في خضم
عالم يضطرب بتصدعات
اقتصادية متوالية، من فك الارتباط التجاري إلى تقطع عرى سلاسل
التوريد العالمية، تبرز
مصر في مفترق طرق تاريخي. فبينما تتجاوز فاتورة تفكك هذه
السلاسل عالميا 3 تريليونات دولار، تسعى القاهرة بخطى حثيثة لتثبيت أقدامها كمركز
لوجستي وصناعي إقليمي، مستندة إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي وبنيتها التحتية
المتنامية. غير أن هذه الفرصة الذهبية لا تخلو من منغصات سياسية، داخلية وخارجية،
قد تحول دون اغتنامها الكامل، وتأتي "لعنة
غزة" في صدارة هذه المعوقات.
تفكك
سلاسل التوريد: الداء وتداعياته
تفسّخ
سلاسل التوريد العالمية ليس سوى تآكل تدريجي أو انهيار مفاجئ للشبكات المعقدة التي
تشكل شريان الحياة للاقتصاد العالمي، من إنتاج السلع إلى توزيعها عبر الحدود. هذا
التفتت، إن وقع، يهدد الكفاءة الاقتصادية والأمن التجاري. دوافعه متعددة الأوجه:
من التوترات الجيوسياسية المشتعلة، مرورا بالأزمات العالمية كالجوائح التي تضرب
العالم، وصولا إلى موجات الحمائية العاتية ومخاطر الأمن القومي المتصاعدة. أما
آثاره، فهي لا تقل خطورة وتتراوح بين ارتفاع التكاليف وتأخر الإنتاج وتفاقم
التضخم، بالإضافة إلى سحابة من عدم اليقين تلقي بظلالها على الأسواق. لمواجهة هذا
المد، تتجه الدول إلى استراتيجيات متنوعة: إعادة توطين الصناعات، وتنويع مصادر
الإمداد، وتعزيز التكتلات الإقليمية، والقفز نحو التحول الرقمي.
وتتوقع
تقارير صندوق النقد الدولي (نيسان/ أبريل 2025) أن تتزايد مخاطر التباطؤ الاقتصادي
العالمي مع تزايد التشرذم الجيواقتصادي واضطرابات التجارة.
كيفية
تحويل المحنة إلى منحة
تتمتع مصر
بمزايا استراتيجية جوهرية تمكنها من قلب طاولة الأزمة وتحويلها إلى فرصة حقيقية:
- بنية
تحتية واعدة: بموقعها الذي يصافح ثلاث قارات، تغدو مصر محورا لا غنى عنه للتجارة
العالمية. مشروعات مثل قناة السويس الجديدة والمحور اللوجستي في شرق بورسعيد، إذا
ما اكتملت وأُديرت بحكمة، لن تكون مجرد معالم إنشائية، بل قنوات جذب للاستثمارات
ومحفزا لحركة التجارة. تشير التوقعات إلى أن تحديث الموانئ والطرق، لو نُفّذ بشكل
علمي دقيق، سيحول مصر إلى "ميناء افتراضي" قادر على استيعاب 30 في المئة
من التجارة العابرة بين آسيا وأوروبا.
لكن
الرياح لا تأتي دائما بما تشتهي السفن؛ ففي الربع الأخير من 2024، تراجعت إيرادات
قناة السويس إلى 880.9 مليون دولار، من 2.4 مليار دولار في العام السابق، جراء
اضطرابات البحر الأحمر وتحويل السفن مسارها نحو رأس الرجاء الصالح. ردا على ذلك،
بادرت مصر بتقديم خصم 15 في المئة على رسوم العبور لسفن الحاويات الضخمة بدءا من أيار/
مايو 2025، في محاولة لاستعادة الحيوية التجارية وتعزيز ثقة الملاحة الدولية.
- صناعات
تحويلية بإمكانات كامنة: في زمن يعاني فيه كبار الصناعيين من شح المكونات، تملك
مصر فرصة لا تعوض لتعزيز صناعاتها الوسيطة وزيادة صادراتها غير البترولية. التحدي
الحقيقي يكمن في إحياء "التصنيع الدائري" عبر إعادة توظيف المناطق
الصناعية القديمة، كحلوان، لتغدو مراكز لإنتاج مكونات السيارات الكهربائية،
مستفيدة من اتفاقيات التبادل بالعملات المحلية مع الصين. وإن نجحت مصر في رفع
مساهمة القطاع الصناعي في ناتجها المحلي إلى 25 في المئة بحلول 2030، فسيكون ذلك
إيذانا بوضع قدمها على الخريطة الصناعية العالمية، خاصة بعد
نمو القطاع الصناعي
غير النفطي بنسبة 17.7 في المئة في الربع الثاني من السنة المالية 2024/2025،
مدفوعا بنشاط صناعي أجنبي (تركي وصيني) بدأ يتوغل في المناطق الصناعية المصرية.
- تعاون
إقليمي ذكي: في معترك الحروب التجارية، ينبغي لمصر أن تستغل ورقة التكتلات
الإقليمية ببراعة. تفعيل اتفاقية المنطقة الصناعية المشتركة مع السودان، ومشروع
المثلث الذهبي مع السعودية، هي بمثابة "شبكات أمان" تحمي من تقلبات
الأسواق العالمية. يمكن لمصر أن تحذو حذو نماذج ناجحة كقطار جاكرتا-باندونغ
السريع، عبر مشروع السكك الحديدية الرابط بين القاهرة وكيب تاون. لكن بعض الخبراء
يحذرون من أن الإفراط في الشراكات قد يضع مصر تحت عبء الديون.
- قفزة
تكنولوجية ضرورية: في عالم يرقمن سلاسل توريده بتقنيات كالبلوك تشين، تملك مصر -لو
توفر القرار السياسي- فرصة لتصبح "مختبرا رقميا" إقليميا. مشروع
المنظومة الجمركية الرقمية الموحدة (نافذة)، وإن كان يتقدم ببطء، إلا أن تعهد رئيس
مصلحة الجمارك الجديد بخفض زمن الإفراج الجمركي إلى يومين فقط بحلول نهاية 2025،
سيحدث نقلة نوعية، من 14 يوما في الماضي و48 ساعة المذكورة سابقا. هذا التحول
الرقمي، جنبا إلى جنب مع مشروع المستودعات الذكية في قناة السويس، قد يحول مصر إلى
مركز لتخزين البيانات اللوجستية، بقيمة سوقية متوقعة تصل إلى ملياري دولار بحلول
2026.
- سياسات
نقدية متأرجحة: في مشهد اقتصادي عالمي يكتوي بنار التضخم، نجح البنك المركزي
المصري مؤخرا في كبح جماحه. سجل التضخم السنوي 13.5 في المئة في نيسان/ أبريل
2025، ارتفاعا طفيفا من 13.1 في المئة في آذار/ مارس، وفقا للجهاز المركزي للتعبئة
العامة والإحصاء. وفي خطوة لافتة، خفض البنك المركزي أسعار الفائدة بمقدار 1.5 في
المئة لتصل إلى 24 في المئة في اجتماعه الأخير بتاريخ 22 أيار/ مايو 2025، بعد
سلسلة من التثبيت والزيادات، بهدف تحفيز الاستثمارات والنمو. لكن التحدي الأكبر
يظل في تحويل العملة المحلية إلى ملاذ آمن للمعاملات الإقليمية، على غرار
الرنمينبي (اليوان) الصيني.
يتوقع
صندوق النقد الدولي أن يبلغ متوسط التضخم في مصر حوالي 19.7 في المئة خلال السنة
المالية 2024/2025، قبل أن يتراجع إلى 12.5 في المئة في السنة المالية 2025/2026.
ومع ذلك، هذه السياسة النقدية لا تقف على قدمين راسختين، إذ اعتمدت على إيرادات
سيادية من بيع أراضٍ لمشروع رأس الحكمة وقروض دولية، ما يجعلها وقتية وغير مستدامة.
- رهان
الهيدروجين الأخضر: بدأت بعض الشركات المحلية والأجنبية في مصر تستثمر بجدية في
مجال الهيدروجين الأخضر، بمشاريع واستثمارات بقيمة 1.2 مليار دولار، مع خطط لإنتاج
هذا الوقود النظيف بكميات ضخمة، ليس فقط للاستهلاك المحلي بل للتصدير إلى أوروبا
وأسواق أخرى. على الحكومة المصرية أن تقدم حزمة حوافز استثمارية وضريبية جاذبة
للاعبين المحليين والدوليين إلى هذا السوق الصاعد.
عوائق
داخلية: حواجز على طريق مصر إلى العولمة
على الرغم
من الإمكانات الاقتصادية الزاخرة، فإن المشهد السياسي الداخلي في مصر يمثل عقبة
كأداء أمام اغتنام هذه الفرصة، وأبرز هذه العوائق هي:
- الفساد
المستشري: يفتت الثقة في مؤسسات الدولة، ويرفع كلفة ممارسة الأعمال، ويبعد
المستثمرين المحتملين.
- قمع
الحريات والاعتقالات السياسية: يخلق هذا المناخ من الخوف والريبة، ويقوض الثقة،
ويدفع الكفاءات ورؤوس الأموال للبحث عن آفاق أرحب.
- انسداد
الأفق السياسي وغياب الأمل: عندما يشعر الشباب ورجال الأعمال بأن مساحة المشاركة
السياسية الحقيقية منعدمة، تُقتل روح المبادرة والابتكار، مما يحرم مصر من أغلى
رأسمالها البشري.
على الرغم من الإمكانات الاقتصادية الزاخرة، فإن المشهد السياسي الداخلي في مصر يمثل عقبة كأداء أمام اغتنام هذه الفرصة
- "طوفان
الأقصى" وحصار غزة: لعنة التداعيات الإقليمية، فلهذه التطورات الإقليمية
تأثير مباشر على طموح مصر لتكون مركزا لوجستيا وتجاريا. الصراع يزيد من عدم
الاستقرار في المنطقة، مما ينفر المستثمرين الدوليين. والأخطر من ذلك، أن التعامل
"غير الأخلاقي" للنظام المصري مع حصار غزة، ومشاركته الضمنية أو الصريحة
في تضييق الخناق على القطاع، يزرع بذور الشك والريبة في نفوس دول الجوار والشركاء
الإقليميين. هذا "الغدر الواضح" قد يدفع هذه الدول إلى التخوف الشديد من
أي علاقة استراتيجية أو اقتصادية عميقة مع مصر، خشية أن يتم التلاعب بها أو
استخدامها كأداة في أي صراعات مستقبلية. هذا الشعور بانعدام الثقة سيضعف بشكل كبير
من قدرة مصر على بناء تحالفات إقليمية قوية والاستفادة من التعاون مع دول الجوار
في اغتنام الفرص الهائلة التي يوفرها تفكك سلاسل التوريد العالمية. يضاف إلى ذلك،
أن اضطرابات البحر الأحمر الناجمة عن حرب غزة قد أدت إلى انخفاض حاد في إيرادات
قناة السويس، مما يضرب أحد أهم شرايين الدخل الأجنبي لمصر.
خلاصة
القول: مصر بين نارين.. لعنة غزة تُلقي بظلالها
الأرقام
تتحدث عن إمكانات مصر الكامنة؛ باستهداف 21 قطاعا صناعيا في منطقة قناة السويس،
وتأسيس 7 مستودعات استراتيجية للسلع الأساسية، والاستثمار المتزايد في الهيدروجين
الأخضر، تسير مصر بثبات نحو تعزيز مكانتها، لكن النجاح الحقيقي لا يقتصر على
البنية التحتية وحدها. فكما حذرت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا
جورجيفا: "الثمن الباهظ للتفكك يجب أن يُدفَع بحكمة". فهل تستطيع مصر أن
تصوغ من تحديات العالم فرصة لـ"عصر مصري جديد"؟
الجواب
يكمن في قدرتها على تحويل الجغرافيا إلى استراتيجية جيوسياسية عميقة، والموارد إلى
رؤى استباقية، والتغلب على التحديات السياسية الداخلية، وعلى رأسها "لعنة
غزة"، وما تتركه من اهتزاز في الثقة الإقليمية، التي تهدد بتبديد هذه الفرصة
الثمينة.