قضايا وآراء

كيف يمكن حل الصراع بين الإخوان والدولة المصرية العميقة؟

مصطفى خضري
"الصراع بين الدولة العميقة والجماعة العميقة في مصر ليس قدرا محتوما، ويمكن تجاوزه"- جيتي
"الصراع بين الدولة العميقة والجماعة العميقة في مصر ليس قدرا محتوما، ويمكن تجاوزه"- جيتي
شَكَّلَ الصراع بين جماعة الإخوان المسلمين والدولة المصرية أحد أطول وأعقد الصراعات السياسية والفكرية في التاريخ المصري الحديث. هذا الصراع الذي يُقَارِبُ مئة عام، لم يكن مجرد صراع على السلطة بين حكومة ومعارضة، بل تحوَّل إلى معركة وجودية بين نموذجين مختلفين في الرؤية والفلسفة والحكم.

من خلال هذا المقال، سنحاول تحليل طبقات هذا الصراع المتعددة، والتركيز بشكل خاص على المستوى الخفي منه، أي الصراع بين ما يُعرف بالدولة العميقة من جهة، والجماعة العميقة من جهة أخرى، مع وضع استراتيجية مقترحة لحل هذا الصراع بشكل جذري.

البنية التاريخية للصراع: الجذور والتطور

تعود جذور هذا الصراع إلى عام 1928، حين أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين. منذ البداية، اتسمت علاقة الجماعة بالدولة المصرية آنذاك بالتوتر والريبة المتبادلة. فالدولة الملكية التي كانت تحت الاحتلال البريطاني، رأت في الجماعة تهديدا محتملا للنظام القائم، بينما رأت الجماعة في الدولة كيانا محتلا فاسدا؛ يحتاج إلى تحرير وطني وإصلاح جذري يقوده مشروعها الإسلامي. وقد انتهت المرحلة الأولى من الصراع بمقتل مؤسس الجماعة على يد الأجهزة الأمنية الملكية.

هذا التعارض البنيوي بين المنظومتين أنتج حلقة مفرغة من العنف والعداء. فمن ناحية، مارست الدولة العميقة أشكالا من العنف والقمع والاستبداد، خاصة في فترات الأزمات، مما عمَّق من إحساس الجماعة بالاضطهاد وعزَّز من تشبثها ببنيتها التنظيمية المغلقة، ومن ناحية أخرى، عززت البنية التنظيمية المغلقة للإخوان من شكوك الدولة العميقة واعتقادها بأن الجماعة تسعى للاستيلاء على الدولة وتفكيك مؤسساتها


مع قيام ثورة 23 يوليو (1952)، دخل الصراع مرحلة جديدة. فقد تعاون الطرفان في البداية ضد الملكية، لكن سرعان ما انقلب الضباط على الإخوان، وبدأت مرحلة من القمع والملاحقات بلغت ذروتها في حادثة المنشية عام 1954، وما تلاها من سجن وإعدام الآلاف من الإخوان، وتعرضهم لأسوأ أشكال التعذيب، مما خلَّف تراثا من الألم والعداء لا يزال حاضرا في الذاكرة الجماعية للجماعة.

كانت المحطة الثالثة في السبعينيات، مع سياسة الانفتاح التي اتبعها السادات، والتي سمحت بعودة محدودة للجماعة، لكنها انتهت أيضا بالاصطدام بها بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني.

أما المحطة الرابعة فجاءت مع حكم مبارك، حيث شهدت الجماعة درجة من الانفتاح النسبي، سمح لها بتوسيع نشاطها الاجتماعي والاقتصادي، بينما ظل التوتر قائما على المستوى السياسي، مع قمع الدولة للجماعة بين الحين والآخر؛ كي لا تتيح لها مساحة للتمدد أو الخروج عن السيطرة.

أما المرحلة الخامسة، ولحظة الصدام الأكبر والأهم في تاريخ الصراع بين الدولة العميقة والجماعة العميقة، فكانت مع ثورة 25 يناير (2011)، التي مثَّلت لحظة مفصلية في العلاقة. فبعد عقود من العمل السري وشبه السري، وجدت الجماعة نفسها فجأة في وضع يمكنها من الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات.

لكن تجربة الحكم بين عامي 2012 و2013 كشفت عن عمق أزمة الثقة بين الطرفين، حيث حاولت قيادة الجماعة التسارع في تغيير قواعد اللعبة، ولكن بدون استراتيجية واضحة المعالم، بينما عملت الدولة العميقة على عرقلة هذه المحاولات. وقد كانت الدولة العميقة أسرع في الخطوات، وأقوى في الحسم، وأكثر قدرة على التحرك بعيدا عن تخيلات الجماعة وتقديراتهم للمآلات، إلى أن انتهت الأمور بالانقلاب على الرئيس مرسي في 3 تموز/ يوليو 2013. ثم أعقب ذلك إعطاء الدولة العميقة الضوء الأخضر للجنرال السيسي في استخدام استراتيجية "إدارة التوحش" كحل نهائي للصراع مع الجماعة والتيار الإسلامي بأكمله، فقام بمذابح رابعة والنهضة ورمسيس وغيرها.

وعلى مدى أكثر من اثنتي عشرة سنة، اعتُقِلَ وقُتِلَ آلافٌ من قيادات الجماعة والمنتمين إليها والمتعاطفين معها، وحتى غير المسيسين، ومن لا ذنب لهم إلا الإعجاب بمنشور قد لا يعجب السيسي ونظامه على وسائل التواصل الاجتماعي. وعاشت مصر جراء ذلك الصراع سنوات عجاف.

طبيعة الصراع البنيوي: تعارض في المنظومتين

يكمن جوهر الصراع في التعارض البنيوي بين منظومتي العمل في كلا الكيانين. فمن جهة، تتبنى جماعة الإخوان بنية تنظيمية قائمة على مبدأ عالمية الدعوة والبيعة والسمع والطاعة، في ظل نسق هرمي مغلق شديد المركزية، يتمحور حول المرشد العام والذي يرأس فعليا كل المنتمين للجماعة داخل مصر، واسميا كل من ينتمي للجماعة في كل بلاد العالم. وتتميز الجماعة بدرجة عالية من السرية والانضباط الداخلي. هذه البنية أنتجت ما يمكن تسميتها "الجماعة العميقة"، وهي النواة الصلبة المكونة من القيادات التاريخية والأعضاء الذين قضوا سنوات في السجون، والذين يشكلون الذاكرة التنظيمية والحامية للأيديولوجيا الأساسية.

من جهة أخرى، تطورت في مصر ما يُعرف بالدولة العميقة، وهي شبكة معقدة من المصالح والعلاقات داخل مؤسسات الدولة السيادية مثل الجيش والأمن والقضاء والإعلام، وبين النخب الاقتصادية المرتبطة بالنظام. هذه الشبكة طوَّرت آليات عمل معقدة؛ للحفاظ على مكاسبها، من خلال استقرار النظام وحماية مصالحه، وغالبا ما تعمل خلف الكواليس بمعزل عن التغيرات السياسية الظاهرة على السطح.

هذا التعارض البنيوي بين المنظومتين أنتج حلقة مفرغة من العنف والعداء. فمن ناحية، مارست الدولة العميقة أشكالا من العنف والقمع والاستبداد، خاصة في فترات الأزمات، مما عمَّق من إحساس الجماعة بالاضطهاد وعزَّز من تشبثها ببنيتها التنظيمية المغلقة، ومن ناحية أخرى، عززت البنية التنظيمية المغلقة للإخوان من شكوك الدولة العميقة واعتقادها بأن الجماعة تسعى للاستيلاء على الدولة وتفكيك مؤسساتها.

إشكالية الثقة: العامل الحاسم في استمرار الصراع

إن العامل الأكثر أهمية في استمرار هذا الصراع هو أزمة الثقة العميقة بين الطرفين. فمن وجهة نظر الدولة العميقة، تمثل الجماعة تهديدا وجوديا للدولة ومؤسساتها. هذه الرؤية تستند إلى عدة عوامل:

أولا: الخوف من سعي الجماعة إلى إقامة دولة دينية على نمط ولاية الفقيه.

ثانيا: الاعتقاد بأن الولاء للجماعة يتقدم على الولاء للوطن عند أعضائها.

ثالثا: الخشية من أن الوصول إلى السلطة سيمكن الجماعة من تفكيك مؤسسات الدولة العميقة واستبدالها بأشخاص موالين لها.

رابعا: امتداد الجماعة التنظيمي عبر الحدود وارتباطها بشبكة دولية من الجماعات والجهات، مما يغذي شكوك الدولة العميقة في نواياها وولائها، ويدعم رؤيتها للجماعة ككيان يعمل ضمن أجندة إقليمية وعالمية تتجاوز المصالح الوطنية.

من الجهة المقابلة، تنظر الجماعة العميقة إلى الدولة العميقة على أنها:

أولا: نخبة فاسدة تحكم من أجل مصالحها وليس من أجل الصالح العام.

ثانيا: نظام استبدادي قمعي لا يؤمن بالتعددية ويستخدم العنف الممنهج للحفاظ على سلطته.

ثالثا: كيان علماني منفصل عن الهوية الإسلامية للأمة ومعاد لها.

هذه الحالة من عدم الثقة المتبادلة؛ جعلت أي محاولة للتفاوض أو التسوية السياسية تبدو صعبة إن لم تكن مستحيلة، حيث يرى كل طرف في الآخر تهديدا لوجوده وكيانه، وذلك الصراع الصفري؛ هو ما أدى في النهاية إلى وصول السيسي إلى الحكم مقابل إقصائه لجماعة الإخوان ودولتها العميقة.

الحل في استراتيجية تغيير بنية الصراع

في ظل هذا الاستقطاب الحاد، يبدو أن الخروج من المأزق الحالي يتطلب تحولا جذريا في نموذج عمل الجماعة.

فالجماعة هي الطرف الأضعف في هذا الصراع، وطالما ظلت محافظة على بنيتها التنظيمية الحالية المغلقة والقائمة على البيعة والطاعة العمياء، وامتداداتها الدولية؛ ستظل الدولة العميقة تنظر إليها كتهديد وجودي، وسيستمر الصراع.

والحل يكمن في اتباع الجماعة لاستراتيجية "تغيير بنية الصراع"، حيث تتحول الجماعة من نسق هرمي مغلق إلى فكرة مفتوحة، أي تحولها من جماعة إلى تيار فكري وسياسي عريض. هذا التحول سيتطلب عدة خطوات:

الخطوة الأولى: مراجعة نقدية شاملة للتراث الفكري والتنظيمي، والتخلي عن مفاهيم مثل البيعة والطاعة العمياء التي تتعارض مع مبادئ الديمقراطية والتعددية.

الخطوة الثانية: فك المركزية التنظيمية والتحول إلى نموذج ائتلافي يسمح بتعددية داخل الإطار الفكري العام للتيار الإسلامي.

الخطوة الثالثة: الفصل بين الدعوي والسياسي، والتركيز على العمل السياسي المفتوح القائم على البرامج وليس الأيديولوجيات المغلقة.

الخطوة الرابعة: القبول الكامل بقواعد اللعبة الديمقراطية، بما في ذلك التناوب السلمي على السلطة.

الخطوة الخامسة: توطين العمل السياسي والقطع مع الامتدادات الدولية التي تثير شكوك الدولة، والتركيز بشكل كامل على الإطار الوطني المصري.

هذا التحول سيمكن التيار الإسلامي بشكل عام والجماعة بشكل خاص من التحرر من عبء التاريخ التنظيمي والإطار الهيكلي الذي يثير ريبة الدولة العميقة. عندها ستنتهي الجماعة كتنظيم مركزي موحد، لكنها ستنشط فكريا وسياسيا بشكل أوسع وأكثر فعالية.

نتائج التحول المتوقعة
فقط من خلال هذه المصالحة يمكن لمصر أن تنتقل من مرحلة الصراع الوجودي إلى مرحلة التنافس السياسي البناء، الذي يخدم مصلحة الشعب ويخرج البلاد من دوامة العنف والاستقطاب التي عاشتها لعقود

هذا التحول المقترح سيفضي إلى عدة نتائج إيجابية على الصراع:

النتيجة الأولى: ظهور تيار إسلامي متنوع ومتعدد وأكثر شبابا، يشمل أحزابا وحركات مختلفة، مما يجعله أكثر مرونة وقدرة على التكيف مع المتغيرات.

النتيجة الثانية: إضعاف قدرة الدولة العميقة على المواجهة، إذ ستواجه أفكارا منتشرة بدلا من تنظيم محدد يمكن استهدافه.

النتيجة الثالثة: تحول الصراع من صراع وجودي إلى صراع سياسي طبيعي داخل قواعد اللعبة الديمقراطية.

النتيجة الرابعة: إثراء الحياة السياسية بتعددية حقيقية، وتجاوز الاستقطاب الحاد بين الإسلاميين والعلمانيين.

النتيجة الخامسة: تأهيل التيار الإسلامي للمشاركة في الحكم مرة أخرى، ولكن كفكر وبرامج وليس كجماعة منظمة تسعى للهيمنة.

نحو مصالحة وطنية شاملة

الصراع بين الدولة العميقة والجماعة العميقة في مصر ليس قدرا محتوما، ويمكن تجاوزه عبر تحول جذري في نموذج عمل الجماعة من التنظيم المغلق إلى الفكرة المفتوحة. هذا التحول يتطلب شجاعة ونضجا من قيادات الجماعة، كما يتطلب من الدولة العميقة الاستعداد لقبول تعددية حقيقية والتخلي عن نظرة الريبة والشك.

المصلحة الوطنية العليا لمصر تقتضي الخروج من هذا الصراع التاريخي الذي استنزف طاقات الأمة لعقود. فمستقبل مصر لا يمكن أن يُبنى على الاستبعاد والإقصاء، بل على المصالحة الوطنية الشاملة التي تعترف بالجميع داخل إطار دولة مدنية ديمقراطية تحترم المواطنة وتكافؤ الفرص.

فقط من خلال هذه المصالحة يمكن لمصر أن تنتقل من مرحلة الصراع الوجودي إلى مرحلة التنافس السياسي البناء، الذي يخدم مصلحة الشعب ويخرج البلاد من دوامة العنف والاستقطاب التي عاشتها لعقود.
التعليقات (0)

خبر عاجل