أفكَار

"الصحراء" في مرآة العدل والإحسان.. قراءة في الدلالات السياسية والخلفيات المرجعية

يعبر موقف جماعة العدل والإحسان من قضية الصحراء عن تحول نوعي في مسار الخطاب المعارض بالمغرب، من موقع الاحتجاج الأخلاقي إلى موقع المشاركة الاقتراحية..
يعبر موقف جماعة العدل والإحسان من قضية الصحراء عن تحول نوعي في مسار الخطاب المعارض بالمغرب، من موقع الاحتجاج الأخلاقي إلى موقع المشاركة الاقتراحية..
صدر بيان لجماعة العدل والإحسان يوم الاحد 2 نونبر 2025، بشأن قرار مجلس الأمن رقم 2797، في لحظة سياسية دقيقة يتقاطع فيها البعدان الداخلي والدولي: فمن جهة، يشهد المغرب تحولات اجتماعية واقتصادية حادة، تتجلى في تصاعد الاحتقان الاجتماعي وتراجع الثقة السياسية وتضييق مساحات التعبير، ومن جهة أخرى، يواجه تحديات دبلوماسية معقدة ترتبط بقضية الصحراء وتغير موازين القوى الإقليمية.

في هذا السياق، لا يمكن قراءة البيان بوصفه تعليقا ظرفيا على حدث أممي، بل باعتباره موقفا سياسيا-قيميا مركبا يعكس رؤية الجماعة للعلاقة الجدلية بين الوحدة الترابية والديمقراطية، وبين الشرعية الوطنية والشرعية الشعبية.

انطلاقا من كل ذلك، يشكل البيان مناسبة لإعادة فهم موقع الجماعة داخل الحقل السياسي المغربي، إذ لا يتعامل مع قضية الصحراء من منظور مصلحي أو حزبي ضيق، بل من منظور وطني أخلاقي نقدي يسعى إلى دمج البعد الوطني بالبعد الديمقراطي، وإلى تأكيد أن الوحدة الترابية لا يمكن أن تكون بديلا عن الوحدة السياسية القائمة على العدل والمشاركة والحرية.

فالبيان يعيد طرح سؤال الشرعية من جديد: هل يمكن الدفاع عن وحدة البلاد في ظل استمرار الاستبداد وغياب المشاركة السياسية؟ وهل تكتمل السيادة الترابية دون سيادة شعبية تعبر عن الإرادة العامة؟

أولا ـ خلفيات بناء الموقف

1 ـ المرجعية الفكرية والسياسية للجماعة

أ‌ ـ المنطلقات المبدئية: تستند جماعة العدل والإحسان في تصورها للوطن والسيادة إلى إطار مرجعي فكري إسلامي شامل، يعتبر الأمة وحدة معنوية وروحية وسياسية تتجاوز الحدود الضيقة للأوطان و الجغرافيا السياسية، لأنها تعتبر الحدود الجغرافية نتاج استعماري، هدفها تفتيت وحدة الأمة وقطع الروابط الإيمانية والاجتماعية بين أفرادها، ما يجعل حماية الوطن غير ممكنة بمعزل عن حماية وحدة الأمة وتحقيق العدالة فيها.

غير أن هذا البعد الأممي لا يعني بأي حال نفي الانتماء الوطني أو تجاهل الواقع المغربي، بل هو تأويل جديد للوطنية، يستند إلى مفهومي العدل والشورى كما توضحه أدبيات الجماعة وكتب الأستاذ عبد السلام ياسين، فالعدالة ليست قيمة أخلاقية مجردة بل هي الركيزة التي توحد الناس، وتضمن توزيع الحقوق والواجبات، بطريقة تحفظ كرامة الفرد والجماعة، وتؤسس لمجتمع قادر على المشاركة الحقيقية في القرار السياسي.

تعتبر جماعة العدل والإحسان أن الدولة ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق مقاصد أساسية تتمثل في العدل والحرية والكرامة، لذلك ترفض الجماعة شرعية الاستبداد، وتربط مشروعية النظام السياسي بمدى احترامه لإرادة الشعب وتمكين المواطنين من المشاركة الفعلية في القرار السياسي.
من هذا المنظور، تعيد جماعة العدل والإحسان صياغة مفهوم الوحدة الوطنية بشكل جذري، متجاوزة أي اختزال تقليدي يربطها بالجغرافيا وحدها أو باعتبارها امتدادا شكليا للسيادة الترابية، فالوحدة الوطنية في فكر الجماعة تقوم على أسس العدالة الاجتماعية والسياسية، وحق الشعب في المشاركة والمساءلة الفعلية للسلطة. إنها وحدة ترتكز على الشرعية الشعبية ومبدأ الشورى في الحكم، حيث يصبح المواطن شريكا فاعلا في صناعة القرار، لا خاضعا لهيمنة السلطة، فتتحول المسؤولية الوطنية من واجب شكلي إلى ممارسة أخلاقية وسياسية متكاملة، تجمع بين الغيرة الوطنية والالتزام الديني.

فالعدالة هي الركيزة الجوهرية لكل علاقة بين الدولة والمجتمع، فلا وحدة ترابية حقيقية دون وجود وحدة سياسية داخلية قائمة على الحرية والمشاركة والمساواة.

ب‌ ـ الفكر السياسي عند الجماعة

تعتبر جماعة العدل والإحسان أن الدولة ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق مقاصد أساسية تتمثل في العدل والحرية والكرامة، لذلك ترفض الجماعة شرعية الاستبداد، وتربط مشروعية النظام السياسي بمدى احترامه لإرادة الشعب وتمكين المواطنين من المشاركة الفعلية في القرار السياسي.

ويُبرز خطاب الجماعة تداخلا بين المفاهيم الشرعية ـ كالأمة، والشورى، والعدل ـ وبين المفاهيم السياسية الحديثة ـ مثل الديمقراطية، والحكم الذاتي، والمشاركة ـ في صياغة تصور متكامل للشرعية، قائم على مبدأ السيادة الحقيقية لا تتحقق إلا بتكامل البعد الأخلاقي والديني مع البعد السياسي المدني.

فهذه المرونة المفاهيمية تمنح خطاب الجماعة قدرة على التنقل بين المرجعية الإسلامية واللغة السياسية الحديثة بسلاسة، دون أن يقع في تناقض ظاهر، ما يعكس نضجها الفكري والسياسي في معالجة القضايا الوطنية الكبرى مثل وحدة التراب والديمقراطية.

ت ـ الموقف من القضايا الوطنية

يسعى خطاب جماعة العدل والإحسان إلى دمج الغيرة الوطنية بالمرجعية الأخلاقية، بحيث تنظر إلى الدفاع عن الوطن ليس باعتباره واجبا سياسيا فقط، بل باعتباره مسؤولية أخلاقية دينية ترتبط بالعدل والحرية والمشاركة الشعبية، فمن هذا المنطلق، ترفض الجماعة أي توظيف سياسي للقضايا الوطنية من أجل تبرير الاستبداد أو قمع المعارضة، معتبرة أن ذلك يُضعف الوحدة الوطنية ويقوض الشرعية الحقيقية للنظام، لذلك تؤكد الجماعة أن لا حل سياسي ديمقراطي عادل لقضية الصحراء، إلا عبر مشروع وطني شامل يعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، ويعزز الوحدة الوطنية الحقيقية القائمة على المشاركة الشعبية الفاعلة، والمحاسبة، والعدالة الاجتماعية الراسخة، فالحل يجب يكون أكثر من اتفاق سياسي أو صك دبلوماسي شكلي، بل يعكس إرادة الشعب المغربية وحقه المشروع في المشاركة الحقيقية في صناعة القرار السياسي وضمان المساءلة الرشيدة للسلطة، بما يحقق شرعية وطنية وديمقراطية متكاملة، تؤسس لمرحلة جديدة من الاستقرار والتنمية والحرية.

ثانيا ـ تحليل المضمون الخطابي

1 ـ من حيث المرجعية: لا ينبع خطاب جماعة العدل والإحسان من قومية ضيقة، بل من عقيدة إسلامية أصيلة ترى في وحدة الأمة الأصل والمرجعية العليا، معتبرة الوطن ميدانا لتحقيق العدالة وصون الكرامة الإنسانية، ويأخذ هذا الخطاب في الاعتبار الأفق الأممي الواسع بما يتوافق مع المبادئ الأصيلة للمجتمعات واحترام تعدديتها الثقافية والعرقية والإثنية، دون أن يضعف شعور الغيرة الوطنية، الذي يتجسد كمسؤولية شرعية وأخلاقية تهدف إلى حفظ وحدة البلاد وحماية مصالحها العليا في مواجهة أي محاولات للتجزئة أو التفتيت.

يحافظ خطاب الجماعة بهذا المعنى، على توازن دقيق بين الانتماء الكوني والواجب الوطني، جامعا بين بعد أممي يرفض التفكك على أسس استعمارية قديمة ومتجددة، وبين بعد وطني يؤكد وحدة المغرب الترابية ويقف صامدا في مواجهة مشاريع التفتيت أو التنازل عن السيادة الوطنية، خطاب يوازن بذكاء بين الالتزام بالقيم الشاملة الجامعة والانتماء الوطني المسؤول، مقدما نموذجا متكاملا للوطنية المرتكزة على العدالة والمبادئ الأخلاقية.

2 ـ  من حيث التموقع السياسي: يعكس البيان محاولة محسوبة لتقوية الشرعية الوطنية الرمزية، دون التفريط في معارضتها الجذرية للنظام القائم، إذ تضع الجماعة نفسها في موقع المعارضة الوطنية المسؤولة، التي لا تكتفي بالدفاع عن الوحدة الترابية فحسب، بل تربطها بضرورة إصلاح سياسي شامل يدمج بين الوحدة الترابية والوحدة السياسية الداخلية، معتبرة أن السيادة الوطنية الحقيقية لا تتحقق إلا بتفعيل الديمقراطية والمشاركة الشعبية الفعلية.

يشكل خطاب الجماعة استراتيجية مزدوجة: من جهة أولى، توسيع قاعدة التعاطف الشعبي وإعادة التأكيد على دورها كفاعل وطني مؤثر، ومن جهة أخرى، استثمار قضية الصحراء لإعادة طرح ملفات التغيير السياسي والمصالحة الوطنية، مشددة على أن أي حكم ذاتي حقيقي للأقاليم الجنوبية، يجب أن يندرج ضمن مشروع ديمقراطي شامل يحفظ الحقوق ويحقق العدالة الاجتماعية، ويحول دون استغلال الملف الوطني كأداة سياسية لحفظ الاستبداد أو التغطية على إخفاقات الدولة.

3. ـ من حيث البنية الخطابية: يتميز بيان جماعة العدل والإحسان بحضور بارز للبعد الأخلاقي والإنساني، وهو ما يتجسد في عدة قضايا مركزية:

ـ رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، بوصفه خيانة وطنية وإنسانية، تمس المبادئ الأخلاقية والسيادية على حد سواء.

ـ الدعوة إلى مصالحة وطنية شاملة، تشمل الإفراج عن المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي، كخطوة ضرورية لترسيخ الثقة بين الدولة والمجتمع وتعزيز الوحدة الداخلية.

لا ينبع خطاب جماعة العدل والإحسان من قومية ضيقة، بل من عقيدة إسلامية أصيلة ترى في وحدة الأمة الأصل والمرجعية العليا، معتبرة الوطن ميدانا لتحقيق العدالة وصون الكرامة الإنسانية، ويأخذ هذا الخطاب في الاعتبار الأفق الأممي الواسع بما يتوافق مع المبادئ الأصيلة للمجتمعات واحترام تعدديتها الثقافية والعرقية والإثنية، دون أن يضعف شعور الغيرة الوطنية، الذي يتجسد كمسؤولية شرعية وأخلاقية تهدف إلى حفظ وحدة البلاد وحماية مصالحها العليا في مواجهة أي محاولات للتجزئة أو التفتيت.
ـ الربط بين القضية الوطنية والعدالة الاجتماعية، باعتبارهما وجهين مترابطين لمفهوم السيادة الوطنية، ما يؤكد أن حماية الوحدة الترابية والسيادة الشعبية لا تتحقق إلا من خلال ضمان العدالة والمساواة.

كما يظهر في البيان استخدامه للغة سياسية هادئة متزنة، خالية من الانفعال العاطفي، الأمر الذي يعكس نضجا سياسيا عميقا لدى الجماعة، وسعيها إلى بناء خطاب وطني نقدي متوازن يجمع بين الثوابت المبدئية والواقعية السياسية العملية، ويعزز موقعها كفاعل سياسي مسؤول على الساحة الوطنية والدولية.

ثالثا ـ الدلالات السياسية العامة

1 ـ تطور في خطاب الجماعة: يشير البيان إلى تقوية موقع الجماعة في النقاش الوطني، دون أن تتنازل عن معارضتها الجذرية للنظام القائم، حيث يعكس هذا التوجه تكيفا استراتيجيا دقيقا مع الواقع السياسي الداخلي والدولي المتغير، إذ تسعى الجماعة من خلاله إلى ترسيخ حضورها باعتبارها فاعلا سياسيا مسؤولا قادرا على المساهمة في النقاش الوطني حول القضايا السيادية والتغيير السياسي مع الحفاظ على ثوابتها المبدئية.

2 ـ الدمج بين الوطني والديمقراطي: تؤكد الجماعة على عدم الفصل بين الدفاع عن الوحدة الترابية والدفاع عن الحرية السياسية، معتبرة أن سيادة الدولة لا تكتمل إلا بسيادة الشعب ومشاركته الفعلية في اتخاذ القرار، ويعكس هذا الموقف رؤية متكاملة للوطنية والديمقراطية، يرتكز على الترابط بين حماية الوحدة الترابية والحقوق السياسية والمدنية للمواطنين، واستناد الاستقرار الوطني الحقيقي والشرعية السياسية إلى مشاركة شعبية حقيقية، لا إلى قوة أو هيمنة سلطوية.

3 ـ رفض المقايضة السياسية والأخلاقية: تعبر العدل والإحسان عن موقف حازم لا يقبل المساومة في مسألة التطبيع، منسجما مع رؤيتها الأخلاقية والسياسية الثابتة، وإصرارها على حفظ استقلالية خطابها وموقعها الرمزي في المشهد الوطني، فهي ترفض أي شكل من أشكال المقايضة بين المبادئ والمصالح، وتقدم نفسها فاعلا أخلاقيا وسياسيا لا يخضع لمنطق التحالفات الظرفية أو الإملاءات الخارجية، ومن خلال هذا الموقف، تؤسس الجماعة لنموذج للمعارضة المبدئية، يربط بين الالتزام الأخلاقي والموضع السياسي، ويقف بكل وضوح في مواجهة ما يمكن وصفه بـالتطبيع المزدوج: بين الاحتلال الصهيوني و الفساد الداخلي، مؤكدة أن الوطن والعدالة لا يمكن أن يكونا محل مساومة.

4 ـ خطاب الموقف التاريخي المسؤول: يتخذ بيان الجماعة طابع الموقف التاريخي المسؤول، لا من موقع المعارضة الانفعالية أو الحسابات السياسية الضيقة، بل من موقع الوعي التاريخي بمرحلة مفصلية، تستوجب خطابا يزاوج بين النقد الجذري والالتزام الوطني، فالجماعة لا تكتفي بتوصيف الأعطاب البنيوية للنظام السياسي، بل تدعو إلى تحمل جماعي للمسؤولية التاريخية، في إعادة بناء مشروع وطني على أسس العدالة والحرية والمشاركة الشعبية.

إن هذا الخطاب، وإن ظل وفيا لجوهره التغييري الذي تحمله الجماعة، يعبر عن نضج في تمثل اللحظة السياسية وعن الانتقال من منطق الرفض إلى منطق البناء، ومن رد الفعل إلى الفعل التاريخي المؤسس، حيث تغدو المصالحة الوطنية واجبا تاريخيا يفرضه الوفاء لدماء الشهداء وحق الأجيال القادمة في وطن عادل حر كريم.

خاتمة

يعبر موقف جماعة العدل والإحسان من قضية الصحراء عن تحول نوعي في مسار الخطاب المعارض بالمغرب، من موقع الاحتجاج الأخلاقي إلى موقع المشاركة الاقتراحية في بناء موقف تاريخي يخرج المغرب من نفق مسدود إلى أفق واسع وأرحب، فهو لا يقف عند حدود التنديد أو الممانعة، بل يسعى إلى إعادة تعريف الوطنية المغربية على أسس العدالة والحرية والكرامة والمشاركة الفاعلة، فالوحدة الترابية لا تنفصل عن الوحدة السياسية الداخلية، وحماية السيادة لا تكتمل إلا بتجذير الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

لذلك فبيان الجماعة يكتسب قوته وأهميته من كونه ليس تعليقا على قرار دولي فقط بل هو تأمل واع في مستقبل الدولة والمجتمع، ودعوة صريحة إلى تأسيس وطن موحد بالعدل لا بالقهر، بسيادة تُستمد من إرادة الشعب ووعيه الجمعي لا من رضى الخارج أو شرعية القوة.

خطاب مسؤول، يسعى إلى تحويل قضية الصحراء من ورقة توظيف سياسي إلى فرصة لبناء مشروع وطني جامع، يُعيد الثقة بين الدولة والمجتمع، ويضع أسس مغرب ديمقراطي متصالح مع ذاته وتاريخه ومستقبله.
التعليقات (0)

خبر عاجل