قضايا وآراء

155 مليار دولار مقابل إدارة غزة: هل تقع مصر في الفخ؟

مصطفى خضري
"فكرة التهجير، التي ترفضها مصر رسميا، قد تصبح أمرا واقعا تحت غطاء الإدارة المصرية"- إكس
"فكرة التهجير، التي ترفضها مصر رسميا، قد تصبح أمرا واقعا تحت غطاء الإدارة المصرية"- إكس
لم تكن أحداث 7 أكتوبر 2023 إلا الشرارة التي كشفت النقاب عن أكثر الرؤى الصهيونية تطرفا، حيث تصاعدت الأصوات المنادية بالتهجير القسري وإعادة رسم ديموغرافيا المنطقة بالكامل. وفي هذا السياق، يصرح يائير لابيد، زعيم المعارضة، بخطة الكيان الصهيوني، التي تقترح تسليم إدارة قطاع غزة إلى مصر لمدة تصل إلى 15 عاما، مقابل إغراء اقتصادي ضخم، بإسقاط الديون الخارجية المصرية، التي تزيد عن 155 مليار دولار.

وقد قدَّم لابيد هذا المقترح كبديل "عقلاني" لحكومة نتنياهو، مستغلا رغبة الرأي العام الصهيوني في "انتصار حاسم" ينهي كابوس غزة إلى الأبد.

ويبدو أن الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها مصر، بالإضافة إلى سلوك السيسي الذي أظهر استعدادا لتقديم تنازلات استراتيجية (مثل تيران وصنافير، واتفاقية سد النهضة، وحقول الغاز) مقابل الشرعية الدولية والدعم المالي، قد أغرى لابيد ومَن خلفه بأن السيسي قد يكون الشريك المناسب في الوقت المناسب لهذه "الصفقة".

يهدف هذا التحليل إلى الغوص في أعماق هذه المبادرة، ليس فقط لتفكيك أبعادها الحالية، بل للتحذير من كونها بذرة لمستقبل كارثي يتم التخطيط له بعناية.

قد تبدو الخطة للوهلة الأولى غير واقعية أو حتى مثيرة للسخرية، لكن التاريخ يعلمنا درسا حاسما: لا يجب أن نأخذ ما يطرحه الفكر الاستراتيجي الصهيوني باستخفاف، فكثير من الحقائق المروعة التي نعيشها اليوم كانت مجرد أفكار "خيالية" قوبلت بالسخرية في بداياتها

فقد تبدو الخطة للوهلة الأولى غير واقعية أو حتى مثيرة للسخرية، لكن التاريخ يعلمنا درسا حاسما: لا يجب أن نأخذ ما يطرحه الفكر الاستراتيجي الصهيوني باستخفاف، فكثير من الحقائق المروعة التي نعيشها اليوم كانت مجرد أفكار "خيالية" قوبلت بالسخرية في بداياتها.

من الفكرة "المستحيلة" إلى الواقع المُفْرَض: منهجية صهيونية تاريخية

إن التعامل مع خطة لابيد كفكرة عابرة هو الوقوع في الخطأ التاريخي نفسه الذي سمح للمشروع الصهيوني بتحقيق أهدافه خطوة بخطوة. يعمل الفكر الاستراتيجي الصهيوني بمنطق "بالونات الاختبار"، حيث تُطرح أفكار تبدو متطرفة أو غير قابلة للتطبيق لقياس ردود الفعل، وكسر المحرمات الفكرية، وتطبيع النقاش حولها تدريجيا. ومع مرور الوقت، وتغير الظروف الإقليمية والدولية، تتحول هذه الأفكار من "مستحيلة" إلى "ممكنة"، ثم إلى "ضرورية"، وأخيرا إلى "أمر واقع".

ومن الأمثلة على ذلك:

1- فكرة الدولة الصهيونية نفسها كانت حلما بعيد المنال.

2- احتلال القدس وتوحيدها كـ"عاصمة أبدية" كان يُنظر إليه على أنه تجاوز لا يمكن للعالم قبوله.

3- بناء جدار الفصل العنصري كان يعتبر فكرة "أبارتايد" مرفوضة.

4- التوصُّل إلى اتفاقيات تطبيع مع دول عربية دون حل القضية الفلسطينية كان من المحرمات.

كل هذه الأمور تحققت لأنها كانت جزءا من تخطيط طويل الأمد، بينما قوبلت في بداياتها بالرفض والاستنكار اللذين لم يدوما. لذلك، يجب قراءة خطة لابيد ليس كنص نهائي، بل كإعلان نوايا، وكخطوة أولى لترسيخ فكرة التخلي عن غزة وتحويلها إلى مشكلة مصرية-فلسطينية، تمهيدا لتصفية القضية برمتها.

المكاسب الاستراتيجية للكيان الصهيوني

تمثل الخطة، في حال نجاحها، "انتصارا استراتيجيا" متعدد الأبعاد للكيان الصهيوني:

1- التخلص من العبء الأمني والديموغرافي: يتخلص الكيان الصهيوني بشكل كامل من مسؤوليته عن أكثر من مليوني فلسطيني في غزة، ويلقي بالعبء الأمني وإدارة الحياة اليومية على عاتق مصر. هذا يحرره من الضغط الدولي المتعلق بالحصار والوضع الإنساني، ويسمح له بالتركيز على أهدافه الأخرى.

2- تفريغ القضية الفلسطينية من جوهرها: بتحويل غزة إلى مشكلة مصرية، يتم فصلها فعليا عن الضفة الغربية، مما يقضي على أي إمكانية واقعية لإقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيا وذات سيادة، وتصبح القضية مجرد "مشاكل إنسانية" متفرقة بدلا من قضية تحرر وطني.

3- التفرغ لمشروع الاستيطان الأكبر: بمجرد "حل" مشكلة غزة، ستتمكن دولة الاحتلال من تكثيف وتكريس جهودها لضم الضفة الغربية وتوسيع المستوطنات في القدس والمناطق المحيطة بها، دون أن تواجه ضغطا دوليا كبيرا، حيث سيبدو أنها قدمت "حلا" لغزة.

4- تلميع الصورة الدولية وتحقيق نصر دبلوماسي: تقديم الخطة كحل "إنساني" و"اقتصادي" يهدف إلى تحسين صورة الكيان الصهيوني المشوهة دوليا. كما أن إقناع دولة بحجم مصر بقبول هذا الدور سيمثل اختراقا دبلوماسيا هائلا يعمق التطبيع ويضعف الموقف العربي الموحد.

الخسائر المدمرة لمصر

قبول السيسي بهذا الدور؛ سيكون بمثابة فخ تاريخي لمصر، وذي تكاليف باهظة من عدة محاور:

1- تورط أمني واستنزاف طويل الأمد: ستجد مصر نفسها مسؤولة عن قطاع محاصر ومدمر، وتواجه مقاومة فلسطينية لن تقبل بالوصاية المصرية كبديل عن الاستقلال. هذا سيحول سيناء إلى ساحة خلفية للصراع، ويضع الجيش المصري في مواجهة مباشرة مع فصائل فلسطينية، وهو ما تريده دولة الاحتلال بالضبط.

2- أعباء اقتصادية كارثية: حتى مع إسقاط الديون، فإن تكلفة إعادة إعمار غزة وإدارة شؤونها اليومية وتوفير الخدمات الأساسية ستكون هائلة وتفوق أي إغراء مالي. ستتحمل مصر مسؤولية اقتصاد منهار بالكامل، مما يفاقم أزماتها الداخلية.

3- انهيار المكانة الإقليمية والتاريخية: ستفقد مصر دورها التاريخي كداعم للقضية الفلسطينية وتتحول في نظر الشعوب العربية والإسلامية -ناهيك عن الشعب المصري نفسه المتوحد مع المقاومة- إلى "وكيل أمني" للاحتلال و"سجّان" للمقاومة. هذا سيؤدي إلى عزلة شعبية وسياسية غير مسبوقة.

4- تهديد مباشر للأمن القومي: إن أي اضطراب أمني في غزة سينتقل مباشرة إلى سيناء، وقد تستخدم دولة الاحتلال ذلك كذريعة للتدخل في المستقبل. كما أن فكرة التهجير، التي ترفضها مصر رسميا، قد تصبح أمرا واقعا تحت غطاء "الإدارة المصرية".

موقف الدولة العميقة المصرية
وصفة لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأمن القومي المصري والمستقبل العربي، مع انتهاك صارخ للقانون الدولي، والتعامل معها باستخفاف اليوم يعني الندم غدا عندما تصبح أجزاء منها سياسة قائمة. المواجهة لا تكون فقط برفض الخطة الحالية، بل بكشف المنطق الاستراتيجي الذي تقف خلفه، والتمسك بالثوابت الوطنية، والعمل بشكل استباقي

على الرغم من أي ضغوط أو إغراءات، فإن الدولة العميقة في مصر، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية وأجهزة المخابرات، تدرك تماما الأبعاد الكارثية لمثل هذه الخطة. وأعتقد أنها سترفض رفضا قاطعا، ليس فقط من منطلق المبادئ التاريخية تجاه القضية الفلسطينية، بل للعقيدة القُطرية المصرية، لأنها سترى في تلك الخطة تهديدا وجوديا مباشرا للأمن القومي المصري. فمصر تدرك أن الهدف الحقيقي من هذه الخطة؛ هو تحويل غزة من خط الدفاع الأول عن مصر إلى بؤرة توتر دائمة على حدودها الشرقية، واستنزاف مواردها، وتوريط جيشها في صراع لا نهاية له، وبالتالي إضعاف الدولة المصرية نفسها. أي أنها خسارة مضاعفة بتحويل سلاح المقاومة من التحالف والاصطفاف بجانب الجيش المصري إلى الاشتباك معه، لذا، فإن أي موافقة محتملة من السيسي على مثل هذه الخطة ستواجه بمعارضة شديدة -وربما انقلابا- من الأجهزة السيادية التي تعتبر حماية حدود مصر ومصالحها العليا خطا أحمر لا يمكن تجاوزه.

الخسائر الوجودية للشعب الفلسطيني

بالنسبة للفلسطينيين، تمثل الخطة الضربة القاضية لمشروعهم الوطني:

1- تصفية نهائية لحق تقرير المصير: الخطة تلغي بشكل كامل حق الشعب الفلسطيني في حكم نفسه بنفسه على أرضه، فهي تفرض وصاية خارجية وتتعامل مع الفلسطينيين كقُصَّر بحاجة إلى إدارة، وليس كشعب له حقوق سياسية.

2- تكريس الانقسام الجغرافي والسياسي: بفصل غزة عن الضفة الغربية بشكل نهائي، يتم تدمير حلم الدولة الفلسطينية الموحدة، ويصبح الحديث عن "حل الدولتين" مجرد شعار فارغ من أي مضمون عملي.

3- شرعنة التهجير الطوعي والقسري: تحت "الإدارة المصرية"، سيتم تسهيل هجرة الفلسطينيين من غزة إلى الخارج، مما يحقق هدف الكيان الصهيوني طويل الأمد في تفريغ الأرض من سكانها.

4- القضاء على المقاومة كفكرة وحركة: تهدف الخطة إلى نزع سلاح المقاومة تحت إشراف مصري-دولي، وإنهاء أي شكل من أشكال الكفاح المسلح ضد الاحتلال، مقابل "تحسينات اقتصادية" تهدف إلى تخدير الشعب وتجريده من هويته الوطنية.

اليقظة الاستراتيجية كضرورة حتمية

إن خطة لابيد، المغلفة بغلاف "الحل العملي"، ليست مجرد اقتراح سياسي، بل هي تجسيد لمنهجية صهيونية تاريخية في تحويل الأفكار "المستحيلة" إلى واقع مُفْرَض. إنها وصفة لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأمن القومي المصري والمستقبل العربي، مع انتهاك صارخ للقانون الدولي، والتعامل معها باستخفاف اليوم يعني الندم غدا عندما تصبح أجزاء منها سياسة قائمة. المواجهة لا تكون فقط برفض الخطة الحالية، بل بكشف المنطق الاستراتيجي الذي تقف خلفه، والتمسك بالثوابت الوطنية، والعمل بشكل استباقي على بناء جبهة عربية موحدة قادرة على إفشال هذه المخططات. وقبل ذلك كله، يجب على كل الشعوب والدول العربية والإسلامية دعم المقاومة الفلسطينية بكل طريقة ممكنة، قبل أن تتحول تلك الخطة الخبيثة من مجرد "فكرة" إلى حقيقة مؤلمة على الأرض.
التعليقات (0)

خبر عاجل