في تاريخ الأمم تتكرّر السنن الربّانية وإن
اختلفت الأسماء والأزمنة؛ فالهلاك لا ينزل فجأة من غير أسباب، بل يجيء ثمرةً
لطريقٍ طويل من الغفلة والغرور والانحراف عن الغاية الكبرى من الوجود. وما قصة
فرعون وقومه إلا نموذجٌ مكثّف لهذا المسار المنحدِر، حين تتحوّل الدنيا من ممرٍّ
إلى مقرّ، ومن وسيلةٍ إلى غاية، فينشغل الإنسان بزخرفها ويغفل عمّا وراءها من
حسابٍ وجزاء.
وهذه القضية ليست تاريخًا يُروى، بل فكرةٌ
ممتدة في واقع البشر، تعكس صراعًا دائمًا بين نداء الروح وثقل المادة، وبين نور
الهداية وشهوة السلطان والمتاع. ومن هنا تأتي أهمية الوقوف عند سببٍ جوهريٍّ من
أسباب الهلاك في التجربة الفرعونية، وهو الانشغال بالدنيا ونسيان الآخرة، بما
يحمله من دلالاتٍ تربوية وفكرية تحذّر الإنسان من أن يسلك الطريق نفسه، وتنبهه إلى
أن أعظم الخسارات تبدأ حين تُنسى الحقيقة الكبرى: أن للحياة الآخرة وزنًا يفوق كل
متاعٍ زائل.
في هذا النص يسلّط الأمين العام للاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين، الدكتور علي محمد الصلابي، الضوء على أحد أخطر الأسباب
التي تقود الأمم والأفراد إلى الهلاك، وهو الانشغال بالدنيا ونسيان الآخرة. فمن
خلال استعراضه لقصة فرعون وقومه، يكشف كيف يتحول التعلّق بالملك والمال والزينة
والجاه إلى حجابٍ يحجب البصيرة عن الحق، ويقود إلى الطغيان والعناد ورفض الهداية.
ويبيّن الصلابي أن الانغماس في الشهوات،
والانبهار بزخارف الحياة، وفقدان الصبر واليقين، ليست مجرد أخطاء عابرة، بل هي
مقدمات لسنةٍ إلهية ثابتة تُعرف بـ "الاستدراج"؛ حيث تُفتح على الإنسان
أبواب النعم حتى يظن أنه في أوج النجاح، فإذا به يؤخذ بغتة وهو غارق في غفلته. ومن
خلال ربطه بين النص القرآني والواقع التاريخي لفرعون وغيرها من الأمم الهالكة،
يقدّم تحذيرًا فكريًا وتربويًا عميقًا يُنبه به الإنسان المعاصر إلى خطورة جعل
الدنيا غايةً، ويؤكد أن النجاة الحقيقية لا تكون إلا باليقظة الروحية واستحضار
الآخرة في موازين الفكر والسلوك.
طريق فرعون إلى الهلاك
الانغماسُ في ملذّات الدنيا والانشغال
بزخارفها على حساب الاستعداد للآخرة من أعظم الأسباب التي قادت إلى هلاكِ فرعونَ
وقومِه. فقد أعماهم الغرورُ بالملك والقوة عن إدراك حقيقة الحياة وغايتها، فتمادوا
في الطغيان ورفض الحق. وتبرز هذه القصة خطورة الانشغال بالدنيا ونسيان ما ينتظر
الإنسان بعد الموت. فمن يتخذ الدنيا غايةً لا وسيلة، ويغفل عن رسالته الكبرى، يعرض
نفسه لسوء العاقبة وفوات النجاة، وذلك تحذيرٌ بليغٌ لكلِّ من يسيرُ في الطريقِ
نفسه.
لقد اشتغل فرعون وقومه بأمور الدنيا،
وأصابهم الغرور بها ونسوا الآخرة، وفرحوا بالأموال والنعيم الزائل، وتورّطوا في
الشبهات الإبليسية، وانغمسوا في الشهوات الشيطانية، وغاب عنهم الصبر الذي تدفع به
الشهوات المحرّمة واليقين الربّاني الذي تُزال به شِباك إبليس في شبهاته.
ووقعوا في سنة الاستدراج الربّاني، فكثرت
أموالهم وأولادهم، وأبطرتهم النعم الكثيرة، وتحقق فيهم قول الله: ﴿فَلَمَّا نَسُوا
مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا
فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (٤٥)﴾ ]الأنعام:٤٤-٤٥[.
والتعبير القرآني: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يصوّر الأرزاق والخيرات والمتاع، والسلطان، متدفقاً
كالسيول بلا حواجز ولا قيود وهي مقبلة عليهم بلا كد ولا حتى محاولة، إنه مشهد عجيب
يرسم حالة في حركة على طريقة التصوير القرآني العجيب.
الانغماسُ في ملذّات الدنيا والانشغال بزخارفها على حساب الاستعداد للآخرة من أعظم الأسباب التي قادت إلى هلاكِ فرعونَ وقومِه. فقد أعماهم الغرورُ بالملك والقوة عن إدراك حقيقة الحياة وغايتها، فتمادوا في الطغيان ورفض الحق. وتبرز هذه القصة خطورة الانشغال بالدنيا ونسيان ما ينتظر الإنسان بعد الموت. فمن يتخذ الدنيا غايةً لا وسيلة، ويغفل عن رسالته الكبرى، يعرض نفسه لسوء العاقبة وفوات النجاة، وذلك تحذيرٌ بليغٌ لكلِّ من يسيرُ في الطريقِ نفسه.
ـ ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا﴾
وغمرتهم الأرزاق والخيرات المتدفقة، واستغرقوا في الاستمتاع بها والفرح لها ـ بلا
شكر ولا ذكر ـ وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعِم، ومن خشيته وتقواه، وانحصرت
اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة،
كما هي عادة المستغرقين في اللهو والمتاع، وتبع ذلك فساد النُظم والأوضاع، بعد
فساد القلوب والأخلاق، وجرّ هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها؛
عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدّل. (في ظلال القرآن، (٢/١٠٩٠))
ـ ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ
مُبْلِسُونَ﴾: فكان أخذهم على غرّة، وهم في سهوة وسكرة، فإذا هم حائرون، منقطعو
الرجاء في النجاة، عاجزون عن التفكير في أيِّ اتجاه، فإذا هم مهلكون بجملتهم حتى
آخر واحد منهم.
ـ ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا﴾: دابر القوم: هو آخر واحد منهم، يدبُرهم، أي: يجيء على أدبارهم، فإذا
قُطع هذا فأولئك أولى، و ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ تعني: الذين أشركوا، والشرك من
أنواع
الظلم، وهو أعظمها.
ـ ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾:
تعقيب على استئصال الظالمين بعد هذا الاستدراج الإلهي والكيد المتين، وهل يُحمد
الله على نعمة أجلَّ من نعمة تطهير الأرض من الظالمين أو على رحمته بعباده بهذا
التطهير؟
لقد أخذ الله تعالى قوم نوح، وقوم هود، وقوم
صالح، وقوم لوط كما أخذ الفراعنة والإغريق والرومان وغيرهم بهذه السنة، ووراء
ازدهار حضارتهم ثم تدميرها ذلك السرّ الـمُغيَّب من القدر الظاهر في سننه، وهذا
التفسير الربّاني لهذا الواقع التاريخي المعروف. (في ظلال القرآن، المصدر السابق،
(٢/١٠٩١))
المراجع:
ـ موسى كليم الله، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الأصالة
– إسطنبول، ط1، 1444هـ - 2022م.
ـ في ظلال القرآن، سيد إبراهيم قطب، القاهرة، دار الشروق،
ط32، 1423ه/ 2003م.