وقفتُ في الحلقة الماضية
من هذه السلسة عند الرجل الستيني وكان
يعرفني ولا ينتمي لأي تيار سياسي أو ديني، ودون أن أطلب منه، عرض عليّ عرضا اندهشت
منه واستغربت من نُبل صاحبه.. قال لي هذا مفتاح بيتي الجديد لم يسكن فيه أحد
بعد وهو قيد الإنشاء ولم يكتمل بعد، فأقم فيه ما شئت حتى تتحسن حالتك وترى المناسب
لك، فوجودك في بيتك سيعرضك للاعتقال سريعا وأنت مصاب.
واندهشت من عرضه النبيل،
فقد كان بعض من أقمت عندهم بعد إصابتي أشعر منهم بخوف أو تملل من بقائي عندهم خوفا
من أن تداهم الشرطة منزلهم فيصيبهم ما قد يصيبني.
لكن هذا الرجل الكريم،
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، والذي سأحتفظ باسمه حاليا، عرض عليّ بيته كاملا وأن أقيم
فيه ما شاء لي أن أقيم حتى أتعافى من إصابتي وأرتب أموري، فشكرت له صنيعه هذا. وبالفعل
انتقلت إلى بيته الجديد الذي كان أقرب لعمارة سكنية متعددة الطوابق.
تعمدت في هذه الشهادة ألا أحلل المواقف والأحداث بعقلية الباحث، وآثرت أن يكون الجانب الإنساني فقط هو الحاضر في تفصيلاتها حتى لا أشتت القارئ بين المعلومة والتحليل
وخشينا أن ننقل أثاثا
بسيطا له فنلفت انتباه الجيران إلينا، فجئت بمرتبة صغيرة كنت أحتفظ بها من أيام الاعتقال
في زمن مبارك حتى لا أنسى هذه الذكرى ووضعتها على الأرض في الطابق الأرضي، وأنام على
بطني بسبب الإصابة. قضيت ما يقارب الشهرين في هذا المكان، وكان الأهل يترددون عليّ
في مكاني هذا لعيادتي حتى أذن الله بتحسن حالتي مع صعوبة لا تزال في الحركة.
مداخلة مع الجزيرة
في هذا التوقيت بعد
فض
رابعة وما تلاها من أحداث ومذابح؛ كانت معظم القيادات والرموز السياسية الرافضة
للانقلاب من الإخوان وغيرهم قد اعتقلت أو استشهدت أو اختفت، فوجدت الجزيرة تتصل بي
وأنا على هذه الحالة في المنزل الذي أختفي فيه وتطلب مني مداخلة، فقمت بها معهم ورددت
على أكثر من قناة فضائية.
فعاتبني بشدة أصدقاء
وإخوة أفاضل شاهدوا المداخلة وقالوا لي من السهل تحديد مكانك واعتقالك وأنت بهذه الحالة،
وأخذوا يعددون لي أسماء شخصيات اعتقلت مباشرة بعد مداخلات فضائية قاموا بها، وقالوا
لي إن دورك كسياسي أو إعلامي لم يعد له مكان في
مصر بعد الانقلاب وخاصة مع إصابتك التي
تعيق حركتك، والأفضل أن تسافر للخارج وتكمل رسالتك ودورك كمعارض للانقلاب من هناك،
وطلبوا مني ألا أرد على اتصالات الصحفيين وخصوصا أن بعضهم هو مخبر أمني في صورة صحفي،
وقد كان.
نكران القريب
لقد تنكر لي بعض أقاربي
ولم يرفعوا حتى سماعة الهاتف للسؤال على صحتي، خوفا من أن يربطوا أنفسهم بي رغم علمهم
بإصابتي، وهذا الرجل الكبير في السن وليس له انتماء لأي حزب أو جماعة ولا تربطني به
صلة من أي نوع غير الود والاحترام بيننا، يخاطر بنفسه من أجل سلامتي كما فعل باقي الأخوة
الأفاضل معي طوال رحلة الموت هذه.
بقيت في المنزل حتى
تحسنت قدرتي على الحركة نسبيا وبدأت التفكير والاستعداد للسفر، وفي هذه تفاصيل سأتخطاها
حاليا، فخرجت منها خائفا يترقب في مغامرة أخرى، حتى قيل لي الحمد الله، نجوت من القوم
الظالمين.
رفعت الأقلام وجفّت
الصحف
لقد تعمدت في هذه
الشهادة ألا أحلل المواقف والأحداث بعقلية الباحث، وآثرت أن يكون الجانب الإنساني فقط
هو الحاضر في تفصيلاتها حتى لا أشتت القارئ بين المعلومة والتحليل.
وتعمدت كذلك ألا أذكر
أسماء الشخصيات التي شاركتني التجربة لأني لم أستأذنهم في نشر أسمائهم، كما أن ذلك
قد يعرضهم لضغوط أمنية داخل مصر هم في غنى عنها، لكني أسأل الله أن يتقبل جهدهم وبذلهم
وتضحياتهم وأن يجمعني بهم في الدنيا على خير وفي الآخرة في جنات النعيم.
بكل تأكيد هناك آلاف
الشهادات التي يمكن أن تروى عمّا حدث في فض الاعتصامين في رابعة والنهضة، وهناك آلاف
القصص الإنسانية التي يجب أن توثّق حتى تستفيد الأجيال القادمة من هذه التجارب، لذلك
أدعو من تتاح له الظروف أن يوثق شهادته حتى تكتمل الصورة.
فمهما كتبت فأنا أكتب
فقط من زاوية التجربة التي عشتها، وهناك زوايا أخرى عديدة لم تغطها الشهادة يملك كل
من شارك في الاعتصام نصيبا منها، بل إنّ شهادتي نفسها لم أتحدث فيها عن كل ما حدث،
فهناك تفاصيل وأحداث لم أروها حتى لا تطول الشهادة، فقد بدأتها من ليلة الفض ولم أتحدث
عن الاعتصام نفسه والذي استمر نحو شهرين، لذلك أوجزت قدر ما استطعت دون إخلال بالأحداث
الرئيسية. وربما يكون قد حدث عندي التباس غير مقصود في بعض تفاصيل الأحداث الفرعية
نظرا لظروفي الصحية وقتها.
رسالة إلى الأجيال
القادمة
أخيرا، لقد ذكرت بعض
المواقف التي تعرضت فيها لرحمات الله وحفظه ورعايته ويهمني أن أذكر عدة أمور حول هذه
الرعاية الربانية:
أولا: أن حدوثها لا
يعني تميزا لصاحبها في علاقته بالله، فهذه الرعاية الربانية قد تحدث لغير المسلم، بل
حتى للملحد الذي لا يؤمن بالله، لسبب واحد فقط، هو أنّ من سنن الله في كونه التي لا
تتغير ولا تتبدل أن العدل أساس الملك وأن الله ينتصر للمظلوم ويشمله برعايته، حتى لو
غير مسلم، حتى يقتص له، فبالعدل قامت السماوات والأرض.
ثانيا: أهم درس يمكن
أن يتعلمه أحد من هذه الشهادة ويجعله نبراسا له منها، بل يعلقها أمامه دائما، هو أنّ
فريضة نصرة الحق والدفاع عن المظلومين والتمسك بالدين لا تقدم أجلا ولا تؤخر رزقا.
من لا يزال يظن بعد
هذه الشهادة أن النفع والضر بيد أحد غير الله، فهو لم يستفد شيئا مما قرأ وأضاع وقته،
لقد اجتمعت كل أسباب الدنيا لكي أموت يومها لكنّ تقدير الله كان النجاة لا الموت لي
ولغيري، وهناك من استشهد منذ اللحظة الأولى. إنه الله ولا أحد سواه يقرر متى وكيف وأين.
لقد جاءني خاطر منه
سبحانه انني سأصاب الآن وقد حدث، ثم خلعني من عالم الأسباب فسخّر لي اثنين حملاني على
دراجتهما النارية دون طلب مني، وعندما جلست وحيدا خارج الميدان بعد أن تركاني سخّر
لي من أعرف ويعرفني ليبقى معي، ثم سخر لي السيارة التي توقفت وفيها شابان لا أعرفهما،
ثم مررنا بكمائن الموت فأعمى أبصارهم وطاشت رصاصتهم، ثم سخر لي الطبيبة الفاضلة تمرضني
وتعودني، ثم المركز الطبي الذي تعامل مع الإصابة، ثم من يحملني خارج القاهرة، ثم من
يكمل علاجي، ثم من يعطيني مفتاح بيته دون أن أطلبه!!
حين تتأمل كل هذه
المحطات تجد أنني لم أفعل أي شيء ولم أبادر لشيء أو أسعى إليه للنجاة بنفسي! لقد أراد
هو وحده أن أعيش وألا يصيبني أذى أكثر مما قدره، هو في السيناريو المكتوب في اللوح
المحفوظ من قديم الأزل، فقال كن فكان بلا حول مني ولا قوة، وهناك من اصطفاه الله شهيدا
أو أسيرا لأن هذه أيضا إرادته وليست إرادتهم، لقد كانوا الأداة فقط لإمضاء إرادة الله
التي لا يغيّرها بشر.
الأمة في منعطف تاريخي كبير ويجب أن نكون جميعا على قدر المسئولية والتحدي، وإلا سندخل في التيه لعشرات السنين وسيلعننا أبناؤنا والأجيال القادمة على ما فرطنا فيه من واجبات تجاه فلسطين وتجاه أوطاننا، فانفضوا عن أنفسكم بواعث اليأس والجبن وقوموا نصرة للحق والمظلومين
"واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك
لم يكن ليخطئك.. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد
كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" (الحديث). فلماذا نخاف إذا من سلطان
أو ظالم؟! ولماذا نسكت عن نصرة الحق والمستضعفين في غزة وفي عالمنا الإسلامي؟
اعتقال مؤيدي النظام
لقد كان هناك أناس
لم يكونوا معتصمين، بل كانوا رافضين للاعتصام وضد الرئيس مرسي، واعتقلوا وبعضهم قتل
بالخطأ على أيدي الشرطة، فلا الإقدام يقصّر الأعمار ولا الجبن يدفع الأقدار.
فإلى المعتقلين الذين
يقرأ بعضهم كلامي هذا الآن وإلى أسرهم وأسر الشهداء والمطاردين، لا يسخطن أحدكم على
أقدار الله، فهو وحده الضار والنافع ولا يصير في ملكه إلا ما يريده، فالرضا والتسليم
بما أمر هو عين راحة القلوب والأبدان.
إنّ كثيرا ممن يسخطون
على أمر الله فيهم؛ الدنيا في نظرهم متاع كبير فيحزنون على ما فاتهم منها ويقارنون
أنفسهم بغيرهم، ولو علموا حقيقتها وأنها ظلّ شجر زائل لا محالة لاستراحوا وتحول بلاؤهم
إلى نعمة بالرضا والصبر الجميل.
إلى الثائر أو المجاهد
أو الأخ الذي باع قضيته أو تزاحمت عليه الهموم والغموم.. إلى الذي ربما انقلب على عقبيه
فلم يبع القضية فحسب، بل انتقل الى الجانب الآخر مع الظالمين يبحث لنفسه عن الأمان
والاستقرار بينهم كما يظن.. إلى من يشاهد ما يحدث من إبادة جماعية لأهلنا في غزة وهو
صامت متخاذل حرصا على حياته ومعاشه، هذه المذكرات لك أنت تحديدا، تقول لك إن هناك يدا
عليا تعمل في الخفاء، هي وحدها من تقرر ماذا ومتى وكيف.
إلى الذين تركوا فرائض
نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف، إيثارا للسلامة وبحثا عن الجهاد اللذيذ الذي لا تعب فيه
ولا مشقة ولا مخاطرة ولا منغصات ولا كدر ولا تعكر في المزاج!!.. أقول لكم ولنفسي قبلكم:
إن الأمة في منعطف تاريخي كبير ويجب أن نكون جميعا على قدر المسئولية والتحدي، وإلا
سندخل في التيه لعشرات السنين وسيلعننا أبناؤنا والأجيال القادمة على ما فرطنا فيه
من واجبات تجاه فلسطين وتجاه أوطاننا، فانفضوا عن أنفسكم بواعث اليأس والجبن وقوموا
نصرة للحق والمظلومين.. انتهت.
للتواصل عبر الفيسبوك:
facebook.com/share/19Q8TQTgUB/?mibextid=wwXIfr