قضايا وآراء

واشنطن تفتح نافذة وقف حرب أوكرانيا.. وأوروبا تُقفلها بقروضٍ وسلاح

نبيل الجبيلي
"هل تملك أوروبا استراتيجية تُزاوج بين الدعم العسكري والتفاوض، أم أنّها رهنت نفسها بالكامل لمعادلة التفوّق عبر الاستنزاف؟"- جيتي
"هل تملك أوروبا استراتيجية تُزاوج بين الدعم العسكري والتفاوض، أم أنّها رهنت نفسها بالكامل لمعادلة التفوّق عبر الاستنزاف؟"- جيتي
شارك الخبر
صيغة جديدة تقترحها واشنطن لوقف حرب أوكرانيا؛ تلك الصيغة ليس تفصيلا بروتوكوليا بقدر كونها اعترافا متأخرا، بأنّ الحرب قد دخلت طور "الاستنزاف" السياسي والمالي، وأنّ إدارة المعركة عبر "حُزم دعم" لا تنتهي، لم تعد سياسة قابلة للبيع إلى الأبد.

واشنطن، بحسب ما أعلنه الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، عرضت صيغة تفاوض جديدة تقوم على محادثات ثلاثية (أوكرانيا، الولايات المتحدة، وروسيا) على مستوى مستشاري الأمن القومي (المفاوضين الأساسيين)، مع احتمال أن يكون للأوروبيين مقعد داخل هذا الإطار. في الجوهر، هذه الصيغة تعني أمرين:

أولا، أنّ الولايات المتحدة تريد "تجميع المسارات" بدل الدوران في حلقات بيانات الدعم.

ثانيا، أنّها تريد اختبار قابلية موسكو وكييف لتنازلات متبادلة، عبر قناة أمريكية ضابطة، بعد تعثّر الحوار المباشر وعدم استقراره.

زيلينسكي نفسه قال إنّه لا يمانع الصيغة الثلاثية إذا أنتجت نتائج ملموسة مثل تبادل أسرى أو فتح الباب لاجتماعات على مستوى القادة، وهو كلام يشي بأنّ كييف لا تريد "صورة تفاوض"، بل مكاسب قابلة للقياس تُثبت أنّ التفاوض ليس فخا زمنيا.

هذا خطاب مفهوم من زاوية المبادئ، لكنّه على أرض الواقع غالبا ما يتحوّل إلى صيغة واحدة: استمرار التمويل والتسليح كخيار أول وأخير، مع رفع سقف الشروط إلى حد يجعل السلام كلمة جميلة بلا طريق عملي

لكن العقدة الحقيقية ليست هنا.. العقدة في أوروبا، وفي الطريقة التي تتعامل بها مع أيّ نافذة سياسية قد تُفضي إلى وقف نار. الأوروبيون يقولون، رسميا، إنهم مع "سلام عادل"، وكذلك مع سيادة أوكرانيا، وإنهم يربطون أيّ نهاية للحرب بمسؤولية روسيا وتعويضها عن الأضرار. هذا خطاب مفهوم من زاوية المبادئ، لكنّه على أرض الواقع غالبا ما يتحوّل إلى صيغة واحدة: استمرار التمويل والتسليح كخيار أول وأخير، مع رفع سقف الشروط إلى حد يجعل السلام كلمة جميلة بلا طريق عملي.

الأسبوع الماضي قدّم مثالا صارخا: الاتحاد الأوروبي أقرّ قرضا بقيمة 90 مليار يورو لأوكرانيا للعامين 2026-2027. هذا الدعم حمل رسالة سياسية مفادها أنّ أوروبا تتصرّف كأنها تُقنّن حربا طويلة المدى، أو أنّها فشلت في الاتفاق على استخدام الأصول الروسية المجمّدة لتمويل الدعم، واختارت بدلا من ذلك الاقتراض، بسبب المخاطر القانونية والمالية والخلافات الداخلية. أمّا النتيجة، فإنّ أوروبا سوف تدفع الثمن من ميزانياتها وديونها، بينما تُبقي "حلم" مصادرة أموال روسيا، شعارا عالقا في متاهة قانونية.

هنا تحديدا يصبح الموقف الأوروبي عرضة للنقد؛ حين تعجز أوروبا عن حسم آلية تمويل حرب طويلة، لكنّها في الوقت نفسه تُمانع أيّ مقاربة تفاوضية لا تضمن تحقيق أقصى الأهداف دفعة واحدة، فهي عمليا تحوّل أوكرانيا إلى خط دفاع دائم، لا إلى طرفٍ في تسوية. والنقاش لم يعد أخلاقيا فقط، بل براغماتيا.

لكن السؤال الجوهري يقول: ماذا لو كانت الصيغة الأمريكية الجديدة، فرصة لتثبيت وقف نار قابل للصمود؟ ماذا لو تُرك ملف الحدود والترتيبات النهائية لمسار أطول؟ هذا بالضبط ما ظهر في الوثائق المسربة خلال الأسابيع الماضية: مسودة أمريكية من 28 نقطة تسرّبت للعلن، أعقبها مقترح أوروبي (بريطانيا- فرنسا- ألمانيا) مضاد يعدّلها نقطة بنقطة.

هذا ما يجعلها تبدو، بنظر خصومها، كمن يريد إدامة القتال "حتى آخر جندي أوكراني"، ليس لأنّها تقول ذلك صراحة، بل لأنّ أدواتها العملية تقود إلى النتيجة نفسها: ضخّ المال والسلاح بلا أفق سياسي واضح

بدل أن تُنتج أوروبا "خارطة طريق" قابلة للعبور، بدت في كثير من التفاصيل كمن يفاوض على الورق ويقاتل في الواقع. عندما تتحوّل "الضمانات الأمنية" إلى شرط مُسبق، و"العدالة الكاملة" إلى مدخل وحيد، يصبح وقف إطلاق النار نفسه موضع شكّ، ويغدو أيّ تفاوض أشبه بامتحان نوايا لا بصفقة سياسية.

في المقابل، واشنطن حتى لو كانت مقاربتها مثيرة للجدل، فإنّها تحاول إعادة ترتيب اللعبة عبر إطار تفاوض محدّد السقف والجدول، وتجريب "الدبلوماسية المكوكية، التي تلتقط التفاهمات الجزئية ثم تُركّبها لاحقا.

في الخلفية، هناك مشكلة ثالثة تُضعف الموقف الأوروبي: تعدّد المراكز وتناقض الرسائل. الاتحاد الأوروبي ليس دولة واحدة؛ هو مزيج حساس من حسابات داخلية، وأزمات طاقة، وموازنات، وصعود يمين شعبوي، وخلافات على من يدفع ومن يقرر. لذلك يسهل على أوروبا أن تتفق على "قرض جديد"، لكن يصعب عليها أن تتفق على "نهاية سياسية" للحرب. وهذا ما يجعلها تبدو، بنظر خصومها، كمن يريد إدامة القتال "حتى آخر جندي أوكراني"، ليس لأنّها تقول ذلك صراحة، بل لأنّ أدواتها العملية تقود إلى النتيجة نفسها: ضخّ المال والسلاح بلا أفق سياسي واضح.

وعليه، يطرح هذا الواقع سؤالا إضافيا يقول: هل تملك أوروبا استراتيجية تُزاوج بين الدعم العسكري والتفاوض، أم أنّها رهنت نفسها بالكامل لمعادلة "التفوّق عبر الاستنزاف"؟ حتى اللحظة، المؤشرات تميل إلى الخيار الثاني، خصوصا أنّ الصيغة الأمريكية الجديدة ليست ضمانة سلام، وقد تكون مجرد إعادة تدوير للملفات تحت عنوان جديد. لكنّها على الأقل تُعرّي المفارقة الأوروبية: أوروبا ترفع شعار السلام العادل، ثم تمارس سياسة تمويل الحرب كما لو أنها قدرٌ بلا بدائل.

في النهاية، لا يكفي أن تقول أوروبا إنها مع السلام، بل يجب عليها أن تقدّم مسارا واقعيا يدفع الجهات المتصارعة نحو تحقيق هذا السلام، أو على الأقل ألّا تُفشل كل نافذة تفاوض بحجج مثالية، لا تعيش في أرض المعركة.
التعليقات (0)