قضايا وآراء

الحوار الوطني في مصر: بين وهْم التحقيق ومبادرات التفكيك

محمد حمدي
"النظام الذي يحكم مصر اليوم لم يعد يملك سوى أدوات البطش والقمع"- AI
"النظام الذي يحكم مصر اليوم لم يعد يملك سوى أدوات البطش والقمع"- AI
من جديد، يخرج علينا بعض الساسة بمبادرات مريبة تحت عناوين براقة من قبيل "المصالحة الوطنية" و"إعلاء مصلحة الوطن". كلمات منمقة، وشعارات رنانة، لكنها في حقيقتها لا تعدو أن تكون طوق نجاة لنظام فقد شرعيته منذ أن اغتصب السلطة على جماجم المصريين عقب انقلاب 2013. هذه الدعوات مهما اختلفت صيغها أو تحايلت على اللغة تحمل مضمونا واحدا لا لبس فيه: إنقاذ النظام من ورطته، ومنحه قبلة حياة سياسية هو في أمسّ الحاجة إليها، بينما يغرق في أزمات غير مسبوقة داخليا وخارجيا.

النظام الذي يحكم مصر اليوم لم يعد يملك سوى أدوات البطش والقمع. هو نظام أضاع كل رصيد، وأحرق كل الجسور مع شعبه، وأثقل الدولة بديون لا يمكن سدادها، وجعل من مصر دولة مرهونة للخارج. هذا النظام لم يعد يحكم بالإجماع أو حتى بالرضا الصامت، بل بالقهر وحده، وسط غضب شعبي متصاعد وانهيار اقتصادي شامل جعل حياة المواطن جحيما لا يُطاق. وعلى الصعيد الإقليمي، فشل في كل ملف تولاه: في غزة تواطؤ وفضيحة وجريمة أخلاقية وإنسانية وعروبية قومية، ومع دول الجوار والإقليم توتر وفقدان وزن سياسي، وحتى في علاقاته الدولية بات ورقة مستهلكة بيد من يمسك بخيوطه.

يطل علينا من يروج لفكرة "الحوار الوطني"؛ حوار مع مَن؟ ومع أي سلطة؟ هل يُعقل أن يكون الحوار مع سلطة قتلت خيرة شباب هذا البلد، وملأت السجون بعشرات الآلاف من الأبرياء، ونهبت ثروات مصر وباعت أرضها ومقدراتها؟ أي حوار هذا الذي يطلب من الضحية أن تصافح الجلاد، ومن المقهور أن يبتسم للجلاد الذي يده ملطخة بالدماء؟

في مثل هذا السياق المنهار، يطل علينا من يروج لفكرة "الحوار الوطني"؛ حوار مع مَن؟ ومع أي سلطة؟ هل يُعقل أن يكون الحوار مع سلطة قتلت خيرة شباب هذا البلد، وملأت السجون بعشرات الآلاف من الأبرياء، ونهبت ثروات مصر وباعت أرضها ومقدراتها؟ أي حوار هذا الذي يطلب من الضحية أن تصافح الجلاد، ومن المقهور أن يبتسم للجلاد الذي يده ملطخة بالدماء؟

الأخطر أن هذه المبادرات لا تأتي في فراغ، بل في لحظة يتشكل فيها وعي جمعي حقيقي، وتتصاعد فيها أصوات الشعب الحرة داخل مصر وخارجها، لتقول بوضوح إن هذا النظام انتهى، وإن استمراره لم يعد ممكنا. لكن بدلا من البناء على هذه اللحظة التاريخية، يحاول البعض جرّ مناهضي النظام الحالي إلى مستنقع "المبادرات" والحوارات الشكلية، لتفكيك الموقف الوطني الجامع الذى يجب أن يكون وإضاعة الزخم الشعبي المتنامي، وإعادة تدوير الطغيان في ثوب جديد.

ومن يتحدث اليوم عن "الحوار الوطني" حتى لو افترضنا سلامة نيته؛ فإنه في حقيقة الأمر يضع يده في يد النظام بشكل غير مباشر نعم، يضع يده في يد سلطة فاقدة للشرعية، ليخرجها من أزمتها ويمنحها شرعية سياسية لا تستحقها، وليقدم لها ما عجزت عن انتزاعه بالقمع والسجون. هذه ليست مبادرة، بل قبلة حياة صريحة للنظام تتجاهل معاناة الشعب الذي لم يعد يحتمل، وخيانة لتضحيات الشهداء والمعتقلين والمشردين.

لقد جُرّب هذا الوهم من قبل، في صيغ مختلفة وتحت مسميات متعددة، وكانت النتيجة دائما واحدة: النظام يزداد قوة وسطوة واستبدادا، والمعارضة تزداد ضعفا وتشرذما، والشعب يُترك وحيدا يواجه القهر. فمن يكرر هذه الأكذوبة اليوم إنما يحاول إعادة إنتاج مشهد مفضوح، لن ينطلي على شعب أدرك الكذب والخداع، وذاق مرارة القمع والاستبداد وخداع هذا النظام.

الحوار الحقيقي لن يكون مع سلطة مغتصبة قتلت ونهبت وباعت، الحوار سيكون بين قوى الشعب الحرة التي تملك مشروعا وطنيا جامعا، يعيد بناء الدولة على أسس الحرية والعدالة والكرامة، الحوار الحقيقي سيكون بين الضحايا أنفسهم، لبناء جبهة وطنية متماسكة تُسقط هذا النظام وتفتح الطريق لمرحلة جديدة، لا بين الجلاد والضحايا تحت سقف واحد يفرضه الطاغية.

لكل من يريد أن يطرح حلولا أو مبادرات عليه أن يكون أول بنوده رحيل رأس السلطة وإعادة هيكلة الشكل السياسي في مصر ومشاركة كافة القوى دون شروط أو إقصاء

أما ما يروج له البعض اليوم، فهو لا يعدو أن يكون مؤامرة جديدة لتأجيل لحظة الحساب، لكنه حساب قادم لا محالة، مهما طال الزمن. الشعب الذي صبر كل هذه السنوات لن يقبل أن يُخدع مرة أخرى، ولن يسمح بأن تتحول دماء أبنائه إلى أوراق تفاوض على طاولة نظام يحتضر.

إن ساعة الحقيقة تقترب، وأي دعوة للحوار مع هذا النظام في هذه اللحظة العصيبة ليست سوى محاولة لإطالة عمر الاستبداد، على حساب أوجاع الناس وحقوقهم. هذا وهم كبير، ووهم قاتل، ولن يكون مصيره إلا السقوط مع سقوط النظام نفسه.

الأهم أن من يطلق هذه المبادرات بدعوة الحوار مع مؤسسات الدولة في الحقيقة؛ لم يذكرها معلنة أنه لا يوجد في مصر من يمتلك اتخاذ أي قرار يخص الحوار أو المصالحة إلا رأس النظام والقوات المسلحة، وما دون ذلك مجرد شكليات ولا يمتلك حتى مجرد قراره.

وأظن أن رأس السلطة منذ ثورة يناير لم نر منه سوى الخديعة تلو الأخرى، وحتى بفرض عقد حوار فلا يوجد ضامن لقراره أو وعوده، فلم نعهد عليه سوى صناعة المؤامرات، ولكل من يريد أن يطرح حلولا أو مبادرات عليه أن يكون أول بنوده رحيل رأس السلطة وإعادة هيكلة الشكل السياسي في مصر ومشاركة كافة القوى دون شروط أو إقصاء.

إن أكثر ما أغضبني أن من طرح تلك المبادرات شخصيات لها باع سياسي وما كان يجب أن تخرج منهم مثل هذه المبادرات. كفى لعبا على مشاعر هذا الشعب فإن هذا الشعب "آن له أن يَحكم".
التعليقات (0)

خبر عاجل