يقدّم الوزير التونسي الأسبق أحمد قعلول في هذا الجزء الثالث والأخير
من ورقته الفكرية الحصرية لـ"عربي21" قراءة معمقة لمسار الهيمنة
الإقليمية والدولية، بعنوان "إسرائيل الكبرى ضمن معادلة إدارة التناقضات
الأمريكية (امبراطورية دون إمبراطور)". تحلل الورقة بعمق التحولات
الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، دور إسرائيل كـ"اللاعب
المدلل" ضمن حسابات الهيمنة الأمريكية، والتشابك بين صعود القوى الإقليمية
وديناميات التاريخ الكبرى، مستندة إلى مزيج من التحليل السياسي والاستراتيجي
والفلسفي لتسليط الضوء على مآلات الصراع والتوازنات المستقبلية في المنطقة
والعالم.
إسرائيل الكبرى ضمن معادلة إدارة التناقضات الأمريكية (امبراطورية
دون امبراطور)
هناك احتمال يجعل هذا التحول ممكنا ضمن المعادلات الدولية الجديدة
ويتمثل هذا الإمكان في أن تكون "الولايات المتحدة" وضمن استراتيجياتها
الأمنية الجديدة مقبلة على تغيير قواعد أولوياتها من أجل الحفاظ على موقع الهيمنة
وذلك أنها وفي إطار سياسة الانحسار ستلجأ إلى سحب الجميع معها إلى الوراء ومنع
اتساع وصعود أي قوة اقليمية أو دولية من خلال إدخالها في حالة من الاشتباك
المتواصل والدائم، مع مشاغبة الصين بحروب مرهقة تشتت تركيزها على استراتيجياتها
الكبرى.
أما بخصوص منطقة الشرق الأوسط فيمكن أن تلجأ الولايات المتحدة لسياسة
"صفر أصدقاء" بمعنى أن يكون الباب مفتوحا عندها للجميع ولكنه موصد في
نفس الوقت فهي مثلا تعول على تركيا وتنسق معها في الكثير من الملفات في شمال إفريقيا
وجنوب الصحراء وفي وسط آسيا ولكن في نفس الوقت تضعها تحت الضغط والتهديد وذلك بدعم
"الكيان الإسرائيلي" من خلال الحفاظ على تفوقه وقدرته على مشاغلة القوى
الإقليمية الكبرى ومحاصرتها، كأن تحرص على بث حالة التفكك وعدم الاستقرار في سوريا
مع محاصرة النظام السوري الجديد من خلال دعم الأقليات الطائفية والعرقية.
أما بالنسبة لإيران فهي تمارس معها سياسة الباب شبه المغلق بحيث
تتركها تهديدا يحد من النفوذ التركي كما أنها طرف تبتز به دول الخليج وتتركها في
حالة استنزاف متواصل بينما تسمح "لإسرائيل" بالقيام بدور شرطي المنطقة
أو دور "Cowboy راعي البقر" الخارج عن القانون وهذا يعني أن
تضحي الولايات المتحدة بدول الخليج ومصر، بمعنى أن تصبح هذه الدول دائرة ضمن
النفوذ والقرار الإسرائيلي وأن تفقد سيادتها على قرارها، مع فسح الباب لتفكيكها
ومحاصرتها وهذا ما سيسمح للولايات المتحدة بالانسحاب والتعويل على "إسرائيل"
التي تتحول للاعب إقليمي ذو نفوذ دولي.
بخصوص منطقة الشرق الأوسط فيمكن أن تلجأ الولايات المتحدة لسياسة "صفر أصدقاء" بمعنى أن يكون الباب مفتوحا عندها للجميع ولكنه موصد في نفس الوقت فهي مثلا تعول على تركيا وتنسق معها في الكثير من الملفات في شمال إفريقيا وجنوب الصحراء وفي وسط آسيا ولكن في نفس الوقت تضعها تحت الضغط والتهديد وذلك بدعم "الكيان الإسرائيلي" من خلال الحفاظ على تفوقه وقدرته على مشاغلة القوى الإقليمية الكبرى ومحاصرتها، كأن تحرص على بث حالة التفكك وعدم الاستقرار في سوريا مع محاصرة النظام السوري الجديد من خلال دعم الأقليات الطائفية والعرقية.
إن ما وقع أخيرا من العدوان "الإسرائيلي" على قطر مؤشر على
احتمال مثل هذه الفرضية إذ أن هذا الاعتداء يترجم سياسة مفادها أن أي طرف يفقد
حصانته إذا فقد رضى "إسرائيل" وأن الحماية الأمريكية غير موجودة في غياب
هذا الرضى، وهذا ينطبق حتى على الدول التي مضت في مسار التطبيع مع هذا الكيان،
وذلك أن مقولة إسرائيل الكبرى تقتضي تحقيق شرط النسيان الذي يتحدث عنه
"غلنر" أي غياب أي إرادة مخالفة للسلطة القهرية للمركز.
وهذا يعني أن طموح إسرائيل لا يتوقف عند فرض الاستسلام وقبول الهزيمة
على المقاومة الفلسطينية، بل يقتضي أن تسلم "الدولة العربية" إرادتها
ومواردها لسلطة المركز "إسرائيل" وتنسى كياناتها المستقلة فلا سيادة لها
ولا دولة.
ومن جهة جهة أخرى ستعمل الولايات المتحدة على تقليل تعويلها على
الشريك الأوروبي "الضعيف"، بحيث يتحول لشريك من درجة ثانية مع فتح الباب
لعلاقة مع روسيا تضمن بها أن لا تقترب مع الصين وفي أقصى الحالات أن لا تتحالف مع
الصين ضدها.
وهذا يعني أن تنتهج الولايات المتحدة مع الجميع سياسة "العصى والجزرة" باستثناء
اللاعب "الإسرائيلي" الذي يسمح له بالعبث ضمن الاستراتيجية الكبرى. بحيث
يكون هذا الطفل المدلل في وضع مريح يتمتع بمنافع الثقل الإمبراطوري للولايات
المتحدة دون أن يحتاج ليتحول لإمبراطور.
تبقى هذه الاستراتيجية رهينة استعداد وقابلية دول المنطقة للتحول
لموضوع الفعل والتأثير الاسرائيلي وكذلك على مدى قدرة "اسرائيل" واللوبي
الصهيوني في الولايات المتحدة على الإقناع بهذا السيناريو.
ديناميات موازين القوى ومسارات التيارات التاريخية:
على عكس "إيمانويل كانط" الذي يعتبر أن العقل أو العقلانية
هي الحاكمة في مسار التاريخ يرى "هيغل" أن الحروب هي النار التي تصهر
الشعوب وتبني هوياتها الجماعية مثلما تصهر النار الحديد وتجعل منه كتلة واحدة
متجانسة، وهو لما وقف أمام جيش "نابليون بونابارت" المتقدم أعلن أن
التاريخ يمر من هنا أي من حيث يسير مسار الجيش الإمبراطوري الفرنسي.
وإذ يعتبر "هيغل" أن جدليته تحكم التاريخ بحتمية قاهرة من
خلال مسار الحرب والصراع فإن "ابن خلدون" يعتبر أن حتمية التاريخ تقوم
على حتمية أوسع وأعلى من آليات "التدافع" وهي آلية "التداول"
المحكومة بديناميات الحرب واستبداد العصبيات بالملك بما هي هي ديناميات داخلية والأهم
من ذلك بقانون التداول المحكوم بالأعمار البيولوجية للعصبيات والجماعات. ولذلك فإن
وجود ديناميات داخلية لا يكفي كشرط لحكم مسار التاريخ ومعرفة اتجاهاته ولا بد من
معرفة وضع هذه الكيانات ضمن الوجود العام للأمم وأعمارها ومراحل عمرانها مقارنة
ببعضها البعض.
لا يسمح المقام للتعمق في هذا الموضوع إلا أنه من المهم لفهم احتمال
تحقق هذا المشروع الذي يحتاج لموازين قوة مناسبة تسمح بإنشائه أن نضع رؤيتنا
لموازين القوة ليس فقط في سياق الإمكان والاحتمال، بل والأهم في ذلك في سياق مسار
التاريخ وتياراته.
وفي هذا الإطار من المهم التنويه لكون دينامية موازين القوى ومنذ
قرابة عشرين سنة بدأت تتحرك في اتجاه مخالف لاحتمال توسع كيان "دولة
إسرائيل" وذلك أن روسيا وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي ومرورها بمرحلة ضعف
وكمون عادت لتلعب دورا دوليا محوريا، كما أن كلا من إيران وتركيا دخلا في حالة
صعود مطرد بحيث تحولا من قوتين إقليميتين لقوى ذات تأثير دولي ولكل من هذه الدول
علاقات وتعاون وإن كان في ملفات دون أخرى بحيث سيكون من الصعب أن تتمكن "إسرائيل"
من التحول للاعب دولي مستقل على حسابها.
كما أن القوى المنافسة للولايات المتحدة والمزاحمة لها يتزايد صعودها
وأولها الصين ومعها الهند والأهم من ذلك صعود دول أمريكا اللاتينية مثل البرازيل
خاصة، وهذه كلها عوامل ستضطر الولايات المتحدة لحساب ثمن المغامرة في استعداء
الجميع خاصة مع مسار التحالفات التي تبنى في العالم والتي تقوم الصين فيها بدور
مركزي أكان ذلك في إطار "البريكس" أو في إطار ما يطلق "بالجنوب
العالمي".
ومن جهة أخرى فإن الدول العربية وخاصة "المملكة العربية
السعودية" بصفتها أهم قوة خليجية ومن أهم القوى الاقليمية العربية وكذلك مصر
التي هي قلب معادلة الشرق الأوسط والتي تتحوز على أكبر قوة عسكرية عربية، إن هذه
الدول ومهما كان مستوى الضعف الذي تمر به ستدافع عن وجودها وحياتها وسيكون من أكبر
المخاطرات على المنطقة ومحيطها الدولي السعي لتفكيكها وبعثرة مقدراتها (وهو شرط
تحول اسرائيل لمركز اقليمي امبراطوري). ضف لذلك مسار الثورات العربية الذي كانت
الجزائر نقطة انطلاقه في نهاية الثمانيات ثم أوقدت تونس انفجاره الثاني ثم تلاه
طوفان الأقصى والثورة السورية كل هذه عوامل تؤكد أن المنطقة تدخل في مسار معاندة
لموازين القوة التي فرضت عليها خلال القرن الماضي وهذا ما يجعل المغامرة بالدولة
العربية خطوة في اتجاه معاكس لمسار الهيمنة الصهيونية بقدر ما يفتح مسار تحرير
الشعوب سلطان الدولة الذي يكبح حركتها.
إذ صحيح أن الحروب والحروب الأهلية عادة ما تكون باهضة الثمن على
الدول وعلى الشعوب، ولكنها وكما يقول "هيغل" تكون في كثير من المرات
شرطا ضروريا للتحرر، ولذلك فإن ما تمر به العراق واليمن وليبيا، ومعها سوريا
والسودان والصومال، هو في النهاية مسار سيولد جيل تربى خارج سلطان الدولة وهو جيل
لا يحتكم إلا لإرادته وسلاحه وقدرته على إنفاذ تلك الإرادة خارج حدود الدبلوماسية
والقوانين التي تفرضها العقلانية الغربية التي صنعت هذه الدول وأنماطها. وهذه كلها عوامل صعود وتجدد وليست عوامل نزول وهرم.
إن ما وقع أخيرا من العدوان "الإسرائيلي" على قطر مؤشر على احتمال مثل هذه الفرضية إذ أن هذا الاعتداء يترجم سياسة مفادها أن أي طرف يفقد حصانته إذا فقد رضى "إسرائيل" وأن الحماية الأمريكية غير موجودة في غياب هذا الرضى، وهذا ينطبق حتى على الدول التي مضت في مسار التطبيع مع هذا الكيان، وذلك أن مقولة إسرائيل الكبرى تقتضي تحقيق شرط النسيان الذي يتحدث عنه "غلنر" أي غياب أي إرادة مخالفة للسلطة القهرية للمركز.
مثل ابن خلدون يعتبر "راي داليو" أن للدول أعمارا بيولوجية
ويبين في كتابه "قواعد للتعامل مع عالم متغير" أن امبراطورية الولايات
المتحدة قد بلغت القمة ودخلت في خط النزول ويقابلها في نفس المستوى الصين، ولكن
الأخيرة في حالة صعود بينما الأولى في حالة أفول. ولذلك فإن كل
السياسات التي
تنتهجها هي في النهاية سياسات لإبطاء سرعة النزول من القمة من أجل تجنب عدم
الاصطدام بالقاع. والأهم من هذا هو أن الدولة الأمريكية وأجهزتها مدركون لدخولهم
في مرحلة النزول ومغادرة القمة. وهو ما تتحدث عن بوضوح التقارير الاستراتيجية التي
أصدرتها وكالة الاستخبارات الأمريكية عن حال العالم سنة 2040 إذ تتحدث هذه
التقارير عن حالة النزول وياخذون في ذلك مثال الإمبراطورية البريطانية التي دام
نزولها لقرن ونصف من الزمان ويفتحون سيناريوهات واستراتيجيات لتجنب الانهيار
وإبطاء سرعة الأفول من أجل الصمود على القمة لأطول وقت ممكن.
إن الانتباه لاتجاه التاريخ يكشف لنا مآلات أحداثه وفي هذا الإطار لا
يتوقع ان تتمكن "الصهيونية" بتقديم نفسها بديلا حضاريا ولا إمبراطوريا
ولا يتوقع ان تغامر القوى الكبرى من اجلها بحياتها إذا ما تناقضت مصالحها الوجودية
مع ما تطلبه "الصهيونية".
وأخيرا:
إذا كان التاريخ تحكمه موازين القوى كما تحكمه حتمياته، فأن أحداثه
لا يحركها العقل وفي كثير من الأحيان يكون الجنون هو القادح الرئيسي لكشف ما خفي
عن العقل من مساراته.
وفي هذا الإطار فإن صعود الشعبويات في العالم وصعود القيادات
المتطرفة لقيادة شعوبه، كل هذا ينبؤنا بأن الجنون هو ما سيسيطر على مسار الأحداث
خلال السنوات القادمة.
وهذا يعني أن العالم ومنطقتنا مقدمة على مرحلة من الحروب المتعددة
والمتتالية وأنه لا يتوقع من منظوماتها أن تتصرف بحسب الحكمة والعقل، بل لعل
الكثير منها يقع ضحية لمشاعر الخوف والوهم بينما تمضي إسرائيل قدما في مسار الجنون
الذي يحكمها علها بفعله تحقق اختراقا في التاريخ.
وما نتوقعه برغم ثقتنا باستحالة تحقق هذا الهدف هو ان اللوبي
الصهيوني لن يتوانى عن بذل أقصى ما لديه لتحقيق أسطورته ولن يكون الوحيد المؤمن
بهذه الأسطورة إذ يبرز في الغرب اليوم شعبويات تشاركه نفس الأصول الدينية لأسطورة
إسرائيل الكبرى خاصة في صفوف ما يسمى "المسيحية القومية" وليدة
البروتستانتية التي تؤمن بعلوية اليهود واليهودية.
ومقابل هذا الجنون فإن الإسلام ما فتئ منذ عقود يطور مقولاته وقيمه
ويتجاوز حالة الهرم التي اعتل بها خلال القرن الماضي، وهو خاصة مع ثورات الربيع
العربي ثم مع طوفان الأقصى قد نجح في إنتاج ممارسة لها سمو قيمي واتساع على مستوى
الذات الإنسانية وأرقى من منظومة القيم الغربية.
ثم إنه اليوم في غزة يقدم نموذجا ملهما للشباب في العالم للمقاومة
والرقي وهوما يرشحه بالضرورة لافتكاك موقع صلب في موازين القوة المستقبلية.
إلا أن الوصول لهذه المرحلة سيكون بعد أن تدخلنا الصهيونية في مرحلة
من التوحش نحتاج فيها للحفاظ على عقولنا وعلى ديننا. وقد أذن مؤذن في الكون
بأفول الغرب وشروق شمس الشرق.
إقرأ أيضا: حين تعيد إسرائيل رسم الخرائط.. من خطاب القوة إلى مأزق الواقع (1من3)
إقرأ أيضا: حين تعيد إسرائيل رسم الخرائط.. من خطاب القوة إلى مأزق الواقع (2من3)