مدونات

هل تستحوذ الإمارات على مشروع محمد مرسي؟!

سيلين ساري
"هل مصر بحاجة إلى محطات تموين.. أم كانت المحطات بحاجة إلى مصر؟"- الأناضول
"هل مصر بحاجة إلى محطات تموين.. أم كانت المحطات بحاجة إلى مصر؟"- الأناضول
شارك الخبر
منذ أن وقف ديليسبس على ضفاف برزخ ضيق بين بحرين وراح يُقنع الخديوي سعيد بأن شق الرمل سيشق التاريخ؛ لم تصبح قناة السويس مجرد ممر مائي بل أصبحت ميزانا حساسا يُظهر لمن تكون الكلمة في الإقليم. فكل قوة مرّت من هنا تركت ظلها: من الاحتلال الأوروبي إلى الاحتلال العسكري عام 1952؛ كل حروبنا في التاريخ الحديث دارت من أجل هذا الشريان الأزرق، وحتى التحولات الاقتصادية التي جعلت القناة قلبا نابضا في جسد التجارة العالمية؛ ما من لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة إلا وكانت القناة أحد فصولها المخفية.

واليوم تعود القناة لواجهة الصراع ليس لاحتلال أجنبي عسكري جديد، بل باحتلال اقتصادي يتغلغل كالسرطان في الجسد وهو أشد فتكا من الاحتلال العسكري.

محطات على جانبي القناة.. أم محطات على بوابة السيادة
في مشروع كهذا لا يبدو أن الهدف مجرد بيع الوقود للسفن، الهدف الأعمق هو من يملك الخدمة ومن يتحكم في عصب الملاحة البحرية، ومن يجلس على بوابة البحر التي تمر منها 12 في المئة من تجارة العالم

ليست كل القرارات الاقتصادية تُقرأ من ظاهرها ولا كل المشاريع تُقاس بأرقامها اللامعة، أحيانا يكون المشروع مجرد جملة منمقة تُخفي خلفها مسارا سياسيا كاملا، وربما قدرا جديدا ترسمه الدولة لمنطقة من أكثر مناطقها حساسية.

وهكذا يبدو القرار الأخير بإنشاء محطات تموين ثابتة وعائمة في قناة السويس بقيمة مليار دولار قرارا يبدو للوهلة الأولى تطويريا، لكنه في الحقيقة يفتح بابا واسعا للأسئلة.. أسئلة تمس جوهر السيادة قبل أن تمس الاقتصاد.

بين لغة الاستثمار.. وملامح الاستحواذ

اللغة الرسمية تتحدث عن "شراكة مع القطاع الخاص" وكأنها وصف سحري يوقظ في الأذهان روح المبادرة وثراء المستقبل، لكننا في مصر تعلمنا أن المصطلحات لا تحمل دائما معناها، وأن "القطاع الخاص" ليس دائما مصريا، ولا وطنيا، ولا حتى شريكا بالمعنى الحقيقي بل قد يكون بوابة لدخول نفوذ خارجي يندس عبر الاقتصاد ليصل إلى السياسة.

في مشروع كهذا لا يبدو أن الهدف مجرد بيع الوقود للسفن، الهدف الأعمق هو من يملك الخدمة ومن يتحكم في عصب الملاحة البحرية، ومن يجلس على بوابة البحر التي تمر منها 12 في المئة من تجارة العالم.

لمن تُبنى المحطات؟

المليار دولار ليست السؤال.. السؤال هو: من سيدير هذه المحطات حين تُبنى ومن سيحصد أرباحها، ومن يستيقظ يوما ليجد أن خدمات القناة خدمات القناة التي حافظ عليها المصريون بدمائهم قد أصبحت ورقة في يد شركة أجنبية أو صندوق سيادي لدولة ليست مصر؟

المشكلة ليست في محطة الوقود، بل في أن من يملك محطة الوقود اليوم يستطيع أن يملك قرار الحركة غدا.

القناة ليست مشروعا عقاريا

القناة ليست أرضا في أطراف العاصمة تُباع وتُشترى، هي شريان سيادي خط دم قومي لا يجوز الاقتراب منه بقواعد الاستثمار العادية. لكن حين تُضغط الدولة اقتصاديا، وحين يحتاج صانع القرار إلى "سيولة عاجلة"، يصبح كل شيء قابلا لإعادة التفاوض: من أسعار الخدمات إلى حدود النفوذ إلى أعمدة السيادة نفسها.

وهنا تكمن الخطورة؛ القرار الاقتصادي الذي يُتخذ تحت ضغط قد يتحول مع الزمن إلى واقع سياسي لا يمكن التراجع عنه.

اقتصاد مقيد.. فيستدعي شركاء بلا سقف

ليس سرا أن الدولة تبحث عن دولارات عاجلة، وليس سرا أن الحكومات الخليجية تمتلك فائضا ماليا ورغبة متزايدة في النفاذ إلى أصول استراتيجية في المنطقة، وعندما يلتقي العطش بالوفرة تتولد صفقات تبدو "استثمارية" على الورق لكنها في الحقيقة توزيع جديد للسلطة الاقتصادية.

ولأن الخدمات البحرية في القناة هي الذهب الحقيقي، فقد حانت اللحظة التي يرى فيها الشركاء لا المستثمرون فرصتهم للتمدد.

الفصل الذي لا يريد أحد أن يتذكره: مشروع مرسي.. وجبل علي

ما يحدث اليوم ليس جديدا، فقبل اثني عشر عاما فقط عندما حاول الرئيس الراحل محمد مرسي إعادة صياغة مستقبل القناة عبر مشروع لوجيستي ضخم كان سيقلب توازنات المنطقة؛ تدخل الإقليم لوقف المشروع لأن القناة حين تُدار بأيدي المصريين وحدهم يتغير شكل الخليج، وشرق المتوسط وتختل موازين القوة التجارية.

حينها انتفض كل أعداء مصر متربصين بذاك المشروع الذي اعتبرته الإمارات وكل الموالين لها مشروعا خطيرا على أمنها القومي والاقتصادي؛ لأنه ببساطة سيجذب خطوط الملاحة ويخلق مناطق تصنيع كاملة، ويجعل من الممر المصري منافسا مباشرا وربما مدمرا منطقة جبل علي.

لذلك تحركت الإمارات بكل ثقلها، ولذلك كان مشروع القناة أحد أهم الأسباب التي جعلتها تدعم الانقلاب على مرسي بلا تردد؛ لأن المشروع لم يكن تطويرا بل كان منافسة، والمنافسة في أعين بعض الدول خطيئة لا تُغتفر. وهذا ما كشفته الوثائق لاحقا.

كان مشروع القناة أحد أهم الأسباب التي جعلتها تدعم الانقلاب على مرسي بلا تردد؛ لأن المشروع لم يكن تطويرا بل كان منافسة، والمنافسة في أعين بعض الدول خطيئة لا تُغتفر. وهذا ما كشفته الوثائق لاحقا

فلماذا تصمت الإمارات اليوم؟ الصمت ليس غيابا عن المشهد، الصمت قد يكون حضورا كاملا؛ لأن ما عرضه السيسي اليوم ليس مشروعا قوميا مصريا خالصا كالذي عرضه مرسي سابقا، بل مشروعا استثماريا مصري الاسم أجنبي الهوية، فلا يجد أصحاب النفوذ اليوم أنفسهم مضطرين للاعتراض. فالقرار لم يعد تهديدا لهم بل ربما امتدادا لهم، لأن الإمارات لم تعد تخشى من مشروع يزيح جبل علي، لماذا؟ لأنها غالبا ستكون جزءا منه، أو مالكة لأصوله، أو ممسكة بخيوط إدارته، أو شريكا رئيسيا في عوائده، أو على الأقل لديها حق الفيتو غير المعلن في تصميمه وتشغيله.

حين يتحول المشروع من منافس إلى ذراع، من تهديد إلى استثمار، من خصم إلى شريك؛ ينتهي الخوف ويبدأ الصمت، وهذا هو مربط الفرس.

الاقتصاد لا ينفصل عن الجغرافيا.. ولا الجغرافيا عن التاريخ

حين نفهم الضرورات الجيوسياسية ندرك أن السيطرة على الخدمات البحرية تعني التحكم في مستقبل الممر نفسه، والممر الذي يبدأ بمحطة تموين قد ينتهي بإدارة تشغيل ثم باتفاقية خدمة طويلة ثم بشراكة ممتدة تتجاوز عمر الحكومات. هكذا تُبنى التحولات الكبرى، بخطوة صغيرة ثم خطوة أكبر ثم واقع كامل يصعب تغييره.

من يدفع الثمن؟ الشعب.. دائما الشعب، فالمشاريع التي تُبنى بالدين تُسدد من جيوبه، والمشاريع التي تُخصخص تدريجيا تُفقده ملكية مرافقه العامة، والمشاريع التي تُسلَّم لجهات خارجية تُقيد سيادته لعقود.

نظل نحن الشعب الوحيد الذي يسير ماضيه مع حاضره في دوائر لا نهائية وليس في خطوط مستقيمة، نفس الأخطاء ونفس ردود الفعل، مشاريعنا القومية تصبح أدوات للتحكم الأجنبي بنا، والشاهد قناة السويس.

وفي النهاية لا يبقى من القرار سوى سؤال واحد: هل كانت مصر بحاجة إلى محطات تموين.. أم كانت المحطات بحاجة إلى مصر؟
التعليقات (0)

خبر عاجل