قضايا وآراء

مصر ضمن الـ10 الكبار اقتصاديا: رؤية إسلامية لنهضة اقتصادية شاملة (14)

علي شيخون
"النيل لا يجري في مصر فقط، بل يجري لمصر"- جيتي
"النيل لا يجري في مصر فقط، بل يجري لمصر"- جيتي
14- خريطة الموارد المصرية وخطط الاستغلال الأمثل

مصر غنية لا تعرف ثراءها. هذه حقيقة يؤكدها كل من يتأمل خريطة الموارد المصرية بعين فاحصة؛ من حقل ظهر للغاز الطبيعي الذي يكفي احتياجات مصر لأربعة عقود، إلى 3 آلاف كيلومتر من السواحل الذهبية، إلى الشمس التي تسطع أكثر من 3 آلاف ساعة سنويا، إلى معادن الصحراء الشرقية من ذهب وفوسفات.. مصر تجلس على كنز حقيقي.

لكن السؤال المؤرق: لماذا نستورد ما يمكن أن ننتجه؟ لماذا نصدر الغاز خاما ونستورد البتروكيماويات مصنعة؟ لماذا نملك أجود فوسفات في العالم ونستورد الأسمدة؟ لماذا تمر أمامنا 12 في المئة من التجارة العالمية ونكتفي برسوم العبور؟

من سيدنا يوسف الذي أدار خزائن مصر بحكمة، إلى اليوم الذي نستورد فيه القمح والسكر، تبقى الحقيقة واحدة: المشكلة ليست في نقص الموارد، بل في طريقة استغلالها.

في هذا المقال، سنرسم خريطة شاملة لثروات مصر الحقيقية، ونتعلم من تجارب معاصرة، ونضع استراتيجية عملية لتحويل هذه الموارد إلى قوة اقتصادية.

خريطة الموارد المصرية

النيل لا يجري في مصر فقط، بل يجري لمصر. هذا النهر العظيم الذي ينبع من قلب أفريقيا ويصب في البحر المتوسط، اختار مصر لتكون موطنه الأخير ومستقره النهائي. وعبر آلاف السنين، حمل معه أطنانا لا تحصى من الطمي الأفريقي الخصب، فصنع دلتا النيل، هذه التحفة الجيولوجية التي تعتبر من أغنى الأراضي الزراعية على وجه الأرض.

ولكن النيل لم يأت وحده، جاء ومعه مليون فدان من الأراضي الزراعية في الدلتا ووادي النيل، تنتج أجود أنواع القطن في العالم، وأرزا يُصدّر لأوروبا، وخضروات وفاكهة تملأ موائد الشرق الأوسط. هذه الأرض التي تعطي ثلاثة محاصيل في العام الواحد، بينما أراضي أخرى في العالم تكافح لتنتج محصولا واحدا.

والمفاجأة أن النيل ليس كل القصة. الصحراء الغربية تخفي تحت رمالها أحد أكبر خزانات المياه الجوفية في العالم، خزان الحجر الرملي النوبي الذي يحتوي على مياه تكفي لزراعة ملايين الأفدنة لمئات السنين. هذا الخزان العملاق يمتد تحت مصر وليبيا والسودان وتشاد، ونصيب مصر منه وحده يمكن أن يحول الصحراء إلى جنة خضراء.

أما الشمس والرياح فهما هدية السماء اليومية لمصر. فالشمس المصرية ليست مجرد مصدر ضوء ودفء، بل مصنع طاقة طبيعي يعمل أكثر من 10 ساعات يوميا على مدار العام. وفي الوقت الذي تبحث فيه دول العالم عن مصادر طاقة متجددة ونظيفة، تملك مصر أكبر محطة طاقة شمسية طبيعية في العالم؛ صحراؤها الشاسعة.

والرياح على الساحل الشرقي للبحر الأحمر تهب بقوة ثابتة واتجاه منتظم، مما جعل هذه المنطقة محط أنظار شركات الطاقة العالمية، وهي رياح تكفي لتوليد كهرباء تغطي احتياجات مصر وتفيض لتُصدر إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.

في أعماق البحر المتوسط، على بُعد كيلومترات قليلة من السواحل المصرية، يقبع حقل ظهر، هذا العملاق الغازي الذي غيّر خريطة الطاقة في شرق المتوسط. بـ30 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، يكفي هذا الحقل وحده احتياجات مصر لأربعة عقود كاملة، وما ظهر ليس إلا بداية القصة، فالاكتشافات الجديدة تتوالى في حقول نورس وأتول وشروق، لتضع مصر في مصاف كبار منتجي الغاز عالميا.

وتحت رمال الصحراء الشرقية تكمن كنوز الفراعنة الحقيقية. هنا حيث عمل أجدادنا المصريون القدماء في استخراج الذهب منذ آلاف السنين، ما زالت الأرض تحتفظ بكميات هائلة من المعدن الثمين. مناجم السكري والسد وحمش ليست سوى قمة جبل الجليد، فالدراسات الجيولوجية تشير إلى وجود احتياطيات ذهبية ضخمة لم تُستكشف بعد.

ولكن الذهب ليس الكنز الوحيد، في جبال البحر الأحمر يقبع أحد أجود أنواع الفوسفات في العالم، وهو المادة الخام الأساسية لصناعة الأسمدة التي يحتاجها العالم كله. وفي أبو زعبل والسباعية، تنتشر مناجم الفوسفات التي تنتج سنويا ملايين الأطنان، لكن معظمها يُصدر خاما بدلا من تحويله إلى منتجات عالية القيمة.

أما في الواحات البحرية وأسوان، فتنتشر خامات الحديد عالية الجودة، هذا الحديد الذي بُنيت عليه حضارات العالم، والذي يمكن أن يكون أساسا لصناعة مصرية عملاقة تلبي احتياجات أفريقيا والشرق الأوسط من الصلب والحديد المصنع.

وفي شبه جزيرة سيناء، تحديدا في منطقة المغارة، يوجد أحد احتياطيات الفحم الجيدة في مصر، بجانب معادن أخرى نادرة مثل المنجنيز والنحاس التي تدخل في صناعات تكنولوجية متقدمة.

لكن ربما تكون الرمال البيضاء في الساحل الشمالي هي الكنز الأكثر قيمة والأقل شهرة. هذه الرمال عالية النقاء هي المادة الخام لصناعة الزجاج والسيراميك والألياف البصرية، وهي صناعات تقدر بمليارات الدولارات سنويا، بينما نحن نصدرها خاما بأسعار زهيدة.

والمفاجأة الأكبر تأتي من البحيرات المالحة في شمال سيناء ومنخفض القطارة، حيث تتركز أملاح طبيعية نادرة يمكن استخراجها بتقنيات بسيطة لصناعة كيماويات متقدمة تُباع بأسعار عالية في الأسواق العالمية.

كل هذه الثروات الباطنة تحكي قصة واحدة: مصر تجلس على كنز حقيقي. لكن المشكلة أننا ما زلنا نتعامل مع هذه الكنوز كما تعامل معها أجدادنا منذ قرون؛ نستخرج الخام ونبيعه، بدلا من أن نصنع منه منتجات عالية القيمة تضاعف العائد مئات المرات. فكيف حولت دول أخرى مواردها الأقل منا إلى قوة اقتصادية عالمية؟

تجارب ملهمة من العالم الإسلامي والعالمي

لنبدأ بماليزيا، ففي الثمانينيات، كان زيت النخيل الماليزي مجرد سائل أصفر يُشحن في براميل إلى المصانع الأوروبية والأمريكية، حيث يتحول إلى صابون ومستحضرات تجميل وأغذية معلبة تُباع بأسعار مرتفعة. كان الماليزيون يبيعون المادة الخام بثمن بخس ويشترون المنتج النهائي بثمن غال.

مهاتير محمد قرر كسر هذه المعادلة المجحفة، بدأ بخطوة بسيطة: منع تصدير زيت النخيل الخام تدريجيا، وأجبر الشركات الأجنبية على بناء مصانع التكرير داخل ماليزيا. ولم يتوقف عند هذا الحد، بل أنشأ معاهد بحثية تدرس كيفية تطوير استخدامات جديدة لزيت النخيل. اليوم، ماليزيا لا تصدر زيت النخيل فقط، بل تصدر أيضا المعرفة والتكنولوجيا المرتبطة به إلى دول أخرى.

سنغافورة هذه الدولة الصغيرة التي تستورد حتى المياه من ماليزيا، حولت نقاط ضعفها إلى مصادر قوة. فلأنها صغيرة، ركزت على الصناعات التي تحتاج مساحات صغيرة لكنها تحقق عوائد كبيرة، مثل الإلكترونيات والبرمجيات والخدمات المالية، ولأنها تقع على طريق التجارة بين الشرق والغرب، حولت نفسها إلى المحطة التي يتوقف عندها كل من يريد التجارة مع آسيا.

إندونيسيا لها قصة مختلفة، فبعد أزمة 1998 المدمرة، قررت الحكومة الإندونيسية عدم الاعتماد على جاكرتا وحدها لقيادة الاقتصاد. نقلت صلاحيات واسعة للمحافظات والمدن، وتركت كل منطقة تطور مواردها الخاصة. النتيجة كانت مذهلة: مناطق تخصصت في إنتاج أجود أنواع القهوة في العالم، وأخرى أصبحت مراكز لصناعة الأثاث من أخشاب الغابات الاستوائية، وثالثة تحولت إلى مراكز تكنولوجية تنافس وادي السيليكون.

أما النرويج فقدمت نموذجا مختلفا تماما في إدارة الثروة الطبيعية. فعندما اكتشفوا النفط في بحر الشمال، كان يمكن أن يقعوا في فخ المرض الهولندي، وهو الاعتماد المفرط على مورد طبيعي واحد حتى تتدهور باقي القطاعات الاقتصادية، لكن النرويجيين وضعوا قاعدة ذهبية: كل عوائد النفط تذهب إلى صندوق استثماري للأجيال القادمة، والحكومة لا تنفق منه إلا نسبة محدودة سنويا. هكذا تجنبوا إدمان النفط وبنوا اقتصادا متنوعا قويا.

استراتيجيات الاستفادة من الموارد

- استراتيجية القيمة المضافة القصوى: تقوم على مبدأ إسلامي واضح؛ تحريم إهدار المال والموارد. بدلا من تصدير الغاز الطبيعي خاما، تستطيع مصر أن تحتفظ بنصيب منه لبناء صناعات ضخمة قائمة على الطاقة الرخيصة. مصانع الألومنيوم مثلا تحتاج كميات هائلة من الكهرباء، والألومنيوم الخام عندما يتحول إلى قطع غيار للطائرات أو السيارات فإن سعره يتضاعف عشرات المرات. وهكذا في كل ما تملك مصر من موارد.

- استراتيجية الربط الاستراتيجي بين القطاعات المختلفة: الصحراء الغربية مثلا تحتوي على المياه الجوفية والأراضي القابلة للاستصلاح والمعادن والطاقة الشمسية. بدلا من التعامل مع كل مورد منفصلا، يمكن إنشاء مدن صناعية زراعية متكاملة؛ الطاقة الشمسية تدير مضخات المياه الجوفية، والمياه تروي المزارع، والمزارع تنتج المواد الخام للصناعات الغذائية، والمعادن تغذي الصناعات التحويلية.

- استراتيجية الاقتصاد الدائري: كل مخلف يصبح موردا جديدا، فمخلفات مصانع الألومنيوم تتحول إلى مواد بناء، ونفايات المدن تتحول إلى طاقة حيوية، ومياه الصرف المعالجة تروي المزارع الصحراوية. حتى المخلفات الزراعية يمكن تحويلها إلى أعلاف أو مواد خام لصناعة الورق والمنسوجات الطبيعية.

- استراتيجية التحكم في القيمة الزمنية: تعني اختيار التوقيت المناسب للاستخراج والتصدير حسب الأسعار العالمية، وادخار بعض الموارد للمستقبل عندما تصبح أغلى، والاستفادة الذكية من دورات السوق العالمية.

- استراتيجية التوطين التكنولوجي: من خلال إلزام أي شركة أجنبية تفوز بعقد للتنقيب أو الاستخراج -سواء في الغاز أو الذهب أو الفوسفات- بشرطين أساسيين: الأول، إنشاء مركز أبحاث وتطوير (R&D) في مصر، يعمل على تطوير تقنيات أكثر كفاءة تناسب بيئتنا الصحراوية والبحرية. الثاني، برنامج نقل معرفة واضح، حيث تتدرب كوادر مصرية شابة على أعلى المهام التقنية والإدارية، ليساعدوا في إدارة المورد اليوم، ويصبحوا قادة لهذه الصناعة غدا.

استراتيجية التحالفات الإقليمية الذكية: لماذا نتنافس ونحن نستطيع أن نتكامل؟

مصر ليست جزيرة معزولة، بل هي قلب العالم العربي والإفريقي. بدلا من أن نكون منفردين في سوق عالمية شرسة، يمكننا أن نكون محورا للتعاون الإقليمي الذي يحقق للجميع مكاسب أكبر. فبدلا من أن تتنافس مصر والسعودية والمغرب في سوق الأسمدة العالمية، لماذا لا ننشئ معا تحالف الفوسفات العربي؟ تجمع مصر الخام، وتقدم السعودية التمويل، ويقدم المغرب خبرته التصنيعية، وتصبح المجموعة لاعبا عالميا مسيطرا بدلا من لاعبين منفردين ضعفاء، وهكذا..

استراتيجية الرقمنة وإدارة البيانات: الموارد غير المرئية هي الأثمن، المعلومات هي أغلى من الذهب الأسود نفسه. كيف نستفيد من هذا؟ عبر إنشاء منصة مصر الذكية للموارد الطبيعية، وهي نظام رقمي موحد يستخدم الذكاء الاصطناعي لمراقبة وإدارة كل قطرة نفط وكل غاز وكل طن من الفوسفات في البلاد.

ستعمل هذه المنصة كعقل إلكتروني مركزي يقوم بأمرين: الأول، مراقبة في الوقت الفعلي لعمليات الإنتاج والاستهلاك، للقضاء على الهدر والفساد. الثاني، تحليل بيانات السوق العالمية لتخبرنا: متى يكون أفضل توقيت لبيع الغاز؟ وأي الأسواق تدفع سعرا أعلى؟ وأي المنتجات المشتقة من خاماتنا تحقق أعلى ربح؟ وهو ما يتوافق مع التوجيه النبوي: احرص على ما ينفعك، فأعظم ما ينفعنا اليوم هو المعلومة الدقيقة والوقت المناسب. بهذه الاستراتيجية، لا ندير مواردنا بالحدس أو المصادفة، بل بعلوم البيانات والدقة.

تحديات الاستفادة من الموارد

لكن الطريق إلى تحويل هذه الاستراتيجيات من أحلام على الورق إلى واقع ملموس ليس مفروشا بالورود، فمصر تواجه تحديات حقيقية ومعقدة تحتاج لمواجهة صادقة وحلول جذرية.

- أول هذه التحديات التمويل الضخم المطلوب. بناء مصانع الألومنيوم والبتروكيماويات يتطلب استثمارات تُقدر بعشرات المليارات، وتطوير شبكات الطاقة المتجددة يحتاج لأموال أكثر، ومشاريع استصلاح الصحراء وبناء المدن الجديدة تتطلب استثمارات أضخم. من أين ستأتي كل هذه الأموال في وقت تحتاج فيه مصر لكل جنيه لتطوير الخدمات الأساسية والبنية التحتية؟

- البيروقراطية المعقدة تُشكل حاجزا آخر لا يُستهان به. المستثمر الذي يريد أن يُقيم مصنعا للطاقة الشمسية قد يحتاج شهورا للحصول على التصاريح اللازمة من عشرات الجهات الحكومية، والشركة التي تريد استخراج المعادن تواجه إجراءات معقدة تستنزف الوقت والمال. في عالم يتحرك بسرعة البرق، كل يوم تأخير يعني فرصة ضائعة وأموالا مهدورة.

- التحديات البيئية تضع قيودا إضافية. استخراج المعادن والفوسفات يؤثر على البيئة المحلية، ومشاريع الطاقة الكبيرة تحتاج مساحات شاسعة قد تتعارض مع الأراضي الزراعية أو المحميات الطبيعية، واستنزاف المياه الجوفية لاستصلاح الصحراء قد يؤثر على الاحتياطي المائي للأجيال القادمة. التوازن بين التنمية والاستدامة معادلة صعبة تحتاج حكمة وتخطيطا دقيقا.

- لكن ربما يكون التحدي الأكبر هو تغيير العقلية. فعقود من الاعتماد على بيع المواد الخام خلقت ثقافة البيع السريع بدلا من الاستثمار طويل المدى. الكثيرون يفضلون بيع البترول اليوم بدلا من الاستثمار في مصفاة تحقق أرباحا أكبر بعد خمس سنوات. وهناك مقاومة طبيعية للتغيير من المستفيدين من النظام الحالي؛ من تجار المواد الخام الذين يحققون أرباحا سهلة، والبيروقراطيين الذين يستفيدون من تعقيد الإجراءات.

- وهناك التحدي السياسي والأمني. فالشرق الأوسط منطقة مضطربة، والاستثمارات الضخمة تحتاج لاستقرار سياسي طويل المدى. المستثمر الأجنبي يتردد في ضخ مليارات الدولارات في مشروع قد تؤثر عليه التوترات الإقليمية أو التغييرات السياسية الداخلية.

- تحدي غياب التخطيط الاستراتيجي طويل الأمد. فغالبا ما تُسقط اعتبارات الأجل القصير -كسد عجز في الموازنة أو تلبية ضغوط سيولة- الاعتبارات الاستراتيجية للأجل الطويل. والنتيجة هي استنزاف للموارد غير المتجددة، مثل الغاز أو حتى المخزون الجوفي من المياه، دون استثمار كافٍ ومخطط في بدائل صناعية أو في الحفاظ على رأس المال الطبيعي للأجيال القادمة. إنه اختيار لإطفاء حرائق اليوم على حساب تأمين مستقبل الغد.

وإذا انتقلنا من مستوى السياسات الكلية إلى مستوى الجغرافيا، نجد تحديا يتمثل في التفكك بين جغرافية المورد وجغرافية التنمية. فثروات مصر الباطنية من غاز وذهب تتركز في مناطق نائية ومهمشة تاريخيا، بينما تتركز التنمية والاستثمار في وادي النيل. هذا الفصل بين مكان توليد الثروة ومكان استهلاك عائداتها يغذي الشعور بالتهميش والظلم لدى المجتمعات المحلية، ويزيد من تكاليف الاستخراج والنقل، ويفوت فرصة ذهبية لخلق أقطاب تنموية جديدة ومستدامة في تلك المناطق، تحولها من عبء أمني إلى أصول إستراتيجية.

- تحدي فجوة المعرفة والتقنية، التي تحول بين مصر وبين التحكم الكامل في ثرواتها. فامتلاك المورد هو نصف المعادلة فقط، أما النصف الآخر فهو امتلاك المعرفة والتقنية اللازمة لاستخراجه بكفاءة وتحويله إلى منتج نهائي. الاعتماد شبه الكلي على الشركات الأجنبية في هذه المراحل المتقدمة يعني البقاء في ذيل سلسلة القيمة العالمية، ودفع مبالغ طائلة مقابل الخبرة، وفقدان الاستقلالية في اتخاذ القرارات الإستراتيجية المتعلقة بأهم موارد البلاد.

أهم هذه التحديات هو تحدي انفصال المعرفة عن القرار. فغالبا ما تُتخذ القرارات الاستراتيجية المصيرية المتعلقة بملف الموارد -الذي يفترض أنه تقني بالدرجة الأولى- بناء على اعتبارات سياسية أو مالية قصيرة المدى، أو تحت ضغوط أزمة عابرة. يتم تجاهل التقارير الفنية والدراسات العلمية طويلة الأمد التي أعدها الخبراء والمتخصصون في الجيولوجيا والاقتصاد والبيئة، لصالح رؤى تخدم مصالح ضيقة أو تفكيرا آنيا.

- تحدي أزمة الثقة المؤسسية. فغياب الشفافية والمحاسبة في إدارة ملف الموارد -الذي يُعتبر من الأسرار العليا للدولة- يخلق فجوة من عدم الثقة بين المواطن والدولة. لا يرى المواطن العادي حيث تذهب مليارات الدولارات من عوائد الغاز أو الذهب، ولا يلمس أثرها في تحسين الخدمات أو البنية التحتية في محافظته. هذا الغياب للرابط الملموس بين الثروة الوطنية والتحسن في جودة الحياة يقتل أي حس بالمسؤولية الجماعية تجاه هذه الموارد، ويجعلها في نظر البعض غنيمة للسلطة الحاكمة أو للنخبة المتصلة بها، وليس أمانة وطنية.

- وأخيرا يكون التحدي الأكثر جذرية هو الخلل في سوق القيم الوطني. في ظل اقتصاد يعاني من التشوهات والفساد، تصبح القيم المادية هي السائدة. يُكافأ تاجر العملة أو وسيط الصفقات الذي يجني المليارات، بينما لا يُكافأ العالم الجيولوجي أو المهندس الذي يقضي سنوات في البحث والتطوير. هذه الإشارات الخاطئة من السوق والمجتمع تشوه الحوافز وتصرف أنبل العقول وأكثرها كفاءة عن مجالات العلوم والبحث والتطوير والهندسة، أصبحت قيمة المضارب أعلى من قيمة العالم في الميزان الاجتماعي، وهذه إشكالية وجودية تهدر الرأس المال البشري -وهو أعظم الموارد- قبل أن تهدّر الموارد الطبيعية.

هذه التحديات حقيقية وجادة، لكنها ليست مستحيلة، فدول أخرى واجهت تحديات مشابهة ونجحت في تجاوزها. السؤال الآن: هل مصر مستعدة لدفع ثمن النجاح والتضحية بالراحة قصيرة المدى من أجل الازدهار طويل المدى؟

وفي الختام، فإن الحلم بأن تدخل مصر نادي العشرة الكبار اقتصاديا ليس ضربا من الخيال، بل هو خيار استراتيجي، فالثروات بين أيدينا، والنماذج الناجحة أمام أعيننا، والاستراتيجيات واضحة المعالم. لكن المعادلة الحاسمة التي ستحدد مصيرنا الاقتصادي ليست في باطن الأرض، بل في عمق إرادتنا الجماعية. هل نختار بيع الكنوز اليوم لإشباع جوع اللحظة، أم نستثمرها لبناء أمّة قادرة على إشباع أحلام أجيالٍ قادمة؟ الإجابة ليست في يد الحكومات وحدها، بل في وعي كل مصري بأن هذه الثروة أمانة في عنقه، ومسؤولية على كاهله.
التعليقات (0)

خبر عاجل