في عالم يتشابك
فيه الاقتصاد بالسياسة وتتحول فيه أسواق المال إلى ساحة صراع جيوسياسي، لم تعد أدوات
الحرب تقتصر على الجيوش والطائرات. لقد برز سلاح جديد، أكثر هدوءا وخبثا، قادر على
التسلل إلى أعمق شرايين الدولة الاقتصادية من خلال ما يطلق عليه الاستحواذ العدائي
الخفي، وهو عبارة عن استراتيجية مالية تستهدف الاستحواذ على أسهم حاكمة في إحدى الشركات
أو القطاعات الاقتصادية رغما عن مالكيها أو الدولة.
اليوم، تواجه
مصر، كغيرها من القوى الإقليمية، تحديا أمنيا غير مسبوق؛ يتمثل في إمكانية استهداف
شركاتها أو قطاعاتها الاقتصادية الاستراتيجية بالاستحواذ العدائي وتحويلها إلى "خلايا
نائمة"، يتم استغلالها بشكل مستمر لخدمة مصالح معادية، قبل أن يتم تنشيطها في
لحظة الصفر لتهديد أمنها القومي.
الاختراق الصامت
بالآليات المالية المستحدثة
تواجه مصر، كغيرها من القوى الإقليمية، تحديا أمنيا غير مسبوق؛ يتمثل في إمكانية استهداف شركاتها أو قطاعاتها الاقتصادية الاستراتيجية بالاستحواذ العدائي وتحويلها إلى "خلايا نائمة"، يتم استغلالها بشكل مستمر لخدمة مصالح معادية، قبل أن يتم تنشيطها في لحظة الصفر لتهديد أمنها القومي
إن هذا السيناريو
يبدو وكأنه من روايات الجاسوسية، لكن أدواته متاحة في عالم المال اليوم. فعندما تقرر
جهة معادية -ولنأخذ الكيان
الصهيوني كمثال نظرا للسياق الجيوسياسي- السيطرة على شركة
مصرية تعمل في قطاع حيوي، كالاتصالات أو الخدمات اللوجستية للموانئ أو التكنولوجيا
المالية؛ الهدف ليس الربح المادي المباشر، بل زرع "حصان طروادة" داخل الاقتصاد
المصري.
الخطة لا تتم
عبر عرض ساذج (استحواذ مباشر وشفاف)، فهذا مصيره الرفض الفوري من قبل الجهات الرقابية
والأمنية؛ بدلا من ذلك، يتم تنفيذ "هجوم مجموعة الذئاب" (Wolf
Pack Attack) المالي من خلال بعض آليات السوق:
أولا، التفتيت
والتخفي: يتم تأسيس عشرات الشركات الوهمية في ملاذات ضريبية متفرقة. هذه الشركات، التي
لا يظهر بينها أي رابط قانوني، تبدو ككيانات
استثمارية دولية عادية.
ثانيا، الشراء
تحت الرادار: مع بدء تداول أسهم شركة
العاصمة الإدارية، تبدأ هذه الكيانات، بشكل بطيء
ومنسق، في شراء الأسهم. كل كيان يحرص على أن تظل حصته أقل من 5 في المئة، وهي عتبة
الإفصاح القانونية التي تطلق أجراس الإنذار.
ثالثا، التجميع
الصامت للحصة الحاكمة: بمرور الوقت، تتجمع هذه الحصص الصغيرة لتشكل مجتمعة حصة مؤثرة،
قد تتجاوز 20 في المئة أو 30 في المئة. هذه النسبة، وإن لم تكن أغلبية مطلقة، كافية
لمنح مالكها مقاعد في مجلس الإدارة، والقدرة على التأثير في القرارات المصيرية، خاصة
مع تفتت باقي الملكية بين آلاف المستثمرين الصغار.
ماذا يعني
وجود أصابع صهيونية داخل العاصمة؟
بمجرد نجاح
الاختراق وزرع ممثلين في مجلس إدارة الشركة، تبدأ الحرب الحقيقية والصامتة؛ الشركة
لا تتحول إلى "خلية نائمة"، بل إلى "خلية نشطة" تعمل في الخفاء
لتحقيق أهداف استراتيجية:
1. الاختراق
المعلوماتي المطلق: السيطرة على الشركة الأم للعاصمة الإدارية تعني الوصول إلى كنز
استراتيجي لا يقدر بثمن: خرائط البنية التحتية الحساسة (شبكات المياه، الكهرباء، الغاز)،
ومسارات كابلات الألياف الضوئية للاتصالات المؤمنة، وتفاصيل أنظمة التحكم والمراقبة
في مركز إدارة المدينة، وخطط التوسع المستقبلية للمناطق السيادية؛ إنه بمثابة تسليم
مفاتيح المدينة للخصم.
2. توجيه القرارات
ضد المصلحة المصرية: يمكن لمجلس الإدارة اتخاذ قرارات تبدو تجارية، لكنها تخدم المصالح
الصهيونية. على سبيل المثال، منح عقود الباطن في قطاعات حساسة (كالأمن السيبراني، وإدارة
المرافق، وصيانة الشبكات) لشركات تابعة للجهة المعادية، أو تعطيل تطوير مشاريع معينة،
أو تصميم البنية التحتية بطريقة تترك "ثغرات أمنية" مقصودة يمكن استغلالها
لاحقا.
3. التأثير
والنفوذ: يصبح للجهة المعادية صوت ونفوذ مباشر داخل أهم مشروع في مصر، مما يمكنها من
الضغط على صناع القرار وتوجيه السياسات بما يخدم أجندتها.
دروس من الساحة
الإيرانية: الخطر ليس افتراضيا
هذا السيناريو
ليس مجرد خيال؛ تشير تحليلات استخباراتية للمواجهات الأخيرة بين إيران وإسرائيل إلى
أن الموساد استخدم شركات إيرانية صغيرة كواجهات وخلايا لوجستية لتنفيذ عمليات نوعية
في العمق الإيراني، بما في ذلك تجميع أجزاء طائرات مسيرة انتحارية. إذا كان هذا ممكنا
عبر شركات صغيرة، فما حجم التهديد الذي يمثله الاستحواذ على شركة بحجم العاصمة الإدارية
والتي لن تكون وحدها المستهدفة بالاستحواذ العدائي؟
بين ضرورات
الاقتصاد ومقتضيات الأمن
الموساد استخدم شركات إيرانية صغيرة كواجهات وخلايا لوجستية لتنفيذ عمليات نوعية في العمق الإيراني، بما في ذلك تجميع أجزاء طائرات مسيرة انتحارية. إذا كان هذا ممكنا عبر شركات صغيرة، فما حجم التهديد الذي يمثله الاستحواذ على شركة بحجم العاصمة الإدارية والتي لن تكون وحدها المستهدفة بالاستحواذ العدائي؟
سيخرج حتما
من يقلل من حجم هذا الخطر، مستندا إلى حجج تبدو منطقية في ظاهرها، لكنها تتجاهل طبيعة
الصراع الحديث ومن أهمها:
1. آليات السوق
الحرة كفيلة بالحماية، وأي قيود ستطرد المستثمرين: هذا الخلط بين الانفتاح الاقتصادي
والتساهل الأمني هو خلط خطير. كل دول العالم، بما فيها معاقل الرأسمالية كالولايات
المتحدة (عبر لجنة CFIUS)، تفرض
قيودا صارمة على الاستثمارات الأجنبية في قطاعاتها الحساسة. المستثمر الجاد يبحث عن
سوق منظم وآمن، وليس سوقا فوضويا بلا ضوابط، وآليات الحماية لا تطرد المستثمر الشرعي،
بل تطرد المستثمر المشبوه الذي يهدف للاختراق وليس للاستثمار.
2. الجهات
الرقابية المصرية قوية وقادرة على كشف أي تلاعب: مع كامل التقدير والثقة في جهود أجهزتنا
الرقابية، فإن "هجوم مجموعة الذئاب" مصمم خصيصا للتحايل على آليات الرقابة
التقليدية، إنه يعتمد على أدوات مالية وقانونية معقدة وشبكات عابرة للحدود. الاعتماد
على الآليات الحالية وحدها دون تطويرها وتخصيصها لهذا النوع من التهديدات هو بمثابة
خوض حرب حديثة بأدوات قديمة، واليقظة تتطلب تطويرا مستمرا للأدوات وليس مجرد الثقة
في الموجود منها.
3. حتى لو
حدث استحواذ، يمكن للدولة نزع الملكية لاحقا: هذا المنطق يشبه القول "لا داعي
لقفل الباب، فيمكننا طرد اللص بعد أن يسرق". الإجراءات اللاحقة، كنزع الملكية،
تأتي بعد أن يكون الضرر قد وقع بالفعل (تسريب البيانات، اتخاذ قرارات ضارة)، كما أنها
تُدخل الدولة في معارك تحكيم دولي معقدة ومكلفة. الوقاية الاستباقية عبر آليات الحماية
هي دائما أفضل وأقل تكلفة من رد الفعل المتأخر.
آليات الدفاع
المسبق ودرء الخطر
إن طرح شركة
العاصمة الإدارية في البورصة خطوة اقتصادية مهمة، لكن يجب أن تتم في إطار من الحماية
واليقظة الاستثنائية. المطلوب ليس الانغلاق، بل "الانفتاح المحصّن" عبر بناء
"قلعة" من آليات الدفاع القانونية والمالية والتقنية الصارمة:
1. آليات قانونية
وسيادية (خط الدفاع الأول):
الاحتفاظ بـ"السهم
الذهبي" (Golden Share): هذا هو الإجراء الأكثر أهمية
على الإطلاق. يجب أن تحتفظ الدولة المصرية (ممثلة في الحكومة أو جهة سيادية) بسهم واحد
على الأقل يمنحها صلاحيات استثنائية غير مرتبطة بنسبة الملكية. هذه الصلاحيات يجب أن
تشمل:
أولا، حق الفيتو
على أي قرار يمس الأمن القومي، ويشمل ذلك الحق في الاعتراض على أي مساهم تتجاوز ملكيته
حدا معينا (مثلا 1 في المئة)، والحق في إجبار أي مساهم يثير شبهات أمنية على بيع أسهمه.
ثانيا، تحديد
سقف للملكية الأجنبية: يجب دراسة وضع سقف قانوني أعلى لنسبة الملكية المسموح بها للمستثمرين
الأجانب بشكل عام في هذه الشركة تحديدا، لضمان بقاء السيطرة الفعلية في أيدٍ مصرية.
ثالثا، إنشاء
لجنة قومية لفحص الاستثمارات: يجب أن يخضع أي طلب لتملك حصة مؤثرة في هذه الشركة لمراجعة
أمنية وسيادية من لجنة قومية متخصصة، تضم ممثلين عن كافة الجهات المعنية، قبل إتمام
عملية نقل الملكية.
2. آليات رقابية
وتقنية (خط الدفاع الثاني):
أولا، تخفيض
عتبة الإفصاح: نظرا للأهمية الاستراتيجية للشركة، يجب تعديل قواعد الإفصاح الخاصة بسهمها،
بحيث يصبح الإفصاح إلزاميا عند تملك 1 في المئة أو 2 في المئة من الأسهم، بدلا من 5
في المئة المعمول بها حاليا.
ثانيا، تفعيل
صارم لقاعدة "المالك الفعلي" (UBO): لا تساهل مطلقا في تطبيق قواعد الكشف عن الشخص
الطبيعي الذي يملك أو يسيطر في النهاية على الكيان المشتري، مع رفض أي عمليات شراء
قادمة من كيانات ترفض الكشف عن مالكها الفعلي.
ثالثا، وحدة
مراقبة استخباراتية خاصة بالسهم: يجب أن تخصص هيئة الرقابة المالية، بالتعاون مع الجهات
المعنية، وحدة تحليل ومراقبة استخباراتية وظيفتها الوحيدة هي مراقبة التداولات على
سهم العاصمة الإدارية على مدار الساعة، واستخدام برمجيات الذكاء الاصطناعي لتحليل أنماط
التداول وكشف أي عمليات شراء منسقة أو مشبوهة.
إن شركة العاصمة
الإدارية ليست مجرد أصل اقتصادي، بل هي رمز لسيادة الدولة ومستقبلها؛ ترك أبواب هذه
القلعة مفتوحة أمام ملاك مجهولين يختبئون خلف أقنعة مالية هو دعوة صريحة للمخاطرة بأمن
مصر القومي. لذلك، فإن الآليات التي طرحناها يجب أن تعمم على جميع الشركات المصرية
الاستراتيجية التي يتم تداول أسهمها، فكل قطاع حيوي في مصر هو نقطة محتملة لهجمات الاستحواذ
العدائي الصهيوني. اليقظة اليوم هي ثمن الأمان غدا.