6- الحوكمة الرشيدة
والتنافسية الاقتصادية
عندما
نتأمل خريطة الاقتصادات العشرة الأولى في العالم اليوم نكتشف حقيقة مذهلة، جميعها تتشارك
في قاسم مشترك واحد وهو الحوكمة الرشيدة، سنغافورة الصغيرة تتفوق على دول عملاقة، وماليزيا
حققت نهضة اقتصادية ملهمة، وكوريا الجنوبية تحولت من دولة محطمة إلى قوة تكنولوجية
عالمية. السر في كل هذه النجاحات؟ إدارة حكيمة ومساءلة صارمة وشفافية مطلقة.
أما
مصر، هذا الوطن العريق الذي علّم العالم الحضارة، فتمتلك كل المقومات الموقع الاستراتيجي
الفريد الذي يتوسط ثلاث قارات، والثروة البشرية الهائلة التي تتجاوز المئة مليون نسمة،
والتراث الحضاري الذي لا يُضاهى، والموارد الطبيعية المتنوعة. لكن المفتاح الذي طالما
بحثنا عنه يكمن في كلمة واحدة: الحوكمة.
ولدينا
في تراثنا الإسلامي منظومة حوكمة متكاملة علمتها الإنسانية منذ أربعة عشر قرنا. يقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" (متفق عليه).
هذا المبدأ النبوي يرسي أعظم أسس الحوكمة المسؤولية والمساءلة.
الفرصة الذهبية أمام مصر اليوم هي أن تستلهم من هذا التراث العريق لتبني نموذجا حديثا يجمع بين أصالة القيم الإسلامية وحداثة أساليب الإدارة، فتصبح ميزة تنافسية فريدة في رحلتها نحو العشرة الكبار
من
هذا المنطلق، بنى الخلفاء الراشدون نموذجا إداريا فريدا جعل دولة الإسلام أقوى اقتصاد
في العالم آنذاك. عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: "لو عثرت بغلة في العراق
لخشيت أن يسألني الله عنها: لِمَ لَمْ تُمهد لها الطريق يا عمر؟".
إن
الفرصة الذهبية أمام مصر اليوم هي أن تستلهم من هذا التراث العريق لتبني نموذجا حديثا
يجمع بين أصالة القيم الإسلامية وحداثة أساليب الإدارة، فتصبح ميزة تنافسية فريدة في
رحلتها نحو العشرة الكبار.
في
هذا المقال، سنكتشف كيف يمكن للحوكمة الرشيدة أن تكون البوابة الذهبية لنهضة مصر الاقتصادية.
مبادئ
الحوكمة الإسلامية وتعزيز مكانة مصر الاقتصادية
1- كيف تُتخذ القرارات؟ الشورى والعدالة كأساس للتفوق
الشورى
تعني إشراك المتخصصين والمتأثرين في صنع القرارات المهمة، والعدالة تعني أن تراعي هذه
القرارات مصالح جميع فئات المجتمع دون تحيز.
القرارات
الاقتصادية الكبرى لا يجب أن تُتخذ في أبراج عاجية معزولة عن الواقع، النجاح الحقيقي
لأي سياسة اقتصادية يكمن في قبولها ومشاركة المجتمع في صنعها. هنا يبرز مبدأ الشورى
كميزة تنافسية فريدة للحوكمة الإسلامية.
الشورى
ليست مجرد استشارة شكلية، بل منهج متكامل يضمن أن تعكس السياسات الاقتصادية احتياجات
جميع فئات المجتمع. عندما يشارك رجل الأعمال والعامل والمزارع في وضع الاستراتيجية
الاقتصادية، تصبح هذه الاستراتيجية أكثر واقعية وقابلية للتطبيق، "وَأَمْرُهُمْ
شُورَىٰ بَيْنَهُمْ" (الشورى: 38)، هذا المبدأ القرآني يضع الأساس لحوكمة تشاركية
حقيقية.
والعدالة
في اتخاذ القرارات تعني ألا تُحابي السياسة فئة على حساب أخرى، وأن تحقق التوازن بين
مصالح جميع شرائح المجتمع. هذا التوازن يخلق استقرارا اجتماعيا ضروريا لأي نهضة اقتصادية
مستدامة.
والمستثمر
العالمي اليوم لا يبحث فقط عن العائد المالي، بل عن الاستقرار والثقة في النظام. عندما
تطبق مصر مبدأ الشورى في وضع سياساتها الاقتصادية، فإنها ترسل رسالة واضحة للعالم:
هنا قرارات مدروسة ومقبولة شعبيا. الشورى تضمن أن السياسات الاقتصادية لن تتغير بشكل
مفاجئ مع تغير الحكومات، لأنها نابعة من توافق مجتمعي واسع، والعدالة في توزيع الفرص
الاقتصادية تخلق سوقا داخليا قويا ومتوازنا يجذب الشركات العالمية.
2- كيف تُمارس السلطة؟ الأمانة كضمان للاستثمار
الأمانة
تعني أن المسؤول يتعامل مع منصبه ومع الموارد العامة كأنها وديعة في عنقه، مطالب بحفظها
وتنميتها لصالح الجميع وليس لمصلحته الشخصية.
السلطة
في النظام الإسلامي ليست امتيازا شخصيا، بل مسؤولية جماعية. المسؤول مستأمن على موارد
الأمة، وعليه أن يديرها بأفضل طريقة ممكنة لتحقيق المصلحة العامة.
هذا
المفهوم للأمانة يخلق بيئة فريدة للحوكمة، فالمسؤول الذي يدرك أنه محاسب أمام الله
قبل أن يكون محاسبا أمام القانون، سيتعامل مع منصبه بحرص شديد. "إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا" (النساء: 58)، هذا
التوجيه الإلهي يحول إدارة الموارد من مجرد وظيفة إلى رسالة مقدسة. هذه الثقافة الإدارية
تبني ثقة حقيقية بين الحكومة والمواطنين، وبين الإدارة المحلية والمستثمرين.
والثقة
هي أساس أي نمو اقتصادي مستدام. وفي
عالم الاقتصاد، الثقة هي العملة الأهم. عندما تترسخ ثقافة الأمانة في إدارة مصر، تصبح
الدولة أكثر جاذبية للشراكات الاستراتيجية والاستثمارات الكبيرة. الأمانة في إدارة
الموارد تعني أن الاتفاقيات الاقتصادية ستُحترم، وأن الالتزامات سيتم الوفاء بها، وأن
المعاملات ستكون عادلة وشفافة. هذا ما يجعل مصر شريكا موثوقا في المشاريع الإقليمية
والدولية الكبرى، ويقلل من تكاليف ممارسة الأعمال.
3- كيف تتم المساءلة؟ الراعي المسؤول
المساءلة
تعني أن كل مسؤول يمكن سؤاله عن قراراته وأعماله، وأنه ملزم بتقديم تفسير واضح لما
فعل ولماذا فعله، وأنه يتحمل عواقب أخطائه. والمساءلة في النظام الإسلامي شاملة ومتعددة
المستويات؛ المسؤول محاسب أمام ضميره أولا، ثم أمام الناس، ثم أمام القضاء. هذه المساءلة
المتدرجة تضمن رقابة حقيقية على الأداء.
وهذا
المبدأ النبوي "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"؛ يجعل كل مسؤول يشعر بثقل
المسؤولية، ليس فقط الوزير مسؤولا، بل كل موظف في موقعه، وكل مدير في إدارته، وكل مسؤول
في مؤسسته. هذه الثقافة تخلق نظاما ذاتي التصحيح، حيث تقل فرص
الفساد والإهمال، وترتفع
معايير الأداء تلقائيا.
والنظم
الاقتصادية التي تفتقر للمساءلة تعاني من ضعف الأداء وانتشار الفساد. والمساءلة تدفع
كل مسئول لبذل أقصى جهد لتحقيق النتائج المطلوبة. هذا الأداء الحكومي المتميز ينعكس
إيجابيا على بيئة الاستثمار ويقلل من المخاطر السياسية والإدارية.
4- كيف تُضمن الشفافية؟ الوضوح كطريق للثقة
الشفافية
تعني أن تكون القرارات والسياسات والمعلومات الحكومية واضحة ومفهومة ومتاحة للجمهور،
بحيث يعرف كل مواطن ماذا تفعل حكومته ولماذا. والشفافية في الحوكمة الإسلامية ليست
مجرد إجراء إداري، بل قيمة أخلاقية راسخة. الصدق والوضوح في التعامل مع الشأن العام
واجب ديني قبل أن يكون التزاما قانونيا. هذا يعني أن السياسات الاقتصادية يجب أن تكون
واضحة ومبررة، وأن المعلومات المتعلقة بالموارد العامة متاحة للجمهور، وأن القرارات
الحكومية مفهومة ومبررة بطريقة واضحة.
الشفافية
تبني الثقة، والثقة تجذب الاستثمار، والاستثمار يحقق النمو. هكذا تصبح القيم الأخلاقية
محركا اقتصاديا حقيقيا.
الشفافية تحول مصر من دولة "غامضة" اقتصاديا إلى دولة "مقروءة" يستطيع المستثمرون والشركاء الدوليون فهم توجهاتها والتنبؤ بمستقبلها الاقتصادي. عندما تكون السياسات الاقتصادية واضحة ومعلنة، يستطيع المستثمرون اتخاذ قرارات مدروسة بناء على معلومات دقيقة
الشفافية
تحول مصر من دولة "غامضة" اقتصاديا إلى دولة "مقروءة" يستطيع المستثمرون
والشركاء الدوليون فهم توجهاتها والتنبؤ بمستقبلها الاقتصادي. عندما تكون السياسات
الاقتصادية واضحة ومعلنة، يستطيع المستثمرون اتخاذ قرارات مدروسة بناء على معلومات
دقيقة. الشفافية أيضا تحسن ترتيب مصر في المؤشرات الدولية لمكافحة الفساد وسهولة ممارسة
الأعمال، وهذه المؤشرات تؤثر بشكل مباشر على قرارات الاستثمار العالمية.
وعندما
تجتمع هذه المبادئ الأربعة في نموذج متكامل، تصبح مصر ليس فقط وجهة استثمارية جاذبة،
بل نموذجا يُحتذى به في المنطقة والعالم. إن تطبيق هذه المبادئ ليس مجرد إصلاح إداري،
بل استراتيجية شاملة لإعادة تموضع مصر على الخريطة الاقتصادية العالمية كقوة اقتصادية
مؤثرة ونموذج حضاري معاصر يحولها من متبع للنماذج الغربية إلى رائد لنموذج أصيل ومعاصر
في آن واحد.
نماذج
عالمية: درسان مختصران للنهضة
سنغافورة:
الحوكمة تصنع المعجزة
في
صباح آب/ أغسطس 1965، وقف لي كوان يو أمام مؤتمر صحفي وهو يكافح الدموع. قبل ساعات
قليلة، طُردت سنغافورة من الاتحاد الماليزي لتصبح دولة مستقلة بلا إرادتها. جزيرة صغيرة
بحجم القاهرة، بلا نفط ولا ذهب، ومليونا نسمة من خلفيات متنوعة ويتحدثون تتحدث لغات
مختلفة.
قال
لي كوان يو في ذلك اليوم: "لن نعتمد على الموارد الطبيعية، بل على شيء أثمن..
العقول النظيفة والإدارة الرشيدة". وضع قوانين صارمة ضد الفساد، حتى أنه حكم على
وزير من حكومته بالسجن بسبب هدية بسيطة، جعل كل قرار حكومي شفافا ومبررا، ولم يتسامح
مع أي إهمال في الأداء.
اليوم
بعد ستة عقود تحتل سنغافورة المرتبة الرابعة عالميا كمركز مالي، ونصيب الفرد من الدخل
فيها يفوق معظم الدول الأوروبية. الحوكمة الرشيدة حولت مأساة الطرد إلى معجزة اقتصادية.
ماليزيا:
عندما تصبح الهوية قوة
مطلع
الثمانينيات واجه مهاتير محمد تحديا مزدوجا: كيف يبني اقتصادا متقدما في دولة تعتمد
على المطاط وزيت النخيل، دون أن يفقد هويتها الإسلامية؟ كان الكثيرون يظنون أن الأمر
مستحيل.
اختار
مهاتير طريقا مختلفا، فبدلا من تقليد النماذج الغربية استلهم من التراث الإسلامي، طبق مبدأ الشورى فأشرك
جميع فئات المجتمع في وضع الخطط الاقتصادية، من رجال الأعمال الصينيين إلى المزارعين
الملايو، جعل العدالة أساس توزيع مشاريع التنمية بين الولايات المختلفة، وحارب الفساد
باعتباره خيانة للأمانة.
النتيجة
كانت مذهلة، تحولت ماليزيا من دولة زراعية إلى نمر آسيوي، مع نمو اقتصادي مستدام واستقرار
اجتماعي نادر في منطقة مضطربة. أثبت مهاتير أن الهوية الإسلامية يمكن أن تكون محركا
للتقدم، لا عائقا أمامه.
خارطة
طريق الحوكمة المصرية 2040
المرحلة
الأولى: كسر الحاجز النفسي
تخيل
مواطنا يقف أمام مكتب حكومي في يده ورقة وفي قلبه قلق؛ هل سأنتظر ساعات أم أحتاج واسطة؟
هذا المشهد اليومي يلخص التحدي الأكبر الذي تواجهه مصر. التحدي الحقيقي ليس تقنيا بل
نفسي. كيف نقنع مجتمعا اعتاد على الواسطة بأن النزاهة أكثر فعالية؟ وكيف نحول موظفا
حكوميا من صاحب معروف إلى مؤدي خدمة؟
الحل
يكمن في تغيير المعادلة الأساسية، نجعل النزاهة أسهل وأكثر مكافأة من الفساد. عندما
يكتشف ذلك المواطن أن الخدمة الرقمية تنجز معاملته في دقائق بدلا من ساعات، وعندما
يرى الموظف النزيه أنه يحصل على تقدير وترقية أكثر من الفاسد؛ سيتغير السلوك تلقائيا.
المطلوب ليس قوانين جديدة فقط، بل ثورة ثقافية سلوكية تجعل الأمانة
والشفافية قيما عملية وليس مجرد شعارات.
المرحلة
الثانية: من التطبيق إلى التطبع
بعد
كسر الحاجز النفسي تأتي مرحلة أصعب، تحويل السلوك الجديد إلى عادة راسخة. تخيل مدير
إدارة نشأ في النظام القديم، تعود على أن الأمور تتم بالمجاملات ثم جاء نظام جديد يطالبه
بالشفافية المطلقة؛ في البداية سيقاوم لكن بعد سنوات سيكتشف أن الطريقة الجديدة أريح
للضمير وأكثر كفاءة.
هنا
نحتاج لجيل جديد من القيادات نشأ في بيئة الحوكمة الرشيدة، لا يعرف طريقة أخرى للعمل.
شاب في الخامسة والعشرين اليوم سيكون في الأربعين بحلول 2040، إذا تربى على مبادئ الشورى
والأمانة، سيقود مصر بطريقة مختلفة تماما.
التحدي
الأكبر كيف نضمن استمرارية التطبيق رغم تغير الحكومات؟ الحل في تجذير مبادئ الحوكمة
في الوعي المجتمعي، بحيث يصبح
أي انحراف عنها مرفوضا شعبيا قبل أن يكون مرفوضا قانونيا. وتظهر قوة المبادئ الإسلامية
عندما تصبح الأمانة والشفافية واجبا دينيا في الوعي الجمعي،
تقاوم التغيير أكثر من أي قانون.
المرحلة
الثالثة: ترسيخ الاستدامة الحضارية
تصور
مصر في عام 2040: موظف حكومي لا يفكر حتى في إمكانية أخذ رشوة، لأن ذلك أصبح خارج نطاق
تفكيره تماما، مسؤول لا يتخذ قرارا مهما دون استشارة المتخصصين، لأن مبدأ الشورى أصبح طبيعة ثانية لديه.
هذه
هي المرحلة الأعمق؛ تحويل الحوكمة الرشيدة من نظام إداري إلى طبيعة حضارية. لا نريد نموذجا
يعتمد على أشخاص أو ظروف، بل منظومة تتجدد ذاتيا وتطور نفسها باستمرار.
في
الدنمارك عندما زار وفد دولي كوبنهاجن، سأل أحدهم عن سر انخفاض معدلات الفساد، أجاب
المرشد: لا أحد هنا يفكر في الفساد، ليس خوفا من القانون، بل لأنه أصبح غير مفهوم ثقافيا.
وساعتها
ستتحول مصر من دولة تطبق مبادئ الحوكمة إلى حضارة تتنفس الحوكمة. الشفافية
تصبح سجية، والمساءلة تصبح غريزة، والأمانة تصبح طبعا لا يحتاج لتفكير.
خارطة
الطريق هذه لا تهدف فقط لتحسين الأداء الحكومي، بل لإعادة تعريف الحضارة المصرية في القرن الحادي
والعشرين. مصر التي علّمت العالم العدالة منذ آلاف السنين، والتي أشرقت منها رسالة
الإسلام بمبادئ الشورى والأمانة، تعيد اكتشاف دورها كمعلم للحكمة في عصر العولمة.
تخيل
عالما يأتي لمصر ليدرس كيف نجحت في دمج القيم الإسلامية مع الحوكمة الحديثة.. هذا ليس
حلما بل مستقبل ممكن إذا أخذنا قرار البداية.
التحديات
والفرص
1- مقاومة التغيير من الداخل
في
إحدى الوزارات المصرية، عُقد اجتماع لمناقشة تطبيق نظام رقمي جديد يقضي على الروتين.
ارتفع صوت أحد المديرين: هذا النظام سيقضي على وظائف آلاف الموظفين! كان محقا جزئيا،
لكنه لم يذكر أن النظام القديم كان يقضي على آمال ملايين المواطنين في خدمة كريمة.
هذا
هو التحدي الأكبر؛ مقاومة التغيير من الداخل. كل نظام فاسد
يخلق مستفيدين منه، وهؤلاء لن يتخلوا عن امتيازاتهم بسهولة. المشكلة ليست فقط في الفاسدين
الكبار، بل في منظومة كاملة من المصالح الصغيرة المتشابكة.
والحل العملي لا أن
نحارب النظام القديم مباشرة، بل نبني البديل الأفضل بجانبه. يقول علي بن أبي طالب:
"إن الناس قد بَنوا أكواخا من عقائدهِم فلا تهدموها عليهم، لكن ابنوا لهم قصورا؛
فإن دخلوها هدموا أكواخهم بأيديهم".
عندما
يكتشف الموظف أن النظام الجديد يجعل عمله أسهل ويحسن صورته أمام المجتمع، سيتبناه طوعا.
والأهم ربط التغيير بالهوية بالواجب الديني، فيعلم الجميع أن تطبيق الشفافية عبادة،
والأمانة في العمل جهاد.
2-
ضغط الحاجة الاقتصادية
في
إحدى القرى المصرية، يعمل موظف بمرتب 3000 جنيه، لديه ثلاثة أطفال ووالدة مريضة، عندما
يأتيه مواطن بهدية 500 جنيه مقابل تسريع معاملة، يواجه صراعا حقيقيا بين ضميره وحاجة
أسرته.
هذا
التحدي الإنساني يتطلب حلولا إنسانية، وليس فقط قوانين صارمة، مواجهة التحدي برفع المرتبات
الحكومية بشكل تدريجي ومدروس، مع ربطها بمعايير الأداء والنزاهة، وتطوير خدمات اجتماعية
تغطي الاحتياجات الأساسية.
3- إرث البيروقراطية المتراكم
نظام
حكومي تشكل عبر عقود من التعقيد والروتين، لا يمكن تغييره بقرار إداري واحد. القوانين
متضاربة والإجراءات مكررة، والمسؤوليات غير واضحة، كأننا نحاول إصلاح سيارة قديمة بينما
هي تسير على الطريق.
وتيتم
مواجهة التحدي بتطبيق مبدأ الهدم المحكم والبناء التدريجي. نبدأ بالخدمات الأكثر تأثيرا
على المواطنين، ونحولها بالكامل للنظام الرقمي الجديد. كل خدمة نحولها تصبح نافذة للمستقبل
تُظهر للناس شكل الحكومة الجديدة. ومفتاح ذلك ألا نحاول إصلاح النظام القديم، بل نبني
نظاما جديدا بجانبه، ونترك القديم يموت موتا طبيعيا عندما يهجره الناس لصالح البديل
الأفضل.
4-
الشك المجتمعي المتراكم
كل
الحكومات تقول نفس الكلام، وفي النهاية لا شيء يتغير. هذه الجملة تسمعها من معظم المصريين،
عقود من الوعود غير المنجزة خلقت حاجزا من الشك يصعب اختراقه.
ويواجَه
هذا التحدي بـانتصارات سريعة ومرئية. نختار خدمات بسيطة لكنها تمس حياة الناس اليومية،
ونحسنها بشكل جذري وسريع. رخصة القيادة تصدر في يوم واحد بدلا من أسبوع، شهادة الميلاد
تُستخرج إلكترونيا في دقائق. هذه الانتصارات الصغيرة تكسر حاجز الشك تدريجيا.
إما أن تستثمر مبادئ الحوكمة الإسلامية لتصبح قوة اقتصادية ضمن العشرة الكبار، وإما أن تظل تراوح في المكان بينما ينطلق الآخرون نحو المستقبل. المقومات متوفرة والطريق واضح والنماذج العالمية تؤكد إمكانية النجاح، لكن النجاح يحتاج لقرار جماعي صادق بأن نطبق ما نؤمن به
5- التوازن بين السرعة والجودة
الضغط
الشعبي يطالب بتغيير سريع، لكن التغيير المتسرع قد يخلق مشاكل أكبر من التي نحاول حلها.
كيف نوازن بين الرغبة في رؤية نتائج سريعة وضرورة البناء على أسس صلبة؟
نطبق
مبدأ الموجات المتتالية. نبدأ بمشاريع محدودة وواضحة النتائج، وعندما تنجح نتوسع تدريجيا.
كل موجة نجاح تعطينا الثقة والخبرة اللازمة للموجة التالية. الهدف ليس السرعة القصوى،
بل السرعة المستدامة.
وهذا
إضافة إلى تحديات من الخارج متمثلة في ضغوط
دولية وأزمات إقليمية وتنافس جيوسياسي، وأخرى تقنية ومالية، وبنية تحتية ضعيفة وموارد
محدودة ونقص في الخبرات، وتحديات تنظيمية
واجتماعية، وتضارب المؤسسات، والاقتصاد غير الرسمي، والفجوة
الرقمية.
لكن
التحدي الحقيقي ليس في كثرة هذه المعوقات، بل في تداخلها وتأثيرها المتبادل. فالضغوط
الخارجية تغذي المقاومة الداخلية، ومحدودية الموارد تبرر البيروقراطية، والشك المجتمعي
يعيق التطوير التقني.
المطلوب ليس حل كل المشاكل مرة واحدة، بل بناء منظومة قادرة على التعامل معها تدريجيا وبحكمة.
لكن
الصورة لها وجه آخر مشرق، التوقيت العالمي مناسب: العالم يبحث عن بدائل أخلاقية للنماذج
الاقتصادية التقليدية، والتمويل الإسلامي ينمو بسرعة، والحوكمة المسؤولة أصبحت أولوية
عالمية. التكنولوجيا متاحة، فالثورة الرقمية جعلت أدوات الحوكمة الحديثة في متناول الجميع، والذكاء الاصطناعي يمكن
أن يحل مشاكل البيروقراطية بطرق مبتكرة. الشباب المصري متحمس، جيل جديد متعلم ومتصل رقميا يرفض الفساد ويطالب بالتغيير الحقيقي.
وفي
الختام، فإما أن تستثمر مبادئ الحوكمة الإسلامية لتصبح قوة اقتصادية ضمن العشرة الكبار،
وإما أن تظل تراوح في المكان بينما ينطلق الآخرون نحو المستقبل. المقومات متوفرة والطريق
واضح والنماذج العالمية تؤكد إمكانية النجاح، لكن النجاح يحتاج لقرار جماعي صادق بأن
نطبق ما نؤمن به.
الحوكمة الرشيدة ليست حلما، بل قرار.. والقرار في أيدينا.
مصادر
إثرائية
- تقرير التنمية الإسلامية السنوي 2024، البنك
الإسلامي للتنمية.
- مجمع الفقه الإسلامي الدولي، القرارات والتوصيات
الشرعية حول الحوكمة والإدارة الإسلامية.
- هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (AAOIFI)، معايير الحوكمة.