قضايا وآراء

ضربة الدوحة الفاشلة.. بداية السقوط الاستراتيجي لواشنطن

إسلام الغمري
"الخليج الذي طالما اعتُبر الحليف الأوثق لواشنطن، استيقظ على صدمة حقيقية"- الأناضول
"الخليج الذي طالما اعتُبر الحليف الأوثق لواشنطن، استيقظ على صدمة حقيقية"- الأناضول
مقدمة:

لم تكن ضربة الدوحة الفاشلة مجرد حادث أمني أو هجوم عابر يمكن أن يُطوى في سجلات الأحداث، بل كانت محطة مفصلية كشفت حجم التراجع الأمريكي على الساحة الدولية. فواشنطن، التي طالما فرضت نفسها كقوة مطلقة، صارت اليوم عاجزة عن حماية حلفائها، بل وفقدت المصداقية التي كانت السلاح الأخطر في ترسانتها.

الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، قد تكسب بعض العوائد الاقتصادية وتوظّف قوتها المالية لشراء الوقت، لكنها تخسر ما هو أثمن: النفوذ الاستراتيجي وثقة الحلفاء. هذه هي الخسارة الحقيقية التي لا يمكن ترميمها بسهولة، إن لم تكن مستحيلة.

1. أوروبا.. انعطاف الجناح الأطلسي
الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، قد تكسب بعض العوائد الاقتصادية وتوظّف قوتها المالية لشراء الوقت، لكنها تخسر ما هو أثمن: النفوذ الاستراتيجي وثقة الحلفاء

منذ الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبا الحليف الأكثر التصاقا بالولايات المتحدة، غير أن السنوات الأخيرة أظهرت تصدّعا عميقا في العلاقة. فجائحة كورونا كشفت هشاشة التضامن الأطلسي، ثم جاءت حرب أوكرانيا لتزيد الانقسام حول طبيعة التعامل مع روسيا ومستقبل الأمن الأوروبي.

ضربة الدوحة الفاشلة مثّلت لحظة جديدة من الشك؛ إذ تساءل الأوروبيون بجدية: إذا كانت قواعد واشنطن لا تحمي حلفاءها المباشرين في الخليج، فكيف يمكن الاعتماد عليها في قلب القارة العجوز؟ هذا التساؤل يقوّي تيارات أوروبية تدفع نحو مزيد من الاستقلالية الاستراتيجية، بعيدا عن الهيمنة الأمريكية.

2. الصين.. المستفيد الأكبر من الفشل الأمريكي

بينما تنشغل واشنطن بمحاولة ترقيع صورتها، تجلس الصين بثقة في مقعد الرابح الأكبر. فبكين لا تكتفي بالصعود الاقتصادي والعسكري، بل تستقطب دولا كانت تُعد من الحلفاء التقليديين لواشنطن، مثل باكستان والهند وحتى تركيا.

الصين اليوم تطرح نفسها كقوة صاعدة تحترم سيادة الدول وتقدم شراكات قائمة على المصالح لا الإملاءات، وهذا الطرح يجد صداه في عالم ضاق ذرعا بالضغوط الأمريكية. ضربة الدوحة لم تكن إلا دليلا جديدا للدول المترددة أن المستقبل ليس في ظل واشنطن، بل في فضاء بديل ترسم ملامحه بكين.

3. روسيا.. أنفاس مستعادة

روسيا التي أنهكتها العقوبات الغربية منذ 2014، وجدت نفسها بعد فشل الضغوط الأمريكية في وضع أفضل. فالشرخ بين واشنطن وأوروبا، وتراجع قدرة الولايات المتحدة على ضبط الإيقاع العالمي، منح موسكو فرصة ذهبية لاستعادة بعض التوازن.

ضربة الدوحة منحت روسيا حجة إضافية: إذا كانت الولايات المتحدة لا تستطيع حتى حماية قواعدها أو حلفائها المباشرين، فكيف لها أن تدّعي السيطرة على المشهد العالمي؟ هذا يعزز الخطاب الروسي القائم على التشكيك في "النظام الدولي الأمريكي".

4. أمريكا اللاتينية وأفريقيا.. الانعتاق من الهيمنة

في أمريكا اللاتينية، لم تعد واشنطن قادرة على فرض إرادتها كما فعلت لعقود. دول مثل البرازيل والمكسيك وفنزويلا تسير في اتجاهات متعارضة مع واشنطن، وتبني شراكات متزايدة مع الصين وروسيا.

أما أفريقيا، فقد خرجت بصوت مرتفع من مربع التبعية، وحضورها في مبادرات كالبريكس، وتوجهها نحو تنويع العلاقات مع قوى جديدة، يعكس رغبة قوية في التخلص من إرث الاستعمار الحديث الذي تمثله واشنطن وحلفاؤها.

ضربة الدوحة جاءت لتضيف برهانا جديدا على أن الاعتماد على الولايات المتحدة لم يعد خيارا آمنا، بل هو مخاطرة سياسية قد تكلّف كثيرا.

5. الخليج العربي.. صحوة ما بعد الدوحة

الخليج الذي طالما اعتُبر الحليف الأوثق لواشنطن، استيقظ اليوم على صدمة حقيقية؛ قواعد أمريكية ضخمة لم تمنع عدوانا غادرا من نتنياهو، بل تحوّلت إلى ذريعة لهجوم إيراني قبل ذلك. هذه المفارقة تجعل دول الخليج تفكّر بجدية في إعادة صياغة تحالفاتها.

صار تنويع الشركاء، والاعتماد على القدرات الذاتية، وفتح قنوات مع قوى جديدة كالشرق الصاعد، خيارا استراتيجيا، وضربة الدوحة الفاشلة كانت لحظة وعي كبرى: لا ضمانة أمريكية، ولا حماية حقيقية من واشنطن

لقد صار تنويع الشركاء، والاعتماد على القدرات الذاتية، وفتح قنوات مع قوى جديدة كالشرق الصاعد، خيارا استراتيجيا، وضربة الدوحة الفاشلة كانت لحظة وعي كبرى: لا ضمانة أمريكية، ولا حماية حقيقية من واشنطن.

6. المصداقية الأمريكية.. الخسارة الأكبر

قد تكون واشنطن قادرة على تدارك بعض الهزائم العسكرية أو الاقتصادية، لكنها تواجه اليوم أخطر خسارة: انهيار المصداقية، فالثقة التي بنيت عبر عقود انهارت في أيام.

حين يفقد الحلفاء الثقة، يبدأون في القفز من السفينة المضطربة، ولا شيء يشجعهم على العودة. هذه هي الحقيقة التي تواجهها واشنطن اليوم: قوة عظمى قد تملك السلاح والمال، لكنها فقدت السلاح الأهم، وهو الثقة.

خاتمة:

يحاول ترامب لملمة تداعيات الخسارة، لكن قطار التغيير العالمي انطلق بالفعل. المصداقية الأمريكية تبخرت، والحلفاء بدأوا يعيدون حساباتهم. لم تعد واشنطن مصدر الاطمئنان، بل صارت مصدر القلق.

لقد أثبت التاريخ أن الدول المأزومة لا تجيد صناعة النصر، بل تتفنن في صناعة الهزيمة. وهذا بالضبط ما تعيشه الولايات المتحدة اليوم: انتصارات مالية عابرة يقابلها سقوط استراتيجي مدوٍّ، وما ضربة الدوحة إلا إعلان لبداية مرحلة جديدة عنوانها: نهاية زمن الهيمنة الأمريكية.
التعليقات (0)

خبر عاجل