت هذه المظاهرات عن روح
جديدة انتشرت من واشنطن ونيويورك إلى لندن وباريس وبرلين وروما وبروكسل ولشبونة
وأوتاوا، وطوكيو، بخلاف العواصم والمدن الأخرى.
لخطاب الهوياتي الثقافي وحده ليس مقنعا للناخب للتصويت لصاحبه؛ يمكن أن يجذب شريحة ممن يعتنقون الأفكار ذاتها، لكنه سيتوقف عند حدودهم، كما أن خطاب الخدمات العامة وحدة ليس كافيا لإقناع غالبية الناخبين، الذين يحتاجون لمعرفة المرجعيات السياسية والفكرية والثوابت الأساسية للمرشح التي تجعلهم قادرين على معرفة طريقة تفكيره، والتنبؤ بمواقفه في القضايا المختلفة، الجمع بين الأمرين على طريقة ممداني هو خلطة النجاح
كان
فوز ممداني (محمداني) ثمرة لهذه الروح الجديدة التي غزت
نيويورك، ورغم فوز مسلمين
آخرين بمنصب العمدة في مدن أمريكية أخرى، مثل عبد الله حمود (ديربورن)، وفيض
الكبير (كوليج بارك)، ومحمد بيضون (ديربورن هايتس)، وتيد غرين (إيست أورانج)،
بخلاف عشرات فازوا بعضوية مجالس مدن، ومجالس تشريعية وتعليمية وقضائية، إلا أن
الفوز بمنصب عمدة نيويورك يعدل منفردا كل ذلك، فنحن نتحدث عن مدينة هي دولة عظمى بذاتها
رغم أنها جزء من ولاية نيويورك، وهي تعتبر عاصمة العالم السياسية باحتضانها للأمم
المتحدة، والعديد من مؤسساتها، كما أنها عاصمة العالم الاقتصادية باقتصاد يبلغ 2,5
تريليون دولار سنويا يعادل الناتج الإجمالي لجميع الدول العربية (مع استبعاد
السعودية)، ويضعها في الترتيب الثامن ضمن أقوى عشر اقتصادات عالمية لتسبق إيطاليا،
وكندا، وروسيا والبرازيل، والمكسيك، وحتى أستراليا، وهي تحتض أكبر بورصة في العالم
(وول ستريت). ولك أن تتخيل عزيزي القارئ عمدة يدير هكذا مدينة هي مصنع الأحداث
السياسية والاقتصادية في العالم، ناهيك عن شئونها المحلية التي تهم الناخبين بشكل
أساسي، والذين قدم لهم ممداني وعودا انتخابية لتحسين معيشتهم، خاصة في مجال السكن
والمواصلات والخدمات العامة الأخرى، كما أن حملته القوية نجحت في مواجهة أساطين
المال والأعمال الذين أنفقوا بسخاء لإسقاطه.
منذ
اللحظات الأولى للعدوان الإسرائيلي على غزة شارك ممداني في المظاهرات الرافضة له،
ولم يخف دعمه للحق الفلسطيني، وحين ترشح لمنصب عمدة نيويورك جعل هذا الموقف أحد
العناوين الرئيسية لحملته الانتخابية في مدينة تحتضن أكبر وأقوى كتلة يهودية في
العالم. لقد كان من تجليات الطوفان أيضا هو التحول داخل هذه الكتلة اليهودية، حيث شارك
الكثير من أبنائها وحاخاماتها في المظاهرات الرافضة للعدوان على غزة، وشاركوا في
الضغط على حكومة ترامب لتلعب دورا في وقف الحرب، وبالتالي لم يكن وجود هذه الكتلة
اليهودية الكبيرة عائقا أمام ممداني، بل كان داعما له، إضافة طبعا إلى دعم المسلمين
الذين تفاخر بانتمائه إليهم، وتعهد بتحسين صورتهم، كما دعمته بقية الأقليات
الدينية والعرقية والثقافية بما فيهم المثليين!!
لا
ندافع بطبيعة الحال عن دعمه للمثليين، أو دعمهم له، كما لا نتوقف كثيرا عند مذهبه
الديني الإسلامي، فلم يكن المنصب الذي ترشح له هو مشيخة الأزهر، أو رئاسة منظمة
الدول الإسلامية، أو حتى المركز الإسلامي في نيويورك، بل هو منصب عمدة المدينة
التي تضم كل الفئات، وحتى نخرج من جدل الدين والطائفة، علينا أن نفترض أن ممداني
ليس مسلما بالأساس، لا شيعي ولا سني، لكنه مرشح اشتراكي ديمقراطي مناصر للعدالة
الاجتماعية، ومناصر للقضية الفلسطينية، ورافض للإسلاموفوبيا، بالتأكيد كنا سنسعد
بفوزه أيضا، وهذا ما يحدث عادة حين تفوز أحزاب أو شخصيات في مواجهة اليمين العنصري
في أوروبا مثلا.
خطاب
ممداني الانتخابي والذي اعتمد على برنامج خدمي مغري للناخب النيويوركي، دون أن يتنصل
من ديانته الإسلامية، أو انتمائه السياسي (الاشتراكي) أو دعمه للقضية الفلسطينية؛
نموذج للساعين للسلطة في كل المجتمعات، وخاصة تلك المتنوعة دينيا وعرقيا وثقافيا، فالخطاب
الهوياتي الثقافي وحده ليس مقنعا للناخب للتصويت لصاحبه؛ يمكن أن يجذب شريحة ممن
يعتنقون الأفكار ذاتها، لكنه سيتوقف عند حدودهم، كما أن خطاب الخدمات العامة وحدة
ليس كافيا لإقناع غالبية الناخبين، الذين يحتاجون لمعرفة المرجعيات السياسية
والفكرية والثوابت الأساسية للمرشح التي تجعلهم قادرين على معرفة طريقة تفكيره،
والتنبؤ بمواقفه في القضايا المختلفة، الجمع بين الأمرين على طريقة ممداني هو خلطة
النجاح.
تجربة ممداني كانت ملهمة في جزئها الأول، بدءا من المنافسة على الترشح باسم الحزب الديمقراطي مرورا بالمنافسة مع عتاة السياسة والاقتصاد، ثم الفوز بالمنصب الأقوى بين عُمد الولايات المتحدة، لكن الجزء الثاني من التجربة لا يزال تحت الاختبار، والقصد هنا هو الإدارة الفعلية للمدينة، وتنفيذ الوعود الانتخابية الكبيرة
شبكة
التحالفات التي بناها ممداني والتي جعلت كل فرع من تلك الشبكة يشعر أن ممداني هو
مرشحه المثالي رغم اختلافه معه في بعض القضايا؛ هي خلطة سحرية أيضا، فقد جمعت
حملته المسلمين إلى جانب المسيحيين واليهود، وجمعت العمال إلى جانب رجال الأعمال،
والشباب إلى جانب الشيوخ. ليس المطلوب تقليدا أعمى أو استنساخا تاما لتجربة ممداني،
فلكل بلد خصوصيته التي تفرض أشكالا مختلفة من التحالفات، لكن الرسالة الأساسية هنا
هي كلما استطاع المرشح توسيع تحالفاته كلما كان أقدر على الفوز، وعلى الحكم أيضا،
لأنه سيسند ظهره إلى هذه الشبكة القوية والمتنوعة.
تجربة
ممداني كانت ملهمة في جزئها الأول، بدءا من المنافسة على الترشح باسم الحزب
الديمقراطي مرورا بالمنافسة مع عتاة السياسة والاقتصاد، ثم الفوز بالمنصب الأقوى بين
عُمد الولايات المتحدة، لكن الجزء الثاني من التجربة لا يزال تحت الاختبار، والقصد
هنا هو الإدارة الفعلية للمدينة، وتنفيذ الوعود الانتخابية الكبيرة. وليس خافيا أن
الكثير من مراكز القوى السياسية والاقتصادية التي ناصبت ممداني العداء خلال حملته ولم
تسعد بفوزه، وستكمل مشوراها لإفشاله حتى يكون عبرة لمن يتمرد عليها، وعلى رأس هذه القوى
الرئيس ترامب شخصيا الذي هدد بقطع التمويل الاتحادي عن المدينة، وهو ما سينعكس
سلبا على برامج الحماية الاجتماعية للفئات الأقل دخلا، وليس معروفا هل سيستطيع
الرئيس تنفيذ تهديداته، أم ستظل مجرد كلام أجوف مثل الكثير من كلامه!
وقد
سارعت إحدى المنظمات اليهودية المتطرفة بتدشين مركز مراقبة لرصد سياسات وقرارات وإجراءات
ممداني، لتعد عليه أنفاسه، وتربك إدارته؛ الرهان هنا على قدرات ممداني الشخصية في
مواجهة هذه المحاولات لإفشاله، وكذا على مساندة حزبه الديمقراطي، وكل القطاعات
التي انتخبته.
x.com/kotbelaraby