المذيع: "ماذا تقول لمن يخشون أنك تستحوذ على المزيد من السلطات لتصبح
رئيسا استبداديا بشكل لم نعهده من قبل؟"،
ترامب: "لا أنا أكره أن يعتقدوا
ذلك، أنا أقوم بشيء واحد وهو أن أجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" (من حوار الرئيس
دونالد ترامب مع قناة إيه بي سي (ABC) التي وصفها أثناء الحوار بأنها
الأسوأ على الإطلاق).
"البعض يقول لسنا بحاجة إليه.. حرية.. حرية، إنه
ديكتاتور، إنه ديكتاتور،
كثير من الناس يقولون ربما نحب الديكتاتور، أنا لا أحب الديكتاتور ولست ديكتاتورا،
أنا رجل يتمتع بفطرة سليمة وشخص ذكي" (ترامب في تصريحات تلفزيونية ردا على ما
يثيره معارضوه من أنه ديكتاتور).
تعددت المقالات والتصريحات التي تحذر من ديكتاتورية كانت محتملة للرئيس دونالد
ترامب، والتي بدت ملامحها في رفضه نتائج الانتخابات في عام 2020، وعلى إثرها قام مؤيدوه
بترتيب وتأييد منه ومن أولاده باقتحام الكونجرس، فيما عرف بأنه شبه انقلاب على الرئيس
بايدن الذي كان للتو قد تم انتخابه في عملية انتخابية وصفت بالديمقراطية؛ ووصفها هو
بأنها تزوير وتزييف لإرادة الناخبين ورفض الاعتراف بها حتى أُجبر على ذلك، ثم لما عاد
إلى البيت الأبيض منتصرا في كانون الثاني/ يناير من العام الحالي كرر نفس المزاعم بأنه
كان أحق بالولاية من جو بايدن وأن الانتخابات السابقة كانت مزورة.
تبلورت ملامح طريقة إدارة ترامب للحكم، ونظرته للدولة العميقة في أمريكا، وإعجابه المطلق بنماذج الحكم المستبدة في عالمنا العربي والعالم الثالث، ثم تحول الإعجاب إلى محاكاة غير طبيعية تفوّق فيها ترامب على معظم من يحاكيهم
اليوم وبعد مرور ما يزيد عن نصف العام بعد فوزه تبلورت ملامح طريقة إدارة ترامب
للحكم، ونظرته للدولة العميقة في أمريكا، وإعجابه المطلق بنماذج الحكم المستبدة في
عالمنا العربي والعالم الثالث، ثم تحول الإعجاب إلى محاكاة غير طبيعية تفوّق فيها ترامب
على معظم من يحاكيهم، خصوصا وأنه حاكم لأمريكا التي لديها سلطات رقابية وتشريعية ومحاسبية
متنوعة كفيلة بمنعه من السيطرة والهيمنة والتحول من حاكم ديمقراطي في أكبر ديمقراطيات
العالم إلى ديكتاتور مستبد؛ خرجت الجماهير التي حضرت نهائي بطولة أمريكا المفتوحة للتنس
تهتف ضده (ديكتاتور.. ديكتاتور)، وهو أمر نادر الحدوث في تاريخ الديمقراطيات الغربية
فما بالك بأمريكا.
في مقال نشره موقع فورين أفيرز (Foreign Affairs) قبل أيام بعنوان"
اللا حكم في أمريكا.. المنطق وراء عدوان ترامب على السلطات الإدارية"، كتبه أستاذان
للعلوم السياسية في الجامعات الأمريكية هما راسل مورهيد ونانسي روزنبلوم، ناقشا فيه
مسألة تحول ترامب إلى مستبد وإن اختلف عن نظرائه المستبدين في العالم الثالث. وجاء
في المقال: "لكن ترامب لا يتبع أجندة للحكم بل يسعى إلى تفكيك منظومة الحكم، أي
التدمير الشامل والمتعمد لقدرة الدولة، وكما ذكرنا في مقال سابق فإن عدم الحكم (أي
تدمير منظومة الحكم) أمر نادر الحدوث في تاريخ السياسة. يسعى المستبدون عموما للاستيلاء
على الدولة حتى يتمكنوا من استخدامها وليس لتدميرها، لذا فالمستبدون يقومون باختيار
من يتوفر فيهم عنصرا الولاء والكفاءة، لكن ترامب على العكس من ذلك، يختار من يفتقد
الكفاءة والخبرة بغرض القضاء على أي سلطة غير سلطته هو فقط".
ويستعرض المقال نماذج لبعض التعيينات التي قام بها ترامب، وهي اختيارات لأشخاص
يفتقدون للكفاءة المهنية اللازمة لتولي مناصب عليا وحساسة، مثل كاش باتل، رئيس مكتب
المباحث الفيدرالية الأمريكية (FBI)، وتولسي جابارد، رئيسة الاستخبارات الوطنية، وبيت هيجسيث، وزير الحرب
(الدفاع سابقا) الذي لا يتمتع بأي خبرات عسكرية أو إدارية غير أنه كان مذيعا بقناة
فوكس المقربة جدا من ترامب. والمثير كما يقول المقال أن ترامب لا يعاقب وزراءه وإن
أخطأوا، كما فعل هيجسيث الذي تسبب في تسريب معلومات حربية حساسة عن قرب شن حرب على
الحوثيين، وهي جريمة تستوجب الإقالة والمحاكمة، وهذا يعني أن ترامب يحافظ على من يعملون
معه ما توفر الولاء التام والمديح المتواصل عنه في كل المحافل وفي كافة المناسبات.
بالإضافة الى هؤلاء الثلاثة فقد قام ترامب بتعيين روبرت كينيدي وزيرا للصحة،
الذي قام بطرد سبعة عشر خبيرا من مركز السيطرة على الأمراض على إثر موقف ترامب من لقاح
كورونا والذي أثار ضجة كبيرة في فترة ولايته الأولى. أما ثالثة الأثافي كما يذكر المقال
فهي تعيين إيلون ماسك مسئولا عن فريق رفع كفاءة الأداء الحكومي، والذي وعد بخفض الإنفاق
الحكومي بقيمة تريليوني دولار وانتهى الأمر بخفض الرقم إلى 150 مليون دولار ولم يحقق
من ذلك شيئا، وانتهى الأمر بفضيحة وشجار علني قام على إثره إايلون ماسك بتهديد ترامب
بفتح ملف جيفري إبستين، رفيق ترامب وصديقه وصاحب فضيحة الاعتداء الجنسي على الأطفال،
ولولا تدخل أصدقاء الرجلين لكان مصير ترامب السياسي على المحك.
يميل ترامب إلى تعيين هذا الصنف من الناس كيف يبقي عليهم ما استمروا في مديحه
والثناء عليه، وفي اللحظة التي يشعر بأنهم قد تأخروا في إظهار الولاء والمديح يقوم
بعزلهم. وهذه الطريقة تعني أن ترامب لا يسعى للسيطرة على المؤسسات بل تحويلها إلى أماكن
خاصة يقودها أشخاص تابعون له، وهو وحده من يعلن عن القرارات على الملأ عبر الأوامر
التنفيذية، بمعنى أنه المسيطر على مقاليد الأمور فلا معنى لوجود الوزراء ولا الإدارات.
ويجنح ترامب كأي ديكتاتور عربي أو أفريقي إلى استخدام الجيش في أمور السياسة
الداخلية، على طريقة الجنرال
السيسي في مصر؛ الذي أعلن غير مرة عن استعداده لنشر الجيش
في شوارع مصر خلال ست ساعات. وقام ترامب بتحويل وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، وفُهم
من هذا التغيير أنه يقصد الحرب في الخارج، فإذا به يغرد عبر التواصل الاجتماعي قائلا:
"أنا أحب أن أشم رائحة الترحيل (للمهاجرين) أو الإبعاد في الصباح.. على شيكاغو
أن تدرك معنى اسم وزارة الحرب"، أي أن الرجل يهدد بغزو مدينة شيكاغو. وبالطبع
فإن ترامب الذي يهدد بشن حرب على إحدى المدن الأمريكية لديه من المبررات ما يقنع به
أنصاره كما يفعل أي ديكتاتور درجة ثالثة، وهي أن البلد في حالة حرب وأن مكافحة الجريمة
والمخدرات تتطلب وقوف الشعب صفا واحدا خلف القيادة الحكيمة الراشدة، وإلا فالبلد وليست
القيادة وحدها المستهدفة.
يتعين عليه تعلم الكثير من الاستبداد العربي الأصيل والمتجذر في منطقتنا، ويبدو أنه وبدلا من الضغط من أجل دمقرطة العالم العربي وجد ترامب الطريقة المثلى والسهلة؛ وهي أن يتحول إلى ديكتاتور صغير ناشئ
ما لم يناقشه المقال هو استخدام ترامب للدين في بعض خطاباته تماما مثلما يفعل
أي ديكتاتور عسكري (أسمراني) في عالمنا العربي المدجج بالمئات من علماء السلطان الذين
يستخلصون من الدين ما يؤيد حكم الديكتاتور وحكمته المفترضة. حتى استدعاء الدين إلى
ملعب البيت الأبيض قام به ترامب، فتارة يحضر من يتلو عليه بعض نصوص الإنجيل، وتارة
يأتي ببعض وعاظ الكنيسة ليلتفوا من حوله وكأنهم يقومون بـ"رُقيته" من عين
الحسود، في مشهد فريد وغير معتاد في بلد يفترض أنه لا ديني وعلماني ورأسمالي واستعماري؛
لاعلاقة له بالدين إلا من حيث عداء ترامب الشخصي للإسلام على وجه الخصوص.
ترامب يستخدم الدين في تلميع صورته لدى اليمين المسيحي المتطرف والمسيحي المتصهين،
وهو جمهوره الذي أوصله إلى الحكم. وهو يرغب في إيصال رسالة مفادها أن الدين يهيمن على
تصرفاته وأن هذا الدين هو الذي يملي عليه تحركاته خصوصا في دعمه للكيان الصهيوني ولليمين
المسيحي، لدرجة أنه صرح في كلمة متلفزة بأنه "عندما يضعف إيمان هذه الأمة ودينها،
يبدو أن بلدنا يزداد ضعفا، وعندما يقوى الإيمان تحدث أمور جيدة لبلدنا، وندافع عن حقوقنا
ونستعيد هويتنا كأمة واحدة في ظل الله".
تعيس جدا هذا الترامب أو الديكتاتور الأشقر الذي يتعين عليه تعلم الكثير من
الاستبداد العربي الأصيل والمتجذر في منطقتنا، ويبدو أنه وبدلا من الضغط من أجل دمقرطة
العالم العربي وجد ترامب الطريقة المثلى والسهلة؛ وهي أن يتحول إلى ديكتاتور صغير ناشئ
لن يطول به المقام على ذات الحال.