أخذت الدائرة
تضيق علينا ولم تعد المقاومة تجدي نفعا أو تعني شيئا، فقد تمّ تدمير كل شيء؛ الحجر
والشجر والبشر، أخذنا نتقارب من بعضنا حتى أصبحنا قريبا من كتلة واحدة، وهم
يتحلقون حولنا تحلّق الذئب حول فريسته، يجرفون ما تبقى من خيام وجثث ومصابين
ويجرفون معهم ذكريات المدينة الفاضلة
رابعة، تلك المدينة التي حلم بها أفلاطون وأقامها
النبيّ صلىّ الله عليه وسلم حين من الدهر في مجتمع المدينة.
وأنا حين أقول
المدينة الفاضلة فأنا أعي جيدا ما أقول، فليست تلك عبارة أدبية أصف بها مشاعري، بل
كانت حقيقة واقعة. أذكر أن محفظتي ضاعت منّي وسط الزحام وكانت فيها بطاقاتي
البنكية، وعندما سألتُ من معي في الخيمة عليها نصحوني بأن أبلغ البنك فورا لإيقاف
البطاقات، لكنني قلت لهم سوف أجدها في الأمانات الخاصة بالاعتصام.
كان اختبارا
بسيطا قبلتُ أن أضع نفسي فيه حتى أختبر فرضية المدينة الفاضلة (رابعة). ذهبت الى
الأمانات ولم أجدها، فأعاد عليّ أصحابي نصيحة وقف البطاقات لكنّي قلت لهم سأجدها
بإذن الله، وظللت يوميا أذهب إلى الأمانات حتى وجدتها في اليوم الرابع كما هي لم
تمس، فرحت كثيرا بأنّي كنت على صواب أكثر من فرحي بالمحفظة.
كرسي الموت
انقسموا إلى فريقين، فريق يرى أنّ نظل نقاوم حتى نستشهد، وجزء يرى أن نخرج من الميدان عن طريق الممر الآمن الذي كانوا يعلنون عنه في مكبرات الصوت فوق المدرعات
بينما هم يشقون
طريقهم إلينا من جميع الاتجاهات، ونحن متجمعون أمام المنصة من جهة اليمين قليلا
حين نكون في مواجهتها وصيحات التكبير تعلو وسط الدماء والأشلاء ورائحة شواء الأجساد،
نظرت أمام المنصة التي تحترق فإذا بكرسي خشبي أمامها وحيدا وسط الميدان بالضبط،
نظرت إليه في دهشة، كان مشهدا لا يستطيع عبقري في الإخراج السينمائي أنّ يفكر في
مشهد كهذا، مسرح خشبي أو المنصة التي كانت تعجّ بالحياة منذ قليل وقد اشتعلت فيها
النيران وأصبحت خاوية على عروشها، وأمامها كرسي ينتظر من يجلس عليه ليشاهد المشهد
النهائي لهذه التراجيديا المأساوية.
كنت منهكا بشدة
من تعبي الصحي وقنبلة الغاز التي انفجرت أمامي مباشرة ولا أزال غير قادر جيدا على
التنفس بسببها، وكنت أريد الجلوس فهاجت أفكاري للذهاب إلى هذا الكرسي لأجلس عليه ولو
دقائق، فقد كانت معظم الأرض دماء أو مياها. وبينما أفكر في ذلك سبقني إليه آخر ولم
يكد يجلس عليه حتّى انفجر رأسه جراء رصاصة من قنّاص من البنايات المواجهة للميدان،
علمت حينها لماذا لا يجلس عليه أحد أو حتّى يحاول إبعاده، فقد كان الأوغاد يلعبون ويتسلّون
علينا بلعبة الموت هذه.
حصل خلاف بين
الكتلة الأخيرة الباقية قرب الساعة الخامسة عصرا وقبل المغرب بقليل حول سؤال
المصير، ما الذي يجب أن نفعله الآن؟
وانقسموا إلى
فريقين، فريق يرى أنّ نظل نقاوم حتى نستشهد، وجزء يرى أن نخرج من الميدان عن طريق
الممر الآمن الذي كانوا يعلنون عنه في مكبرات الصوت فوق المدرعات. ووجهة نظر هؤلاء
أنّ المعركة لم تنته، لكن لم يعد هناك ما نقاوم من أجله هنا، فقد تم حرق كل شيء بما
فيه المسجد، والاعتصام انتهى فعليا، فلنخرج الآن ونستكمل النضال في معارك أخرى مع
هؤلاء الظلمة.
كان هذا الحوار
مشبع بالعواطف والمشاعر أكثر مما هو مشبع بالأفكار، فالجوّ كان ملتهبا وما هي الا
دقائق وينقضوا علينا. أخذتُ أراقب الحوار في صمت، حتّى سمعنا أصوات عدد من
المعتصمين قادمة من جهة الممر الآمن تقول إنّهم -الأوغاد- يطلقون النار بشكل
عشوائي ومكثف على الخارجين عبر الممر الآمن، وكانوا بالفعل يحملون عددا من
المصابين، وهنا أدرك الصمتُ الجميع فلم يعد من ملجأ يومئذ إلا إلى الله.
وعند رأيتهم صامتين
رفعت صوتي حتّى يسمعني الجميع أو هكذا ظننت، فقد كنت في غاية الإنهاك وطلبت منهم
أن يتجمعوا في كتلة واحدة ونتحرك جهة الممر الآمن بخطوة سريعة، بحيث إذا أطلقوا
النيران علينا يكون عدد الضحايا أقلّ مما لو تحركنا فرادى وببطء. فأيّد البعض
الفكرة واعترض البعض، فهم
مصرون على البقاء حتى الموت، فقلت لهم خلال دقائق سيهجمون
علينا، وفي الغالب سنُعتقل أو نُقتل وبالتالي لا منطق في البقاء، فعلينا أن نختار
الطريق الأقل تكلفة من الدماء.
الرصاصة الغادرة
ونحن على هذه
الحالة جاءني خاطر ملأ كياني كله أنّني سأصاب الآن، فاختلطت مشاعري وأخذتُ أردد
الشهادة وأطلب من الله المغفرة من ذنوبي وأن يلحقني به شهيدا، وأخذت أتلفت حولي
أبحث عن عين القنّاص الغادر الذي جعلني في بؤرة بندقيته، لكن عبثا، فقد كانوا في
كل مكان وفوق بنايات شاهقة.
ثم قلت في نفسي إذا
كان الله قد قدّر لك أن تصاب فلا تكن هدفا سهلا اصطياده، فأخذت أتحرك حركة عشوائية
داخل الحشد المتجمع والذي لا يزال مترددا ولا يوجد من يقوده أو يوجهه.
ثم قلت لنفسي: إذا
ظللت داخل الحشد هكذا فربما تخطئك الرصاصة وتأتي في أحد غيرك فتحمل ذنبه، وغلبني
إحساس ثقيل بالذنب أنني قد أكون سببا في موت أحد إخواني، فتحركت بهدوء إلى أحد
أطراف الحشد ووقفت، ولم تمض ثوان حتى جاءتني الرصاصة الغادرة في ظهري وشعرت
بسخونتها وألمها، وطرت فعليا للأمام نحو مترين ثم أظلمت الدنيا وفقدت الوعي.
الممر غير الآمن
أوشكت الشمس على
المغيب واستيقظت على أصوات همهمات وأيد تهزني كي تعرف إذا كنت لا زلتُ على قيد
الحياة أم لا، نظرت بعين زائغة فيمن حولي، كان عدد من المعتصمين قد انحنوا عليّ
لفحص مكان الإصابة؛ "الحمد الله لسه عايش"، سمعتها بصعوبة وأنا أستعيد
وعيي. وبعد السلامات والدعوات منهم ولم أكن أعرفهم، أوقفوني واستندت بذراعيّ على اثنين
منهم وقالوا لي: سنبحث عن أحد ينقلك إلى خارج الميدان فإصابتك بالغة.
وأخذوا يبحثون عن
أحد معه دراجة نارية (موتوسيكل) لينقلني عليه، وكان هناك عدد من المعتصمين يتطوعون
بنقل المصابين إلى الخارج بهذه الطريقة رغم ما في ذلك من خطورة عليهم، وقد استشهد
بالفعل عدد منهم برصاص القناصة جراء ذلك.
علمت منهم أنّهم
بعد إطلاق النار عليّ قد حسموا أمرهم للخروج كتلة واحدة بسرعة من "الممر
الآمن"، وبالفعل بدأنا الحركة وأنا أتحرك بصعوبة مستندا على الشخصين، وكان
بعضهم ونحن نمشي يصيح مكبرا وهو يبكي، وآخرون يشيرون بأيديهم للقناصة في تحد.
كانت العواطف
جيّاشة والدموع رقراقه، فهم يتركون خلفهم عالمهم الجميل وقد أصبح خرابا، يتركون
أحبتهم وإخوانهم وقد غيّبهم الموت في كل مكان، يتركون مصابين يتلوّون ألما لم
يستطيعوا الوصول إليهم بسبب شدة إطلاق النيران، لقد كنّا نودع شهداءنا دون أن
ندفنهم والمصابين دون أن نداوي جراحهم، كنّا نودّع مدينتنا الفاضلة الطاهرة.
كانت العواطف جيّاشة والدموع رقراقه، فهم يتركون خلفهم عالمهم الجميل وقد أصبح خرابا، يتركون أحبتهم وإخوانهم وقد غيّبهم الموت في كل مكان، يتركون مصابين يتلوّون ألما لم يستطيعوا الوصول إليهم بسبب شدة إطلاق النيران، لقد كنّا نودع شهداءنا دون أن ندفنهم والمصابين دون أن نداوي جراحهم، كنّا نودّع مدينتنا الفاضلة
كمائن الموت
وبينما نحن على
هذا الحال ظهرت دراجة نارية فنادوا على صاحبها وطلبوا منه أن يحملني عليها ولم
يتردد، وأجلسوني خلفه ثم جلس ثالث خلفي حتى لا أسقط فقد كنت في حالة إعياء شديد والنزيف
لا يتوقف.
وبدأنا نتحرك وسط
الحشد المتحرك حتى شارفنا على نهاية الممر أو الشارع فرأينا قوّات الموت تقف على
الجانبين بمدرعاتهم وعرباتهم وأسلحتهم مصوبة إلينا، وفي إحدى شرفات المنازل المطلة
على الطريق لمحت كاميرات تصوير كبيرة من التي تستخدم في القنوات الفضائية، فعلمت
أنهم لن يطلقوا النار علينا لزوم "اللقطة" التي سينشرونها في وسائل الإعلام
من أنّ الممر آمن وأنهم لم يتعرضوا لأحد.
أعطيت هاتفي
للرجل خلفي وكان الله قد هداني إلى شراء بطارية احتياطية له وضعتها قبل أن أصاب
بفترة وجيزة، وطلبت منه الاتصال بأهلي فقد اتصلوا عليّ كثيرا للاطمئنان ولم أستطع
الرد عليهم. كلمهم الرجل وقال لهم إنني أصبت وأنزف كثيرا وقد تحتسبينه عند الله
شهيدا فلا يوجد مكان نعالجه فيه، حاولت أن أتكلم وأعاتبه على ما قاله لها لكن لم أستطع
من شدة الإعياء.
حاول صاحب
الدراجة النارية البحث عن مستشفى أو أي مكان يستقبلني لكن كانت كمائن الجيش والشرطة
في كل مكان تبحث عن أي أحد خارج من الميدان لتعتقله أو ترديه قتيلا، وبالفعل
أطلقوا النيران علينا في أكثر من كمين ولكنّ الله سلّم، فقد كان قائد الدراجة
النارية ينحرف سريعا من مسار إطلاق الرصاص لأي طريق فرعي.
ما يفعل الله بي؟
وجدنا مستشفى
فذهبنا إليه واستوقفنا الأمن الخاص به وعندما علم بإصابتي قال انتظروا هنا، فعلمنا
أنه ينوي الغدر بنا وأنه سيسلمنا للجيش، وتحركنا فورا مبتعدين عن المكان. مضى أكثر
من ساعة على هذا المنوال ونحن في دائرة مغلقة، فقد كان المجرمون قد أغلقوا محيط
ميدان رابعة كاملا بالكمائن الثابتة والمتحركة وكذلك المنطقة بكاملها التي يقع
فيها الميدان، كما أن صاحب الدراجة النارية ليس من القاهرة ولا يعرف أين يذهب.
قرر الأخ الذي
يقود الدراجة أن يتوقف واقترح أن يتركني على جانب الطريق حتى يتحرك بحرية إلى أن
يجد أحدا يسعفني، وترك معي الأخ الذي كان يجلس خلفي، لكني طلبت منه أن يذهب معه ويتركني
وحيدا وحلفت عليه وقلت له سأتصل بمن يأتي ويأخذني، وبعد أخذ ورد تحركا وتركاني.
وجلست على الأرض في حالة إعياء شديد والدم ينزف من ظهري وجسدي مغطى بالدماء وأنتظر
ما يفعل الله بي.
تستكمل بإذن
الله.
للتواصل
عبر الفيسبوك:
https://www.facebook.com/share/19Q8TQTgUB/?mibextid=wwXIfr