قضايا وآراء

مصر ضمن الـ10 الكبار اقتصاديا: رؤية إسلامية لنهضة اقتصادية شاملة (9)

علي شيخون
"الحل يبدأ ببناء ثقافة إيجابية جديدة تجعل من العمل والإنتاج قيما محورية في حياة المجتمع المصري"- عربي21
"الحل يبدأ ببناء ثقافة إيجابية جديدة تجعل من العمل والإنتاج قيما محورية في حياة المجتمع المصري"- عربي21
9- تهيئة المجتمع للتنمية والتحول الاقتصادي

في مسيرتنا نحو تحقيق حلم مصر بالوصول إلى مصاف العشرة الكبار اقتصاديا بحلول عام 2040، نصل اليوم إلى ركيزة محورية في عملية الإصلاح المؤسسي وهي تهيئة المجتمع نفسه للتنمية والتحول الاقتصادي.

إن أعظم درس في الحضارة الإسلامية هو قدرتها الفريدة على إحداث تحول ثقافي شامل في المجتمعات. فحين نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكتفِ بتغيير العقائد فحسب، بل أحدث ثورة حقيقية في المفاهيم والقيم والسلوكيات، حولت قبائل متناحرة تعيش على النهب والغارات إلى أمة منتجة مبدعة بانية للحضارات.

ولعل أروع ما في هذا التحول أنه لم يكن تحولا سطحيا أو مؤقتا، بل كان تغييرا جذريا في البنية الثقافية للمجتمع، حيث أصبح العمل عبادة، والإتقان فريضة، والسعي في الأرض مقصدا شرعيا. وهكذا شهدت الأندلس وبغداد والقاهرة ودمشق نهضات اقتصادية وعلمية لا تزال البشرية تستفيد من ثمارها حتى اليوم.

هذا بالضبط ما تحتاجه مصر، ليس فقط خططا اقتصادية واستثمارات ضخمة، بل تحولا ثقافيا يعيد إحياء روح العمل والإبداع والمبادرة في نفوس المصريين

ونحن نسعى لاستعادة مكانة مصر الاقتصادية العالمية، نقف أمام تحدٍ مماثل، كيف نعيد إحياء هذه الروح الحضارية في المجتمع المصري؟

إن الأمر لا يتعلق بمجرد حملات توعوية أو شعارات برّاقة، بل بإعادة تشكيل جذرية للوعي الجماعي، تتطلب تضافر جهود كل مؤسسات المجتمع، من الأسرة إلى المدرسة، ومن المسجد إلى الإعلام، لبناء مجتمع جديد منتج بدلا من مستهلك، مبادر بدلا من منتظر، مبدع بدلا من مقلد.

وهذا ما سنستكشف أبعاده وآلياته في هذا المقال، مؤمنين بأن الأمة التي أنجبت ابن خلدون وابن سينا والخوارزمي قادرة على إنجاب جيل جديد من المبدعين والرواد.

التحول الثقافي كأساس للنهضة الاقتصادية

حين نتأمل سيرة أعظم تحول شهدته البشرية، نجد أنفسنا أمام معجزة حضارية حقيقية. فقد استطاع الإسلام في غضون عقود قليلة أن يحول مجتمعا بدويا بسيطا إلى قوة اقتصادية وحضارية عالمية، ليس بالقوة أو الإكراه، بل بتغيير جذري في الثقافة والوعي.

كانت الجزيرة العربية قبل الإسلام تعيش على اقتصاد بدائي يقوم على الرعي والغارات، وثقافة تمجد القوة والنهب أكثر من العمل والإنتاج. لكن الرسالة الإسلامية أحدثت انقلابا كاملا في هذه المفاهيم، فأصبح التاجر الصادق في مرتبة الشهداء، والحرفي المتقن محبوبا عند الله.

هذا التحول لم يكن مجرد تغيير في القوانين أو الأنظمة، بل كان ثورة ثقافية حقيقية غيرت طريقة تفكير الناس ونظرتهم للحياة. فبدلا من انتظار الغنائم، أصبحوا يبحثون عن الفرص التجارية، وبدلا من الاعتماد على قوة القبيلة، أصبحوا يعتمدون على مهاراتهم الشخصية وجهدهم الذاتي.

والنتيجة في غضون قرن واحد، أصبحت المدن الإسلامية مراكز تجارية عالمية، وازدهرت الصناعات والحرف، وظهرت أسواق منظمة بقوانين تجارية متقدمة لا تزال تُدرَّس في كليات الاقتصاد حتى اليوم.

والتحول الحقيقي يبدأ من الداخل، من تغيير المفاهيم والقيم التي تحكم سلوك الأفراد في حياتهم اليومية. فحين يؤمن الإنسان أن عمله عبادة، وأن إتقانه فريضة، وأن كسبه الحلال جهاد، عندها فقط تتحول الطاقات البشرية من مجرد أرقام في الإحصائيات إلى محرك حقيقي للنهضة الاقتصادية.

وهذا بالضبط ما تحتاجه مصر، ليس فقط خططا اقتصادية واستثمارات ضخمة، بل تحولا ثقافيا يعيد إحياء روح العمل والإبداع والمبادرة في نفوس المصريين.

تشخيص المعوقات المجتمعية للتنمية

إن أول خطوة في طريق العلاج هي التشخيص الصحيح للداء، وحين ننظر بعين بصيرة إلى واقعنا المجتمعي اليوم، نجد أن هناك مفاهيم وسلوكيات ترسبت عبر عقود من التراجع الحضاري، وأصبحت تشكل عوائق حقيقية أمام النهضة الاقتصادية المنشودة.

أولها، ثقافة الاستهلاك المفرط، لقد تحول مجتمعنا تدريجيا من مجتمع منتج إلى مجتمع مستهلك، يقيس النجاح بما يملك وليس بما ينتج. فأصبح الشاب يحلم بامتلاك أحدث الهواتف الذكية أكثر من حلمه بإنشاء مشروع صغير، وأصبحت الأسرة تتباهى بما تستهلك أكثر مما تفخر بما تنتج. بل وصل الأمر إلى استنزاف المدخرات لشراء سلع استهلاكية لا ضرورة حقيقية لها، مما يحرم الاقتصاد من رؤوس أموال كان يمكن توجيهها للاستثمار والإنتاج.

وهذا السلوك يتناقض صراحة مع تعاليم الإسلام التي تحرم الإسراف والتبذير، يقول الله تعالى: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" (الأعراف: 31).

ثانيها، الاتكالية والاعتماد على الغير، التي تجعل الفرد ينتظر الحلول من الآخرين، سواء كانوا الحكومة أو الأهل أو المجتمع الدولي. فبدلا من البحث عن الفرص وخلقها، نجد كثيرين يشكون من قلة الفرص دون أن يسعوا لصنعها بأنفسهم.

وحين نقارن هذا بالروح الإسلامية الأصيلة، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه رجل من الأنصار يسأل، أعطاه فأسا وقال: "اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما" (أبو داوود)، فعلمه كيف يصنع رزقه بيده بدلا من الاعتماد على الصدقة.

ثالثها، ثقافة الواسطة والمحسوبية، حيث أصبح تفضيل العلاقات على الجدارة والكفاءة آفة تنخر في جسد المجتمع، وتقتل روح التنافس الشريف والاعتماد على الكفاءة. فنجد من يبحث عن "واسطة" لتولي منصب أو الحصول على فرصة، بدلا من تطوير مهاراته وكفاءته. هذا يؤدي إلى وضع الشخص المناسب في المكان الخطأ، والعكس، مما يضر بالإنتاجية والجودة. والإسلام يؤكد على أهمية الكفاءة والأمانة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من وُلي من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين". (الطبراني)

رابعها، ضعف تقدير قيمة الوقت، حيث لا يدرك كثيرون أن الوقت مورد اقتصادي ثمين لا يُعوض، فنجد التساهل في المواعيد والتأخير المزمن، وإضاعة ساعات العمل في أحاديث جانبية، وعدم تنظيم الأولويات، بينما الدول المتقدمة اقتصاديا تتميز بدقة المواعيد واحترام الوقت كقيمة اقتصادية أساسية.

خامسها، مقاومة التغيير والجمود الفكري، حيث يعاني مجتمعنا من مقاومة شديدة للتغيير والتطوير، حتى لو كان هذا التغيير في صالحه. فنجد مقاومة لتطوير المناهج التعليمية، ورفضا لاستخدام التكنولوجيا الحديثة في العمل، وتمسكا بأساليب قديمة أثبت الواقع عدم فعاليتها. هذا الجمود يحرم المجتمع من مواكبة التطورات العالمية ويجعله يتأخر عن ركب التقدم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" (مسلم)، مما يعني ضرورة التطوير والاجتهاد المستمر.

بناء ثقافة العمل والإنتاج

إذا كان التحدي يكمن في تغيير المفاهيم السلبية، فإن الحل يبدأ ببناء ثقافة إيجابية جديدة تجعل من العمل والإنتاج قيما محورية في حياة المجتمع المصري.

إن أول ما يجب ترسيخه في وعي المجتمع هو أن العمل في الإسلام ليس مجرد وسيلة لكسب الرزق، بل عبادة ورسالة. فحين يؤمن المسلم أن عمله جزء من عبادته لله، ينتقل من مجرد موظف يؤدي واجبا إلى عابد يتقرب إلى ربه بإتقان عمله.

يقول الله تعالى: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور" (الملك: 15)، فجعل السعي في الأرض والعمل من أجل الرزق أمرا إلهيا مباشرا. والنبي صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا المعنى بقوله: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة" (مسلم).

ولا يكفي أن نعمل، بل يجب أن نتقن ما نعمل. والإتقان في الإسلام ليس مجرد "قيمة مضافة" أو "ميزة تنافسية"، بل فريضة دينية صريحة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" (الطبراني)، وهذا الحديث يجعل الإتقان معيارا لحب الله للعبد، وحين ترسخ هذه القيمة في وعي المجتمع، لن نحتاج لأنظمة رقابة معقدة أو عقوبات صارمة لضمان الجودة، لأن كل عامل سيصبح رقيبا على نفسه، يسعى للإتقان ليس خوفا من المدير، بل حبا في الله وطلبا لرضاه.

كما إن إدراك قيمة الوقت في الإسلام يتجاوز المفهوم الاقتصادي السطحي "الوقت من ذهب" إلى مفهوم أعمق وأشمل الوقت كأمانة إلهية سيُسأل عنها الإنسان يوم القيامة. فحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه.." (الطبراني)، فإنه يضع الوقت في مقدمة ما سيحاسب عليه الإنسان.

حين ننظر إلى التاريخ الإسلامي، نجد أن الابتكار لم يكن مجرد نشاط اقتصادي، بل جزء من الرسالة الحضارية للأمة. فالمسلمون الأوائل لم يكتفوا بتطبيق ما تعلموه من الحضارات السابقة، بل طوروه وأضافوا إليه وأبدعوا فيه

هذا المفهوم العميق للوقت كأمانة يخلق وعيا مختلفا تماما عن النظرة المادية البحتة. فالمسلم لا يحترم الوقت فقط لأنه يحقق له مكاسب مادية، بل لأنه مؤتمن عليه من الله، ومسؤول عن حسن استغلاله.

كما إن الإسلام دين التجديد والاجتهاد، وليس دين الجمود والتقليد. هذا المبدأ يشجع العمال والموظفين على عدم الاكتفاء بأداء المهام الروتينية، بل السعي المستمر لتطوير أساليب العمل وإيجاد حلول أفضل للمشاكل القائمة.

كما إن الإسلام لا يفصل بين الدنيا والآخرة، بل يجعل كلا منهما مكملا للآخر. فالعمل الصالح في الدنيا يؤجر عليه المسلم في الآخرة، والسعي للرزق الحلال عبادة يتقرب بها إلى الله. هذه النظرة التكاملية تخلق دافعية عميقة للعمل، لأن الإنسان لا يعمل فقط من أجل تلبية احتياجاته المادية، بل أيضا من أجل تحقيق رسالته في الحياة وكسب رضا الله.

غرس روح الابتكار والريادة

إن من أعظم التحديات التي تواجه المجتمع المصري اليوم هو تحويله من مجتمع يستهلك الأفكار إلى مجتمع ينتجها، ومن مجتمع يقلد الحلول إلى مجتمع يبدعها. وحين ننظر إلى التاريخ الإسلامي، نجد أن الابتكار لم يكن مجرد نشاط اقتصادي، بل جزء من الرسالة الحضارية للأمة. فالمسلمون الأوائل لم يكتفوا بتطبيق ما تعلموه من الحضارات السابقة، بل طوروه وأضافوا إليه وأبدعوا فيه. فابن الهيثم لم يكتف بدراسة البصريات اليونانية، بل أسس علم البصريات الحديث، والخوارزمي لم يكتف بالرياضيات الهندية، بل أبدع علم الجبر الذي لا يزال اسمه مرتبطا به حتى اليوم.

هذا الإبداع لم يكن صدفة، بل نتاج فلسفة إسلامية عميقة تؤمن بأن الإنسان مستخلف في الأرض ليعمرها ويطورها. يقول الله تعالى: "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" (هود: 61)، والاستعمار هنا يعني التطوير والتحسين المستمر، وليس مجرد الحفاظ على الوضع القائم.

إن من أهم ما تحتاجه ثقافة الريادة هو تغيير النظرة للفشل، ففي مجتمعنا الفشل عار يجب إخفاؤه، بينما في ثقافة الريادة، الفشل مدرسة يجب التعلم منها. والإسلام يقدم نموذجا متوازنا في هذا الشأن، فهو لا يحتقر من فشل في محاولة مشروعة، بل يكافئه على الاجتهاد حتى لو لم يصب الهدف.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (متفق عليه)، وهذا المبدأ ينطبق على كل مجالات الحياة. فالمجتهد يؤجر على اجتهاده حتى لو أخطأ، بشرط أن يكون اجتهاده مبنيا على علم ودراسة، والحاجة اليوم ليست فقط للابتكار التقني والاقتصادي، بل أيضا للابتكار الاجتماعي الذي يجد حلولا إبداعية للمشاكل المجتمعية.

استراتيجيات التحول الفكري والثقافي

إن تحويل الأفكار إلى واقع ملموس يتطلب استراتيجيات عملية محددة وقابلة للتنفيذ. وهنا نستلهم من المنهج الإسلامي في التغيير الذي حقق أعظم تحول ثقافي في التاريخ، حيث لم يكتف بتغيير الأفكار النظرية، بل حول المجتمع بأكمله في زمن قياسي، حيث يعلمنا القرآن مبدأ التدرج المدروس في التغيير: "وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا" (الإسراء: 106). فالتغيير الثقافي الحقيقي يحتاج لخطة مرحلية تبدأ بالأسهل والأهم، ثم تنتقل تدريجيا للأصعب والأعقد. هذا التدرج ليس ضعفا أو ترددا، بل حكمة تراعي طبيعة النفس البشرية وقدرتها على الاستيعاب والتكيف.

كما يتطلب الأمر تحويل الإعلام من مجرد أداة ترفيه إلى أداة تنمية حقيقية، بالتركيز على قصص النجاح الواقعية وإبراز قيم العمل والإنتاج والإبداع بدلا من ثقافة الاستهلاك والمظاهر الفارغة. فالإعلام الذي يحتفي بالمنتج أكثر من المستهلك، وبالمبدع أكثر من المقلد، قادر على تغيير توجهات جيل كامل.

ولا يمكن إغفال أهمية خلق منظومة حوافز مؤسسية في أماكن التعليم والعمل تكافئ السلوك المطلوب وتشجع عليه، مع وضع معايير واضحة للتقييم والترقية تعتمد على الكفاءة والإنجاز وليس على المحسوبية أو الأقدمية. فحين يرى الناس أن الإتقان والإبداع يُكافآن عمليا، سيتسابقون عليهما.

وإشراك المجتمع نفسه في صناعة التغيير من خلال المبادرات الشعبية والمشاريع التطوعية التي تطبق القيم الجديدة على أرض الواقع، يحول هذه القيم من نظريات مجردة إلى ممارسات يومية يلمسها الناس في حياتهم.

دور المؤسسات في التغيير الثقافي

إن تغيير ثقافة مجتمع بأكمله ليس مهمة تلقائية تحدث من تلقاء نفسها، بل تحتاج إلى تدخل مؤسسي منظم ومدروس. وهنا تكمن أهمية تحديد دور كل مؤسسة من مؤسسات المجتمع في عملية التحول الثقافي المنشود، بحيث تتكامل الجهود وتتضافر الطاقات لتحقيق الهدف المشترك.

فالأسرة هي المصنع الحقيقي للقيم والمفاهيم، وهي المؤسسة الأولى التي تشكل شخصية الإنسان وتوجه سلوكه. ولذلك فإن أي تغيير ثقافي حقيقي يجب أن يبدأ من الأسرة، فحين يتربى الطفل في بيت يقدر العمل ويحترم الوقت ويحب الإنتاج، فإنه ينشأ وهذه القيم متأصلة في شخصيته.

تأتي المدرسة في المرتبة الثانية بعد الأسرة في تشكيل شخصية الأجيال الجديدة. وهنا لا نتحدث فقط عن المناهج الدراسية، بل عن البيئة التعليمية الشاملة التي تتضمن سلوك المعلمين وطرق التدريس والأنشطة اللاصفية والثقافة العامة للمدرسة. المطلوب هو تحويل المدرسة من مجرد مكان لنقل المعلومات إلى بيئة متكاملة لبناء الشخصية وترسيخ القيم الإيجابية.

ثم يأتي دور المسجد، فهو ليس مجرد مكان للصلاة، بل هو مؤسسة تربوية وثقافية شاملة. فالمسجد النبوي كان جامعة ومركز قرار ومحكمة ومستشفى في آن واحد. والمطلوب استعادة هذا الدور الحضاري للمسجد في توجيه المجتمع وتربيته على القيم الصحيحة.

ويلعب الإعلام دورا محوريا في تشكيل الوعي الجماعي وتوجيه الرأي العام لا يخفى على أحد.

إن مؤسسات العمل -سواء كانت حكومية أو خاصة- هي البيئة الحقيقية لتطبيق القيم والمفاهيم التي تم غرسها في البيت والمدرسة والمسجد. وهنا يأتي دور القيادات الإدارية في خلق بيئة عمل تشجع على الإبداع والإتقان والمبادرة.

فالمدير الذي يكافئ الموظف المبدع ويحتفي بالإنجاز ويشجع على التطوير، يساهم في ترسيخ ثقافة العمل الإيجابية، والمؤسسة التي تضع معايير واضحة للأداء وتكافئ عليها، تخلق بيئة تنافسية صحية تدفع الجميع للتميز.

وتلعب منظمات المجتمع المدني دورا مهما في تعميق الوعي المجتمعي وتنظيم الجهود الشعبية. فالجمعيات الخيرية والنقابات المهنية والنوادي الثقافية والرياضية؛ كلها يمكن أن تكون منصات لنشر القيم الإيجابية وتدريب الشباب على المهارات المطلوبة.

بينما نسعى لترسيخ قيم العمل والإنتاج والإتقان، تواجهنا ثقافة عالمية تروج للاستهلاك السريع والإشباع الفوري عبر وسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية والمحتوى الترفيهي المدمر للقيم. والتحدي ليس في التكنولوجيا ذاتها -فهي أداة محايدة- بل في كيفية توجيهها لخدمة مشروعنا الحضاري

تحديات ومقاومة التحول الثقافي

إن طريق التحول الثقافي محفوف بتحديات متعددة المستويات تتطلب وعيا عميقا وحكمة بالغة في التعامل معها. فعلى المستوى الهيكلي يواجهنا التحدي الزمني الأكبر، حيث إن تغيير ثقافة مجتمع بأكمله يحتاج لعقود وليس سنوات، مما يتطلب صبرا استراتيجيا وإرادة سياسية مستمرة عبر أجيال متعاقبة من القيادات. كما تقف شبكات المصالح الراسخة التي تستفيد من النظام القديم عائقا حقيقيا أمام أي محاولة للإصلاح الجذري، إضافة للتحدي المالي الضخم الذي يتطلب استثمارات هائلة في التعليم والإعلام والتدريب في ظل ضغوط اقتصادية متعددة، وصعوبة التنسيق بين مؤسسات مختلفة لكل منها ثقافتها وأولوياتها الخاصة.

لكن أعظم هذه التحديات وأخطرها هو التدفق الجارف للثقافة العالمية عبر منصات التكنولوجيا الحديثة. فبينما نسعى لترسيخ قيم العمل والإنتاج والإتقان، تواجهنا ثقافة عالمية تروج للاستهلاك السريع والإشباع الفوري عبر وسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية والمحتوى الترفيهي المدمر للقيم. والتحدي ليس في التكنولوجيا ذاتها -فهي أداة محايدة- بل في كيفية توجيهها لخدمة مشروعنا الحضاري.

وعلى المستوى النفسي والاجتماعي، ستواجه محاولات التغيير مقاومة طبيعية من شرائح مختلفة في المجتمع. فالإنسان بطبعه يميل للاستقرار، والتغيير يخلق قلقا وعدم يقين، كما يصف القرآن: "بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون" (الزخرف: 22). هذه المقاومة قد تأتي من الرفض المباشر، أو التجاهل والتسويف، أو المقاومة السلبية، سواء من النخب المستفيدة من النظام القديم أو من الطبقات الشعبية الخائفة من المجهول.

إن الحل الإسلامي المتكامل لا يكمن في مقاطعة التكنولوجيا، بل في المواجهة الحكيمة لها. فكما استطاع المسلمون الأوائل الاستفادة من علوم الحضارات السابقة دون فقدان هويتهم، يمكننا استثمار التكنولوجيا لنشر قيمنا، بل يجب أن يكون لنا دور في إنتاج هذه التكنولوجيا، ويستطيع شبابنا ذلك بلا ريب، وكما يعلمنا القرآن: "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" (الزمر: 18). فالمطلوب انتقاء الأحسن وتوظيفه لخدمة مقاصدنا. أما المقاومة، فتُدار بالصبر والحوار والإقناع التدريجي، وإشراك المقاومين في التخطيط، والبدء بالشرائح الأكثر استعدادا لتصبح نماذج مقنعة. وتذكر أن المقاومة -إذا فُهمت صحيحا- تكشف نقاط الضعف وتختبر قوة الفكرة. وهذه التحديات مجتمعة ليست مستحيلة إذا واجهناها بنفس الإيمان والعزيمة التي حولت الصحراء العربية إلى منارة للحضارة الإنسانية.

وختاما، فإن مصر التي أنجبت حضارة الفراعنة وعلماء الأزهر، والتي أضاءت العالم بنور الإسلام لقرون طويلة، قادرة على استعادة مجدها الاقتصادي إذا استعادت روحها الحضارية أولا. فالتحول من مجتمع مستهلك إلى مجتمع منتج، ومن أمة منتظرة إلى أمة مبادرة، ليس حلما بعيد المنال، بل رحلة تبدأ بخطوة واحدة: تغيير ما بأنفسنا ليغير الله ما بنا.
التعليقات (0)

خبر عاجل