لم يكن طوفان الأقصى مجرد معركة عابرة، ولا
حدثا محليا يمكن عزله عن السياق العالمي؛ بل كان زلزالا سياسيا ضرب ركائز النظام الدولي
من جذورها. فمنذ السابع من أكتوبر، لم يعد العالم يسير بقواعد الأمس، ولم تعد التحالفات
ثابتة، ولا الأنظمة آمنة، ولا التوازنات مستقرة.
نحن -بكل المعايير- ندخل عصر الجنون؛ عصر
تتهاوى فيه الثوابت، وتتشقق الجبال التي ظنّ الناس أنها لا تهتز، وتنهار أنظمة في أيام،
بينما تصعد أخرى كانت قبل أسابيع فقط مطاردة أو محاصَرة.
وقد كان المشهد السوري أوضح مثال على هذا
الجنون التاريخي؛ نظام الأسد الذي أعيد تأهيله رسميا، وعاد إلى جامعة الدول العربية،
وتدفقت إليه الوفود، وفتحت له السفارات أبوابها، وكان الجميع -هو وحلفاؤه وخصومه- يظنون
أنه دخل مرحلة "استقرار ما بعد الحرب"؛ ثم جاءت عاصفة الطوفان لتكشف هشاشته،
فينهار في أيام معدودات دون مقاومة تُذكَر، في أكبر انقلاب سياسي شهدته المنطقة منذ
عقود.
وفي المقابل، أحمد الشرع -الذي كانت واشنطن
ترصد عشرة ملايين دولار لمن يدل عليه، وصنّفته لسنوات طويلة إرهابيا- يتحوّل فجأة إلى
رئيس شرعي معترف به، ويجلس في القصور، ويُستقبل في عواصم عربية وغربية.
في ذهن تل أبيب ودوائر الأمن الأمريكية، لا توجد حماس كحالة منفصلة؛ هي -وفق تحليلهم- تجلٍ مباشر لأيديولوجيا الإخوان، ولذلك فإن ضرب حماس ليس نهاية المعركة، بل بدايتها. ووفق المنطق العقائدي لنتنياهو وترامب: لا يمكن القضاء على الفكرة إلا بضرب الجذر
هذه المشاهد لم تكن ممكنة قبل الطوفان، ولذلك
نقول: عصر الجنون يبدأ. وفي قلب هذا المشهد، يرتفع سؤال خطير: هل يقترب تصنيف جماعة
الإخوان المسلمين ككيان
إرهابي دولي؟ وماذا يعني ذلك؟ وماذا يمكن فعله قبل فوات الأوان؟
هذا المقال ليس تهويلا ولا جلدا للذات، بل
صوت المُحبّ المشفق الذي يريد لوصل ما انقطع، ولليقظة أن تسبق الخطر، كما قال حذيفة
بن اليمان رضي الله عنه: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير،
وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني".
أولا: لماذا يرى البعض أن تصنيف الإخوان أصبح أقرب من أي
وقت مضى؟
هناك رأي قوي اليوم يقول إن الظروف مهيأة
أكثر من أي وقت مضى لخطوة كبرى قد تستهدف الإخوان ككيان عالمي. وليس هذا الرأي مبنيا
على التخمين، بل على معطيات واضحة:
1. انهيار الثوابت الإقليمية بشكل جنوني وغير مسبوق
المشهد السوري والشرع ليسا حدثين منفصلين،
بل هما نموذج لقاعدة جديدة: ما كان مستحيلا قبل الطوفان أصبح ممكنا بعده.
تغيّر الأنظمة لم يعد يحتاج عقودا.. بل أياما، وما كان ثابتا لعشر سنوات أصبح هشّا
في ساعات. هذه البيئة تجعل القرار الأمريكي-الإسرائيلي أكثر جرأة، وأقل التزاما بمعايير
الأمس.
2. القناعة الأمريكية-الإسرائيلية بأن حماس امتداد عضوي للإخوان
في ذهن تل أبيب ودوائر الأمن الأمريكية،
لا توجد حماس كحالة منفصلة؛ هي -وفق تحليلهم- تجلٍ مباشر لأيديولوجيا
الإخوان، ولذلك فإن ضرب حماس ليس نهاية المعركة، بل بدايتها. ووفق المنطق العقائدي
لنتنياهو وترامب: لا يمكن القضاء على الفكرة إلا بضرب الجذر.
3. تطويق "المحور الإسلامي المقاوم" بجناحيه السني
والشيعي
بعد الطوفان، لم تعد إسرائيل ترى التهديد
في إيران وحدها، بل ترى -للمرة الأولى- أن المحور السني المقاوم (حماس، الإخوان، فروع
سياسية متعاطفة) والمحور الشيعي (إيران، حزب الله، الحوثيون)
يشكلان -في لحظة التقاء نادرة- تهديدا مشتركا، ومن هنا يُدفع ملف الإخوان نحو الطاولة.
4. انكشاف ضعف المؤسسات العميقة الأمريكية
قبل الطوفان، كانت وزارة الخارجية والبنتاغون
وسي آي إيه؛ تقف سدا أمام القرارات الانفعالية. اليوم، لم تعد قادرة على ضبط الإدارة
السياسية كما في السابق، أصبح القرار أقرب إلى رد الفعل.. لا إلى الخطة الاستراتيجية.
5. عصر "ما لم يكن يُتخيَّل"
في عالم قُصفت فيه ست دول في شهر واحد، وسقطت
أنظمة، وصعدت أخرى من المجهول؛ لا معنى لعبارة "هذا مستبعد". المستبعد أصبح
ممكنا.. والممكن أصبح مطروحا.
ثانيا: لماذا يرى آخرون أن تصنيف الإخوان ما زال بعيدا
رغم كل شيء؟
الرأي الثاني يستند إلى "عقل الدولة
العميقة" في أمريكا، وهي عقلية لا تزال نافذة رغم تراجعها. وهذا الرأي يرى أن
تصنيف الإخوان -عالميا- خطوة معقدة جدا لأسباب واضحة:
1. غياب الأدلة القانونية وفق قانون "FTO" ومعايير "OFAC"
الإدراج على قوائم الإرهاب يتطلب:
- أدلة عملياتية مباشرة (Material Support for Terrorism)؛
- صلة مؤسسية واضحة؛
- ارتباطا موثقا بعمل إرهابي؛
- سلوكا يهدد الأمن القومي الأمريكي..
ووفق قانون تصنيف المنظمات الأجنبية (Foreign Terrorist Organizations- FTO Designation) ومعايير وزارة الخزانة (OFAC)
لا يوجد ما يسمح بتصنيف "تنظيم الإخوان العالمي" ككيان واحد.
2. الانتشار الضخم.. والأصول الاقتصادية الواسعة
وجود الإخوان في أوروبا، وتركيا، وآسيا،
وأمريكا الشمالية؛ ليس فقط وجودا دعويا أو سياسيا.. بل اقتصادي أيضا. هناك شركات، واستثمارات،
ومدارس، وجامعات، ومراكز بحثية، ومؤسسات مالية؛ تجميد هذه الأصول سيخلق أزمة اقتصادية-دبلوماسية،
وليس مجرد أزمة سياسية.
3. الخشية من تعزيز التطرف في ظل صعود اليمين المتطرف
استهداف أوسع تيار إسلامي سياسي في العالم
اليوم قد يُستغل بصورة مباشرة من اليمين المتطرف الأوروبي، واليمين الإنجيلي الأمريكي،
والحركات القومية الشعبوية، وهذا قد يؤدي إلى موجة عداء للإسلام نفسه، ما يخلق اضطرابات
داخلية في الغرب، وهو ما تحذر منه مؤسسات الأمن الأمريكي.
4. حساسية التنافس مع الصين وروسيا
واشنطن تخوض معركة نفوذ على العالم الإسلامي،
وتصنيف الإخوان قد يُظهرها كعدو ثقافي-ديني، ما يمنح بكين وموسكو فرصة ذهبية.
ثالثا: أين الحقيقة بين الرأيين؟
الحقيقة أن كلا الرأيين صحيح.. وكلاهما ناقص؛
الصحيح أن:
- العالم تغيّر جذريا بعد الطوفان؛
- والمخاطرة أصبحت أكبر؛
- والسياسة أقل عقلانية؛
- والمؤسسات أقل صلابة؛
- والقوانين لا تزال عائقا.. لكنها ليست
درعا مانعا..
وهنا يظهر معنى الآية: "وَإِنْ كَانَ
مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ". والمعنى الآخر: "وَلِتَسْتَبِينَ
سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ".. الوعي بالمكر ضرورة لا ترفا.
رابعا: لماذا نُحذّر؟
قد يقول قائل: وإذا صدر القرار.. ماذا نفعل؟
وهل التحذير ينفع؟ والجواب واضح: التحذير لا يغيّر القدر.. لكنه يقلل الخسائر.
إن صدر القرار -لا قدر الله- ستكون آثاره
مباشرة على الأفراد، والقيادات، والمؤثرين، والمقيمين في الغرب، والحسابات البنكية،
والتحويلات، والمؤسسات، والمدارس، والجمعيات، والشركات، والاستثمارات، والإقامات القانونية.
وسيُطبّق عبر: البنوك الدولية (AML/CFT)، وهو أخطر باب
في الموضوع.
خامسا: ما الذي يجب فعله فورا؟ (الإجراءات الوقائية)
هذه ليست نصائح نظرية.. بل إجراءات ضرورية:
1. إعادة ترتيب الوضع القانوني وفق مبدأ الفصل الهيكلي
- الفصل بين العمل السياسي والدعوي.
- الفصل بين العمل الدعوي والخيري.
- ضبط الهياكل الإدارية.
- منع "العدوى القانونية".
- الامتثال التام للقوانين المحلية.
2. تأمين الأصول والأموال AML/CFT))
- عدم تجميع الأصول في دولة واحدة.
- إنشاء مؤسسات وهياكل قانونية محمية.
- استشارات من مكاتب قانونية دولية.
- إعداد خطط لمنع التجميد والملاحقة.
3. مراجعة الإقامات القانونية للقيادات والمؤثرين
عالم ما بعد الطوفان يتشكل.. إنه عالم يولد من رحم الفوضى.. وقد تكون آلام ولادته كبيرة، وربما رهيبة
- دراسة البلدان الأقل تأثرا بالضغط الأمريكي.
- تجنب البيئات الهشة.
- تقوية الوضع القانوني للإقامة.
4. حماية المؤسسات الإسلامية في الغرب
- تدقيق مالي دوري.
- شفافية كاملة.
- توثيق كل نشاط.
- بناء علاقات مع المجتمع المحلي.
- تحصين المدارس والمراكز من أي ثغرات.
5. خطاب جديد: الوعي قبل المواجهة
الاستعداد ليس جبنا.. بل نجاة، والغفلة ليست
شجاعة.. بل انتحار.
سادسا: وماذا بعد؟
عالم ما بعد الطوفان يتشكل.. إنه عالم يولد
من رحم الفوضى.. وقد تكون آلام ولادته كبيرة، وربما رهيبة. ليس المطلوب الانسحاب، ولا
التخويف، بل الاستعداد. فالطوفان لا يقتل لأنه قوي.. بل لأنه يأتي على قوم غافلين.
الخلاصة
هذا المقال ليس دعوة لليأس.. بل دعوة للبصيرة؛
ليس تحذيرا عبثيا.. بل إنذارا محبا؛ ليس قراءة متشائمة.. بل قراءة واقعية.
استعدوا.. عصر الجنون يبدأ، ومن لا يستعدّ..
لن يصمد حين تهتز الجبال.