أفكَار

حين تعيد إسرائيل رسم الخرائط.. من خطاب القوة إلى مأزق الواقع (2من3)

قامت "دولة اسرائيل" منذ نشأتها بفضل المدد الغربي لها وهي كيان روابطه منقطعة مع محيطه المباشر وممتدة لما وراء البحار والمحيطات.. فيسبوك
قامت "دولة اسرائيل" منذ نشأتها بفضل المدد الغربي لها وهي كيان روابطه منقطعة مع محيطه المباشر وممتدة لما وراء البحار والمحيطات.. فيسبوك
هذا الجزء الثاني من ورقة فكرية أعدها خصيصًا الوزير التونسي السابق أحمد قعلول لـ"عربي21"، ويتناول الشروط التي قامت عليها الإمبراطوريات التاريخية وكيفية تحقيقها للسيطرة والاستقرار عبر منظومة قيمية وثقافية وسياسية متكاملة.

كما يستعرض قعلول العوائق البنيوية التي تحول دون قدرة إسرائيل على التحول إلى كيان إمبراطوري، بما في ذلك العائق القيمي والثقافي، السردية، الديموغرافي والجيوسياسي، موضحًا كيف أن الصهيونية لم تسلك مسار تطوير منظومة قيمية شاملة كما فعلت إمبراطوريات تاريخية كالصينية والرومانية، بل اعتمدت على محاولة تغيير المحيط الثقافي والسيطرة على السردية التاريخية، وسط تحديات ديمغرافية وجيوسياسية تقف حجر عثرة أمام مشروع "إسرائيل الكبرى".

في شروط الكيانات الإمبراطورية

قامت العديد من الإمبراطوريات في العالم على مر التاريخ أكان ذلك الإمبراطورية الفارسية والصينية، أو الرومانية، أو البيزنطية، أو الإمبراطوريات الإسلامية المتعددة، البريطانية أو الأمريكية وغيرها وقد كان قيام واستقرار هذه الإمبراطوريات مرتكزا على مجموعة من الشروط.

من أهم شروط وجود هذه الإمبراطورية تعريفها للمنتمين إليها وطبيعة الانتماء لسلطانها، فقد كانت كلها قائمة على أساس القبول بالتنوع العرقي والتعويل على منظومة قيم واسعة تسمح بانتماء المختلفين وتسمح بالتعدد والتنوع. وقد كانت الصين بإمبراطورياتها المتعددة والمتعاقبة، كما يبن ذلك "فرانسيس فوكياما" في كتابه عن أصول الأنظمة السياسية من أول الدول في تاريخ البشرية التي طورت منظومة للانتماء للدولة بناء على نظام بيروقراطية عامة تسمح لكل من يستجيب لها بغض النظر عن عرقه وخلفيته الثقافية كي يصبح ضمن بيروقراطية الدولة ومنظومة حكمها.

كما أن المطلع على قيم "الديانة الزرادشتية" مثلا يدرك أن منظومة قيمها كانت عاملا أساسيا في هيمنة الامبراطورية الفارسية وقد كان الخلل الذي أصاب تلك القيم عاملا أساسيا في سقوط تلك الإمبراطورية.  وكذلك كانت المسيحية بما هي منظومة قيم إنسانية أقدر من الديانة الوثنية في توحيد وبسط السلطة السياسية للإمبراطورية الرومانية بما أنها ساعدت على حل إشكال إعادة تعريف المواطن الروماني ولذلك فقد سارع قسطنطين بتبنيها وتحويلها لدين رسمي للإمبراطورية.. إن من أهم هذه المؤشرات ما لجأ إليه "قسطنطين" عند تأسيسه للعاصمة الشرقية للإمبراطورية الرومانية التي أدى توسعها لتفككها فما كان منه الا اللجوء لتبني الديانة المسيحية كقاعدة أخلاقية وقيمية سمحت لروما بالتوسع والاستمرار على اساس القيم المسيحية.

خلاصة القول فإنه لا يمكن أن تقوم الدول بأي تعريف وبنية لسلطتها دون منظومة ثقافية وقيمية تتناسب مع تلك المنظومة، ولا يكفي توفر موازين قوة مناسبة لبسط السلطان في غياب شرق القيمة والثقافة وهو الشرط الذي يسمح للعقل بالقيام بدوره في التنميط والتبرير للواقع الذي تصنع تلك الموازين.

هل يمكن أن تتحول الصهيونية لكيان إمبراطوري؟

تواجه "الصهيونية" تحديا بنيويا يمنعها من التحول من دولة "أقليات" إلى دولة ذات هوية إمبراطورية.
وذلك أن الصهيونية ومعها الدولة التي أنشأتها تعاني من العديد من العوائق البنيوية التي نعدد منها:

ـ العائق القيمي والثقافي، وعائق السردية "حرب السرديات"، والعائق الديمغرافي، والعائق الجيوسياسي.

ـ العائق القيمي: وذلك بسبب الخلل القيمي الذي على اساسه تقوم الصهيونية، اذ لم تقم في تاريخ البشرية دولة متسعة على اساس قيم وعقيدة عنصرية، ولم تستطع دولة في تاريخ البشرية أن تتحول لدولة كبرى او امبراطورية إلا بعد أن طورت منظومة قيمية تسمح لها بالاتساع واستيعاب شعوب وأعراق متعددة ولذلك فإن شرط قيام إسرائيل كبرى يتمثل في التخلي عمليا عن الفكر الصهيوني وإعادة تأسيس عقيدة مناسبة لهذه الدولة.

إن إسرائيل تعاني من طبيعة عدم التناسب بين منظومة قيم الصهيونية والقيم التي ترتكز عليها الشعوب التي تريد أن تحكمها، وذلك أن الإسلام يحمل منظومة قيمية أرقى من المنظومة القيمية الصهيونية من حيث أنها قيم إنسانية وحداثية في جوهرها وهذا ما جعل "غلنر" (وهو بالمناسبة من أصول يهودية بولونية) في كتابة عن القومية وكذلك كتابه عن الإسلام والحداثة يعتبر أن الإسلام على عكس المسيحية والبوذية دين حداثي في جوهره وهو لا يحتاج لما احتاجته المسيحية لعملية تحديث وعلمنة.
ومن جهة أخرى فإن إسرائيل تعاني من طبيعة عدم التناسب بين منظومة قيم الصهيونية والقيم التي ترتكز عليها الشعوب التي تريد أن تحكمها، وذلك أن الإسلام يحمل منظومة قيمية أرقى من المنظومة القيمية الصهيونية من حيث أنها قيم إنسانية وحداثية في جوهرها وهذا ما جعل "غلنر" (وهو بالمناسبة من أصول يهودية بولونية) في كتابة عن القومية وكذلك كتابه عن الإسلام والحداثة يعتبر أن الإسلام على عكس المسيحية والبوذية دين حداثي في جوهره وهو لا يحتاج لما احتاجته المسيحية لعملية تحديث وعلمنة.

ومن البين أن الحركة الصهيونية وأمام هذا العائق لم تسلك نهج "قسطنطين" بل اختارت سياسة تفكيك المنظومة القيم القيمية المنافسة لها على المساحة التي تريد الهيمنة عليها وذلك من خلال طرح مشروع الديانة الإبراهيمية كحل يسمح بتقديم اليهود كشعب مختار ومقدس على بقية الشعوب وبالتالى له حق مقدس في الهيمنة عليهم. وهذا يعني أن الحركة الصهيونية غير مستعد لتطوير ذاتها للخروج من الحالة العنصرية، بل تسعى لتغيير المحيط الثقافي التي تريد أن تحكمه حتى يصبح قابلا لحكمها وذلك بمحاولة تغيير الإسلام ذاته.

عائق السردية "خسارة حرب السرديات"

ومع الخلل القيمي الذي تعاني من الصهيونية برز عائق نوعي جديد بفعل الجرائم التي تقترفها منذ طوفان الأقصى اذ ولأول مرة منذ ظهور الحركة الصهيونية تخسر إسرائيل معركة السردية
"من النهر إلى البحر" from the river to the see
Palestine will be free
Israel from the river to the see

من أكثر الشعارات شيوعا في التحركات الشعبية والجماهيرية الداعمة للقضية الفلسطينية هو شعار "فلسطين حرة من النهر إلى البحر" وإذ كان هذا الشعار محرما في السنوات الماضية فإنه نجح أخيرا في فرض نفسه كشعار رئيسي في العواصم الغربية، ولذلك فإن ردة فعل نتنياهو تبدو في تناقض كامل مع ما صار شائعا لدى أغلبية الشباب الغربي من خلال شعار "فلسطين حرة من النهر إلى البحر".

إذ بينما نجحت الصهيونية في إقناع الضمير الغربي خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أن لها حقا قدريا وأصليا في دولة تمتد حدودها من النهر إلى البحر بحيث كان طبيعيا أن يكون كل تحرك لها في توسيع حدودها استجابة لحق إلهي سابق عن التاريخ والجغرافيا ومتضمن ليس فقط في عقائد اليهود بل كذلك في العقيدة المسيحية وخاصة "البروتستانتية" التي تحكم أكبر امبراطوريتين حكمتا العالم منذ الحربين وما بعدهما أي الامبراطورية البريطانية ومن بعدها الأمريكية.. مقابل هذا النجاح الذي حكم العالم لما يقارب ثلثي القرن فإن طوفان الأقصى والجرائم الصهيونية المدعومة غربيا مقابل صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة نجحت في كسر هذا الشعار وقلبه كي يصبح نقيضه ما تصدح به الحناجر في العواصم الغربية التي تدعم حكومات شعوبها الحرب على الشعب الفلسطيني وشعوب العالم العربي.

والحقيقة أن الحرب الأخيرة على غزة أنهت أسطورة الضحية الأكبر كما أنها أنهت أسطورة البطل الإسرائيلي الذي لا يقهر وليس هناك من هو أذكى منه ولا أقدر منه.

وهذا الأمر يضرب إيمان المواطن الإسرائيلي بانتمائه لوطن تتحقق فيه هذه الأسطورة التي بفضلها يمكن أن يكون مواطنا خارقا له من الحقوق الخارقة بفضل ما تعرض له من ظلم، ولذلك فإن رفع شعار إسرائيل من النهر إلى البحر هو في أحد وجوهه نوع من ردة الفعل من أجل الحفاظ على الهوية الجماعية للدولة القومية اليهودية وذلك باستعادة الأساطير المؤسسة لها.

في العائق الديمغرافي

كما تعاني فكرة دولة "إسرائيل الكبرى" من عائق بيولوجي يمنعها من القدرة على الصهر والغلبة وذلك أن عدد اليهود في العالم محدود جدا وهو لا يكاد يتجاوز عدد السكان الأصليين لفلسطين التاريخية، بل إن الفلسطينيين أكثر عدد من اليهود الذين استوطنوا فلسطين المحتلة والذين لم يستوطنوا فكيف يمكن لأقل من عشرين مليون أن يحكموا في رقع جغرافية يتجاوز عدد سكانها ربع المليار ساكن. وهم، أي اليهود، مع قلة عددهم يحتكمون لمنظومة قيم عنصرية تقوم على علوية عرق لا يقوم على أصول جينية، بل على أسطورة دينية.


من أكثر الشعارات شيوعا في التحركات الشعبية والجماهيرية الداعمة للقضية الفلسطينية هو شعار "فلسطين حرة من النهر إلى البحر" وإذ كان هذا الشعار محرما في السنوات الماضية فإنه نجح أخيرا في فرض نفسه كشعار رئيسي في العواصم الغربية، ولذلك فإن ردة فعل نتنياهو تبدو في تناقض كامل مع ما صار شائعا لدى أغلبية الشباب الغربي من خلال شعار "فلسطين حرة من النهر إلى البحر"
كما أن الصهيونية بما هي العقيدة المؤسسة لكيان دولة إسرائيل تعاني، داخليا، من علل تعدد أصول الأعراق التي تكون الهوية اليهودية كما أنها تعاني من تنوع الانتماء للدين اليهودي ذاته بين اليهود المتدينين بخلفياتهم الشرقية والغربية والإفريقية وبين اليهود الساميين واليهود المنتمين لما سمي بالقبيلة الثالثة عشر وإن قبلنا بإمكانية توحيدهم بسلطان الأسطورة الصهيونية فإن هذا الكل غير قادر على التحول لحكم محيط بشري يفوقهم بأكثر من عشرة أضعاف على الاقل.

العائق الجيوسياسي

قامت "دولة اسرائيل" منذ نشأتها بفضل المدد الغربي لها وهي كيان روابطه منقطعة مع محيطه المباشر وممتدة لما وراء البحار والمحيطات.

وقد بينت الحرب الأخيرة التي تخوضها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة ثم في القطاع أنها عاجزة عن الحفاظ والدفاع عن وجودها دون هذا المدد الغربي المتواصل بالأسلحة والعتاد والمال.

يرتبط وجود كيان دولة "إسرائيل" بمفهوم "الشرق الأوسط" بحيث يمكن القول بأن تفكيك هذه المنظومة يعني في النهاية انتهاء الحاجة لوجود هذا الكيان.

إن تفكيك منظومة الشرق الأوسط يعني أمرين أساسين: تفكيك المركزية الغربية في علاقتها بالمنطقة كما يعني كذلك تفكيك الدول التي أنتجتها المركزية الغربية أي نهاية منظومة الدول العربية كما نعرفها خلال القرن الأخير على الأقل.

فلا يمكن أن تقوم إسرائيل الكبرى إلا إذا ما تم تفكيك خارطة "سايكس بيكو" ومعها منظومة "الشرق الأوسط" وهذا يعني تفكيك المركزية الغربية أو الاستقلال عنها كليا وفرض معادلة جديدة تسمح لإسرائيل بأن تصبح طرفا محددا في رسم هذه الخريطة لحساب مصالح "دولتها القومية\الامبراطورية".

وعند الحديث عن مفهوم "دولة إسرائيل الكبرى" الذي يقتضي انتقال المركز في علاقته بالمنطقة على الأقل إلى قلب المشرق فإن هذا يفترض أن هذا المركز مستعد للتسليم بهذه النقلة وبالتخلي عن مركزيته إما بشكل طوعي أو مكرها.

فهل ستقبل المنظومة الغربية التي كانت وراء معادلة سايكس بيكو بالتنازل عن منظومة المصالح التي بنت حدودها المدافع والدبابات بالتنازل عن تلك المصالح لصالح كيان قامت هي بصناعته لضمان تواصل تلك المصالح؟ ومن جهة أخرى هل ستقبل منظومة الدول العربية أن يتم تفكيكها لصالح هذه الدولة المتوهمة؟

إقرأ أيضا: حين تعيد إسرائيل رسم الخرائط.. من خطاب القوة إلى مأزق الواقع (1من3)
التعليقات (0)

خبر عاجل