مدونات

القاهرة ليست زحمة.. بل مطلوبة للبيع

سيلين ساري
"المدن الجديدة لا تُطرح كخيار حر يُغري بالانتقال، بل كمسار إجباري يُدفع إليه المواطن دفعا"- الأناضول
"المدن الجديدة لا تُطرح كخيار حر يُغري بالانتقال، بل كمسار إجباري يُدفع إليه المواطن دفعا"- الأناضول
شارك الخبر
حين يقول محافظ القاهرة للمواطنين: "العاصمة بقت زحمة، اخرجوا للمدن الجديدة"، ثم يُلحقها بعبارة عن الإحالة للنيابة والإزالة، فهو لا يتحدث عن المرور ولا عن التنظيم، بل يقرأ نصا مكتوبا سلفا في عقل السلطة: القاهرة يجب أن تُفرَّغ.

هذا ليس خطاب خدمة عامة، بل خطاب "إزاحة ناعمة للسكان" لصالح مستثمرين أجانب، وإفراغ مدينة عريقة لصالح رأس المال، وإعادة تعريف البشر باعتبارهم عائقا لا أصحاب حق.

في خطاب محافظ القاهرة، لم تُقدَّم المشكلة على أنها فشل بسبب المركزية أو سوء التخطيط أو نقص خدمات في باقي محافظات الدولة أدى للهجرة إلى العاصمة، بل تنصل تام من الحكومة والنظام من ذلك الفشل، وجُعل كل الخطأ والفشل على المواطن وتحويله إلى عبء يجب التخلص منه.

هذا ليس خطاب خدمة عامة، بل خطاب "إزاحة ناعمة للسكان" لصالح مستثمرين أجانب، وإفراغ مدينة عريقة لصالح رأس المال، وإعادة تعريف البشر باعتبارهم عائقا لا أصحاب حق

المدن الجديدة لا تُطرح كخيار حر يُغري بالانتقال، بل كمسار إجباري يُدفع إليه المواطن دفعا. لا حديث عن أسعار سكن يمكن احتمالها، ولا عن مواصلات، ولا عن عمل، ولا عن مدارس أو مستشفيات. الانتقال هنا ليس عرضا، بل توجيها فوقيا، أقرب إلى قرار إداري منه إلى سياسة إسكان، والقانون يتحول من حماية إلى تهديد. هذا الإطار يمهد لإزاحة سكان العاصمة لصالح الاستثمار وإعادة هيكلة المدينة.

فالقاهرة الخديوية، والقاهرة الإسلامية خاصة، لم تعودا في نظر السلطة مدينتين حيّتين، بل "أراضي فرص". شوارع لها قيمة تاريخية؟ لا.. عمارات مأهولة بذاكرة الناس؟ لا. إنها في الخطاب الرسمي "أصول غير مستغلة"، تحتاج فقط إلى إزالة العائق الأخير: "السكان".

وما تجهله العقلية الإدارية التي تتعامل مع المدينة كمشروع هندسي أو ملف عقاري، هو أن القيمة الحقيقية لتلك الأحياء ليست في الحجر والجص والواجهات المزخرفة وحدها، بل في الروح التي يحقنها المصريون بتفاصيل حياتهم داخل تلك العمارة. إنها روح تصنعها حكايات الأجيال على عتبات البيوت، وضجَّة الحياة في الدروب، وتداخل الأصوات والأعياد والروائح اليومية. هذه الروح هي التي تحوِّل الحجر إلى ذاكرة حية، والشارع إلى وطن. فإذا فُصِل الجسد عن روحه -بإخراج هذه الحياة وإسكانها قسرا في مكان آخر - تتحول العمارة إلى دُمى محنطة في متحف مفتوح، جميلة للعين لكنها ميتة للقلب، بلا "قرمة" أو نكهة أو دفء. وبهذا، لا تخسر القاهرة سكانا فحسب، بل تخسر تاريخها الحي ذاته، محوِّلة حضارتها المستمرة إلى أطلال صامتة تُباع لأعلى مُزايد.

ومن هنا نفهم لماذا لا يُطرح الانتقال كخيار، بل كاتجاه وأمر لا يناقش. لماذا لا يُسأل أين سيعمل الناس؟ كيف سيتنقلون؟ كيف سيدفعون؟ لأن الهدف ليس حل مشكلة كما يزعمون، بل إخلاء المركز.

وهنا كان قانون الإيجار القديم الذي اُدخل من الباب الخلفي بوصفه "تصحيحا تشريعيا"، بينما هو مجرد أداة تفريغ ناعمة بلا جرافات ولا صور صادمة. فمعظم سكان القاهرة الخديوية والإسلامية خاضعون له، ومع تطبيقه تصبح النتيجة معروفة سلفا: عجز عن الدفع، ونزاعات، وخروج قسري مغلّف بالقانون.

أي وطن يمكن أن يبقى ونظامه لا يرى في شعبه إلا عائقا أمام الصفقات؟ إزاحة للفلاحين من أجل الأجانب، إزاحة للعمال من أجل المستثمرين، إزاحة للسكان من أجل المستثمرين الأجانب

وحدات تُسلَّم "نظيفة" للمستثمر، حيث عدد الملاك أقل بكثير من عدد المستأجرين وإزالتهم أسهل. هكذا تُنجز الإزاحة دون أن تُسمّى إزاحة، وهكذا يتحول القانون من أداة عدالة إلى وسيط عقاري يعمل لصالح الملاك الجدد من الأجانب.

ولم ينسَ الخطاب الرسمي إضافة بعض المشاعر الزائفة ليقول: "مش بنبقى مبسوطين بإحالة المواطنين للنيابة". وكأن المشكلة في المشاعر لا في الفعل، وكأن العقاب قدرٌ حزين وليس سياسة مقصودة.

الحقيقة أبسط وأقسى.. ما يحدث ليس تنظيما بل إعادة هندسة قسرية للمدينة.. ليس تطويرا بل تغيير هوية، وليس علاجا للزحام بل تمهيد للبيع. القاهرة لا تُفرَّغ لأنها مكتظة، بل لأنها ثمينة، والسلطة لا تريد مدينة يعيش فيها أهلها، بل واجهة تُدار وتُسوَّق وتُستثمر.. بعد أن يخرج آخر سكانها من المشهد.

في النهاية، أي وطن يمكن أن يبقى ونظامه لا يرى في شعبه إلا عائقا أمام الصفقات؟ إزاحة للفلاحين من أجل الأجانب، إزاحة للعمال من أجل المستثمرين، إزاحة للسكان من أجل المستثمرين الأجانب.

هكذا تُباع القاهرة: جسدا بلا روح، وحجارة بلا ذاكرة. تاريخ يُشطب بإزاحة، وحضارة تُستبدل بفاتورة. ويبقى السؤال معلقا في هواء المدينة الذي يفرغ من أنفاس أهله: من سيشتري وطنا قد بيعت روحه؟
التعليقات (0)

خبر عاجل