كتب القيادي في حركة النهضة التونسية جمال
الطاهر هذا النص ليقدّم قراءة معمّقة لمسيرة راشد الغنوشي، الرجل الذي حفر اسمه في
التاريخ التونسي والفكر السياسي الإسلامي المعاصر.
الغنوشي، البالغ من العمر 84 عامًا والمحتجز
حاليًا في السجن ومحكوم عليه بأربعين سنة بسبب آرائه ومواقفه السياسية، شغل قبل
ذلك منصب رئيس البرلمان، إلى أن أعلن الرئيس قيس سعيد في 25 تموز/يوليو 2021 إنهاء
العمل بالدستور وحل البرلمان والسيطرة على مقاليد الحكم.
يؤكد الطاهر أن الغنوشي، رغم السجن
والتضييق، استطاع أن يبني ثروة حقيقية قائمة على الفكر، والمبادئ الوطنية، والقدرة
على التوجيه والتأثير، وهي ثروة لا يمكن أن تسلبها محاكم أو أحكام سياسية. إن
حملات التشويه ضده ليست سوى انعكاس لعجز خصومه عن مجاراته فكريًا وسياسيًا، بينما
يظل التاريخ شاهداً على مكانته، والرجال الكبار لا تُقهر إرادتهم.
تجربة ممتدة
راكم راشد الغنوشي على امتداد أكثر من نصف
قرن رصيدًا هائلًا من الفكر والنضال والمواقف والمبادرات السياسية، جعله من أكثر
الشخصيات تأثيرًا في تونس، ومن أبرز رموز الفكر السياسي الإسلامي المعاصر. تلك هي
ثروته الحقيقية: الرمزية، والتأثير، والقدرة على الإلهام والتوجيه.
تضاعف وزنه بعد الثورة بما مثّله من دور
محوري في إدارة المراحل الانتقالية، وبما راكمه من حضور وطني ودولي، جعله محطّ
أنظار الخصوم قبل الأصدقاء. هذه "الثروة المعنوية" هي ما أثارت حفيظة
كثيرين، ممن لم يجدوا في مواجهته سوى التحامل والتشويه والإقصاء، بدل المنافسة
الفكرية والمشروعية السياسية.
لم يكن راشد الغنوشي رجل مال، ولم يتعامل مع العمل السياسي كوسيلة للثراء. بل على العكس، أفنى عمره في العمل والفكر والسفر والكتابة، وذاق في سبيل ذلك مرارة السجون والمنافي والملاحقات. لكن رغم كل ذلك، راكم ثروة حقيقية، ليست أموالاً تُعدّ، وإنما هي ثروة من نوع آخر، إنها:
وفي الوقت الذي تراجعت فيه رموز كثيرة عن
مواقعها، ظل الغنوشي وفياً لمشروعه الوطني والفكري، متماسكًا في الدفاع عن الثورة
والديمقراطية، حتى وهو في محبسه. فالمكان لم يغيّب صوته، ولم يطفئ حضوره، بل زاد
من رمزيته، وأكد أن الرجال الكبار لا يُسجنون، بل يتسع بهم التاريخ وتُختبر بهم
المراحل.
اكتسب الغنوشي ثروته الحقيقية بجهده وفكره
ووقته وتضحياته، وعلى مدى أكثر من نصف قرن، سافر من أجلها عبر القارات، وأمضى
السنوات في السجون والمنافي والملاحقات. لم تكن طريقه مفروشة بالورود، بل كانت
محفوفة بالمعاناة والعمل الدؤوب، وتخللتها لحظات صعبة من السجن والتضييق وحتى
أحكام بالإعدام.
لم يكن راشد الغنوشي رجل مال، ولم يتعامل مع
العمل السياسي كوسيلة للثراء. بل على العكس، أفنى عمره في العمل والفكر والسفر
والكتابة، وذاق في سبيل ذلك مرارة السجون والمنافي والملاحقات. لكن رغم كل ذلك،
راكم ثروة حقيقية، ليست أموالاً تُعدّ، وإنما هي ثروة من نوع آخر، إنها:
1 ـ ثروة الفكر والاجتهاد
الغنوشي صاحب أكثر من خمسين مؤلفاً، تُرجم
العديد منها إلى لغات العالم. وأهمها كتابه "الحريات العامة في
الإسلام"، الذي اطلع عليه ودرسه باحثون ومفكرون في كبريات الجامعات ومراكز
الأبحاث العالمية، واستُقبل كإضافة نوعية في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر. قدّم
فيه اجتهادات رائدة وجريئة في قضايا كانت تُعدّ من التابوهات، مثل الحريات،
الديمقراطية، حقوق المرأة، الدولة المدنية وغيرها، مما جعله مؤسّساً لمدرسة فكرية
تجديدية تتعامل مع الإسلام برؤية مقاصدية متجددة، متفاعلة مع قيم العصر. ولا تزال
أفكار الغنوشي محلّ نقاشات أكاديمية في العديد من الندوات والدوائر البحثية
الرفيعة حتى وهو خلف القضبان. فاعتقاله لم يُسكت صوته الفكري، بل زاد من رمزيته،
وأكّد عالمية
أطروحاته التي تجاوزت الحدود الجغرافية والإيديولوجية.
2 ـ ثروة المواقف الوطنية
منذ اندلاع ثورة الحرية والكرامة في تونس،
كان راشد الغنوشي من أوائل من استوعبوا منطق الثورة وفهموا سياقاتها ومساراتها
ومحركاتها العميقة. أدرك منذ اللحظة الأولى دقّة المرحلة وخطورة الانزلاق، فاختار
أن يكون جسراً بين الفرقاء لا طرفاً في معركة كسر العظام. قدّم مقاربات واقعية
وعقلانية لإنجاح الانتقال الديمقراطي، تغلّب فيها على منطق الغلبة، وفضّل مصلحة
الوطن على مصلحة الحزب.
تميّز خطابه السياسي بالتجميع والتقريب، لا
بالتخندق والاستقطاب. جالس الجميع، خصومه قبل مناصريه، وسعى وراء الجميع بمثابرةٍ
قلّ نظيرها، حرصاً منه على لمّ شتات الطيف التونسي تحت خيمة الثورة وضمن مسار
الانتقال الديمقراطي. كان حريصاً على أن تعبر سفينة الانتقال إلى برّ الأمان وهي
تحمل كل العائلة التونسية الموسّعة دون إقصاء أو تهميش.
قبل التنازل الطوعي عن الحكم وحزبه الفائز
في الانتخابات حقناً للدماء وتجنيباً للبلاد منزلقات الفوضى والاحتراب. ظلّ مؤمناً
بالحوار والتوافق كمنهج أصيل، لا كتكتيك ظرفي، رافضاً الهيمنة ومناهضاً للإقصاء،
مدافعاً عن فكرة تونس الحاضنة والجامعة، لا تونس الغالب والمغلوب.
ومن بين أكثر لحظات التاريخ التونسي الحديث
رمزيةً، وقوف راشد الغنوشي ليلة 25 جويلية 2021 أمام بوابة مجلس نواب الشعب
المغلقة بدبابة عسكرية، يطالب بفتحها بوصفه رئيسًا للبرلمان، ويعلن بكل وضوح أن ما
حدث انقلاب على الشرعية والدستور والتجربة الديمقراطية. كان أول من سمّى الأشياء
بأسمائها، حين صمت الكثيرون، أو اصطفّوا خلف الحدث بتبريرات ووعود زائفة.
منذ اندلاع ثورة الحرية والكرامة في تونس، كان راشد الغنوشي من أوائل من استوعبوا منطق الثورة وفهموا سياقاتها ومساراتها ومحركاتها العميقة. أدرك منذ اللحظة الأولى دقّة المرحلة وخطورة الانزلاق، فاختار أن يكون جسراً بين الفرقاء لا طرفاً في معركة كسر العظام. قدّم مقاربات واقعية وعقلانية لإنجاح الانتقال الديمقراطي، تغلّب فيها على منطق الغلبة، وفضّل مصلحة الوطن على مصلحة الحزب.
في تلك الليلة، لم يكن الغنوشي محاطًا بحشود
أو دعم سياسي واسع، بل كان وحيدًا في الموقف، حاضرًا بالشرعية والرمز والمعنى. لكن
التاريخ سجّل له هذا الموقف، الذي لم يلبث أن التحق به لاحقًا أغلب الطيف السياسي
والمدني، حتى من بين أولئك الذين راهنوا على الانقلاب وعلّقوا عليه آمالًا كبرى
لبناء مشهد ديمقراطي خالٍ من خصمهم السياسي، حركة النهضة، التي كانت قد فازت
بأغلبية في انتخابات 2019.
أدخل هذا الموقف الغنوشي التاريخ من بابه
الواسع، لأنه لم يكن مجرد ردّ فعل سياسي، بل موقف مبدئي صلب في لحظة فارقة، تحمل
كلفة عالية، لا يقدر عليها إلا من تشكّلت هويته من النضال والمبادئ. أما الذين
عادوا إلى نفس الموقف لاحقًا تحت قهر الاستبداد أو خيبة الأمل، فلن ينالوا من شرف
البدايات ما ناله من ثبت حينها في وجه العاصفة.
3 ـ ثروة العلاقات والرمزية الدولية
أصبح الغنوشي صوتاً بارزاً للفكر الإسلامي
الوسطي في المحافل الدولية ورمزا عالميا في الدفاع عن الديمقراطية في السياق
الإسلامي. استُقبل في أهم العواصم والمنصات الدولية مثل دافوس، روما، الدوحة،
باريس، لندن، إسطنبول، جنيف وغيرها واستُضيف لإلقاء المحاضرات في كبرى مراكز
التفكير الاستراتيجي. لم تكن هذه الدعوات تكريماً لشخصه بل كانت اعترافاً بدوره في
صياغة مسار سياسي ديمقراطي في بلد عربي مسلم، وتمثيلاً حيّاً لتونس وثورتها
وتجربتها الاستثنائية في الانتقال الديمقراطي السلمي. لم يكتفِ بدوره داخل تونس،
بل بذل جهوداً كبيرة ضمن ما يمكن تسميته بـ"ديبلوماسية شعبية"، جاب من
خلالها العواصم والمؤتمرات، لتعريف العالم بالتجربة التونسية الفريدة وتوسيع دائرة
أصدقائها وداعميها.
مثّل الغنوشي، من خلال هذا الحضور الدولي،
مرآة مشرقة لتونس الجديدة، وأدى دوراً حيوياً في نقل صورة إيجابية عن شعبها
وثورتها، واستجلاب الدعم الدولي، وتعزيز مكانة تونس كوجهة ديمقراطية واعدة في
العالم العربي والإسلامي.
4 ـ ثروة البناء الحزبي
لم يبنِ راشد الغنوشي مجرّد حزب، بل أسّس
مدرسة سياسية متكاملة، تجاوزت المحن والصراعات وتحولت تحت قيادته إلى أحد أهم
الأحزاب في تونس الحديثة. نجحت حركة النهضة بقيادته في كل الاستحقاقات الانتخابية
التي خاضتها، سواء قبل الثورة، حين حققت فوزاً كبيراً في انتخابات 1989 التشريعية،
أو بعدها، حيث كانت الأولى في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي (2011)، ثم الثانية
في تشريعيات 2014، والأولى في الانتخابات المحلية 2018، ثم الأولى مجدداً في
تشريعيات 2019.
لم يكن هذا النجاح الانتخابي مصادفة أو منّة
من أحد، بل ثمرة عمل تنظيمي طويل النفس، ومؤسسات حزبية راسخة وحيّة، وفضاء داخلي
للتداول وإنتاج الأفكار والتصورات. وحتى في أحلك اللحظات، حين أُغلقت المقرات،
وتمّت محاكمة القيادة، واعتُقل الغنوشي بعد انقلاب 2021، تواصل عمل مؤسسات الحزب،
وصمدت قواعده، واستمرّت آلياته الداخلية في الاشتغال، رغم محاولات الاجتثاث
والتضييق المستمر.
ورغم بعض أخطاء التقدير والتسيير، كما هو
الحال في كل تجربة بشرية، فإن النهضة لا تزال تمثّل النموذج الأبرز للحياة الحزبية
الديمقراطية في تونس، بنيةً وتنظيماً وامتداداً شعبياً، في مشهد سياسي يتّسم
بالتشرذم والضبابية وانهيار التجارب الحزبية الأخرى. لقد أدار الغنوشي النهضة
بعقلية المؤسّسة، وساهم في تحويلها إلى حزب قابل للتجدد والتداول والمساءلة، وهو
ما منحها القدرة على الاستمرار، لا كأداة انتخابية فحسب، بل كمشروع وطني جامع يسهم
في بناء تونس الحرية والديمقراطية.
5 ـ ثروة نادرة من القيم والسلوك
من رافق راشد الغنوشي عن قرب، يدرك أن ما
يملكه من ثروة أخلاقية وروحية لا تقلّ شأناً عن فكره السياسي أو رصيده النضالي.
فهو رجل زاهد، متواضع، خفيف المؤونة، كثير العمل، قليل النوم، لا يكلّ ولا يملّ من
العطاء. عُرف بكرمه وإنفاقه على ضيوفه من ماله الخاص، وبعفّته عن المال العام، فلا
يمدّ إليه يده ولا يقبل أن يُساء استخدامه من محيطه.
من رافق راشد الغنوشي عن قرب، يدرك أن ما يملكه من ثروة أخلاقية وروحية لا تقلّ شأناً عن فكره السياسي أو رصيده النضالي. فهو رجل زاهد، متواضع، خفيف المؤونة، كثير العمل، قليل النوم، لا يكلّ ولا يملّ من العطاء. عُرف بكرمه وإنفاقه على ضيوفه من ماله الخاص، وبعفّته عن المال العام، فلا يمدّ إليه يده ولا يقبل أن يُساء استخدامه من محيطه.
الغنوشي ملتزم بدينه التزاماً عميقاً، لا
شكلياً، حافظ لكتاب الله، صوّام للنافلة، قوامٌ للّيل، كثير الدعاء والقنوت، سمح
النفس، رقيق الجانب، بعيد عن الغلظة أو التشفي، لسانه مصون عن الطعن في خصومه، لا
ينشغل بأعراض الناس، حتى وهو يتعرض للظلم والتشهير، لأنه يربّي نفسه ومن حوله على
مكارم الأخلاق.
براءة أمام القضاء وتمسك بحرية التعبير
نال الغنوشي عدداً من الجوائز المرموقة
تبرّع بكامل عائداتها المالية لفائدة جمعيات إنسانية، من بينها الهلال الأحمر
التونسي، في تعبير صادق عن التزامه بقيم التضامن وخدمة الصالح العام. كما لجأ إلى
القضاء البريطاني في عدد من القضايا رفعها ضد إعلاميين ومؤسسات إعلامية اتهمته
زوراً وبهتاناً، وقد أنصفه القضاء العادل بإنصاف الحق ودحض الباطل. ورغم أن ما
وُجه إليه وإلى عائلته من تهم في الإعلام التونسي، بعد الثورة، كان أكثر خطورة
وأوسع انتشاراً، فإنه لم يرفع أي دعوى قضائية، تمسكاً منه بحرية التعبير وتغليباً
لمصلحة الوطن، ما يؤكد ثقته في براءته ونزاهته أمام كل قضاء نزيه.
هذه الخصال الشخصية، التي ظلّ محافظاً عليها
في جميع مراحل حياته، من المطاردة والمنفى، إلى رئاسة البرلمان، وحتى في محبسه
اليوم، تشكّل الوجه الحقيقي لثروته التي لا تُشترى ولا تُباع، والتي تجعل منه، في
نظر من عرفه، مثالاً نادراً في الجمع بين الفكر العميق والسلوك النقي، بين القيادة
السياسية والقدوة الأخلاقية.
واليوم، من داخل السجن.. لا يزال راشد
الغنوشي يراكم من ثروته
رغم التضييق، ورغم الزج به في السجن، لا
يزال الغنوشي يُمارس دوره التاريخي: من داخل الزنزانة، يواصل نضاله من أجل الحرية
والديمقراطية، ويؤكد بثباته على المبادئ أن "ثروته" لا تقهرها الجدران
ولا تصادرها الأحكام. فالثروة الحقيقية
ليست حساباً بنكياً، بل مواقف ترسّخت، وأفكار انتشرت، وتأثير باقٍ.
الغنوشي اليوم رمز مضيء في زمن التراجع،
وأيقونة للفكر الديمقراطي الإسلامي الذي يسعى خصومه إلى تشويهه لأنهم لا يستطيعون
مجاراته. هم يملكون المال والإعلام والسلطة، لكنه يملك الكلمة والموقف والتاريخ،
وهي ثروة لا تبلى ولا تفنى. اليوم، وهو خلف القضبان، لا يزال راشد الغنوشي يُراكم
من ثروته الرمزية. سُجن لأنه ثابت وصامد، لا لأنه فاسد. حوكم لأنه وُجد في طريق
مشروع مضاد للحرية، لا لأنه ارتكب جريمة. نضاله من داخل السجن هو امتداد طبيعي لما
بدأه منذ عقود، ويؤكد أن ثروته ليست عابرة، بل راسخة.
ثروة لا تُنهب ولا تَفنى
راشد الغنوشي ثريّ جدّا. لكنه ليس ثريًا بما
في جيبه، بل بما في عقله وقلبه وسيرته، وما تركه من أثر فكري ونضالي. هذه هي
الثروة التي لا تحصيها تقارير لجنة مكافحة الفساد، ولا تُحاصرها قضايا مفبركة، ولا
تُصادرها دولة القمع، ولا يمحوها الزمن. هو ثريّ لأن ثروته قامت على النضال، وهم
ثروتهم قامت على الاستبداد. هو ثريّ بالفكر، وهم فقراؤه بالجهل والتشويه. الحملات
التي لا تكاد تتوقف ضد راشد الغنوشي، ليست بسبب أخطائه كما يحاولون اقناعنا، وإن
كانت له مثل كل البشر، لكنها بسبب نجاحاته ورصيده الفكري والنضالي. إنه رجل جمع
ثروة لا تُقاس بالدينار، بل تقاس بوزنها في مسيرة الشعوب نحو الحرية. ولهذا يمكن
القول بثقة نعم، راشد الغنوشي ثريّ جدّا... ولكن ليس بما يُخزن في البنوك، بل بما
يبقى ويُخلد في الضمائر والتاريخ.
الغنوشي في مرمى الاستهداف
لم يكن الغنوشي بعيداً عن مرمى حملات
الاستهداف الممنهجة التي تشنّها دوائر داخل تونس وخارجها، تعادي الثورة التونسية
وسعت بكل الوسائل لإجهاض تجربة الانتقال الديمقراطي. وبما أن الغنوشي وحزبه كانا
في قلب العملية السياسية منذ الأيام الأولى للثورة، وتحملّا مسؤوليات كبرى في
إدارة الشأن العام وصياغة التوافقات الوطنية، فقد أصبح في مقدّمة المستهدفين، لا
لذاته فقط، بل لما يمثّله من رمزية وامتداد وتأثير وقدرة على حماية التجربة من
السقوط.
عملت تلك الأطراف، عبر وسائل الإعلام
والدعاية المضادة، على تشويهه ووصمه بكل الأوصاف السالبة، في محاولة لتقديمه على
أنه خصيم التونسيين وعدوهم، وإلحاق كل التهم به، في استهداف ممنهج للثورة من خلال
رموزها. لكن الحقيقة سرعان ما تنكشف لكل من يقترب من الرجل، حتى من بين ألدّ
خصومه، ليجد أمامه رجلًا طيب المعشر، متزن العقل، واسع القلب، منصتًا باحترام،
محبّا لتونس وشعبها، منفتحًا على الحوار، حريصًا على بناء المشتركات واستدامة
العلاقات السياسية والإنسانية.
لقد كان الغنوشي، ولا يزال، ممن يُقدّم
مصلحة تونس على مصلحة حزبه، ويبذل من سمعته ويتصدّق بعِرضه من أجل أن تعبر سفينة
تونس بسلام نحو الحرية والديمقراطية والتنمية والاستقرار. في وقتٍ كان فيه غيره
يبحث عن المكاسب، كان هو يتحمّل الكلفة، ويدفع ثمن التوافق، ويفتح قلبه قبل أبوابه
لكل من يحمل همّ الوطن، مهما اختلف معه في الرؤية أو المرجعية. الغنوشي لا يرى في
الخلاف السياسي عداوة، ولا في المعارضة خصومة شخصية، بل يؤمن بأن التنوع سنة من
سنن الحياة، وأن السياسة في الديمقراطية ليست ميدانا للإقصاء، بل أداة للتفاهم والتوازن
وبناء المستقبل المشترك.
مشكلة الغنوشي
قد تكون مشكلة الغنوشي في سياق الانتقال
الديمقراطي التونسي أنه لم يحظَ لا بحليف جاد ووازن يؤمن فعليًا بالشراكة
الديمقراطية، ولا بخصم نزيه يقبل بقواعد اللعبة السياسية. منذ الثورة، وجد الغنوشي
نفسه في موقع محوري، لا فقط باعتباره زعيم حركة النهضة الحزب الفائز في
الانتخابات، وإنما كأحد أبرز الفاعلين في هندسة التوازنات الجديدة في البلاد. سعى
إلى اعتماد منطق التوافق، في محاولة لتجنيب تونس مصير دول الربيع العربي الأخرى،
لكنه وجد نفسه محاصرًا بين أطرافٍ لا تؤمن بالتعددية السياسية إلا بمقدار ما تخدم
مصالحها، وأخرى تحمّله مسؤولية كل اختلالات المرحلة، في ظل مناخ إقليمي متقلب
ومعادٍ لتيارات الإسلام السياسي.
في نهاية المطاف، وجد الغنوشي نفسه في قلب
تجربة انتقالية انهارت تحت ثقل التجاذبات الإيديولوجية، وضعف الثقافة الديمقراطية،
وغياب إرادة سياسية جماعية لبناء نظام سياسي مستقر. وقد يكون هذا أحد أسباب فشل
الانتقال الديمقراطي: غياب الثقة، وتلاشي الحدود بين الخصومة السياسية والمواجهة
الوجودية.
الإنصاف في قراءة سيرة الغنوشي بين النقد
المشروع والتشويه الممنهج
الحديث عن راشد الغنوشي، ونقاط قوته وخصاله،
هو واجب أخلاقي قبل أن يكون مجرد موقف سياسي أو فكري. فالرجل الذي تتالت ولا تزال
محاولات شيطنته والنيل من سمعته حتى وهو في السجن، لم يسلم من حملات ممنهجة، صُرفت
لها ميزانيات ضخمة من الداخل والخارج، في محاولة لتحطيم رمزيته وتشويه سيرته. ومع
ذلك، فإن الدفاع عن مناقبه لا يعني تبرئته من الأخطاء، ولا الادعاء بأنه معصوم من
الزلل. الغنوشي، كغيره من الشخصيات العامة، له إخفاقاته الفكرية والسياسية، ومواطن
الاجتهاد والخلاف.
غير أن من الإنصاف، بل من مقتضيات الأمانة
التاريخية، ألا يُختزل الرجل في ما يُوجَّه إليه من نقد، وأن يُذكر أيضًا ما له
كما يُذكر ما عليه. فالنقد المشروع لا يتعارض مع إبراز النجاحات والخصال، خاصة حين
تكون في مواجهة حملات تضليل وتشويه ممنهج. والغنوشي، المعروف بسعة صدره تجاه
النقد، لا يطلب التنزيه، ولكن لا يجوز، باسم النقد، طمس معالم مسيرته أو طعنها من
غير وجه حق.
من لا يملك رصيدًا من الفكر، ومن لا يستطيع
أن ينافس الغنوشي على ساحة الحجة والمشروع، لا يملك إلا أن يهاجمه بالسجن
والتشويه. لكنّ الفكرة لا تُسجن، والتاريخ لا يُزوّر، والرجل لا يُكسر.