قضايا وآراء

مراجعات صندوق النقد الدولي لمصر

أشرف دوابة
"كأن الحصول على القروض وتحمّل خدمة الديون ميزة، رغم أنها قيد مسلط على رقاب الدولة ومواطنيها"- جيتي
"كأن الحصول على القروض وتحمّل خدمة الديون ميزة، رغم أنها قيد مسلط على رقاب الدولة ومواطنيها"- جيتي
أرجأ صندوق النقد الدولي مدفوعاته لمصر فيما يتعلق بمرحلة التصديق الخامسة من برنامج الدعم الخاص بقرض الصندوق البالغ 8 مليارات دولار، وذلك بسبب التأخر في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي طلبها الصندوق، وهو ما يعني احتمال تجميد الدعم حتى نهاية العام.

ويرجع هذا القرض إلى آذار/ مارس 2024، حيث جاء من خلال توقيع برنامج تعزيز الصندوق لمصر بقيمة 8 مليارات دولار على مدى 46 شهرا، لمواجهة أزمة العملة الأجنبية والتضخم الذي وصل إلى 38 في المئة في أيلول/ سبتمبر 2023. وتم صرف نحو 3.5 مليارات دولار من هذا القرض، بناء على أربع مراجعات من البرنامج. ثم جاءت المراجعة الخامسة في شهر أيار/ مايو الماضي، وكان يُفترض أن تحصل مصر على دفعة جديدة تُقدّر بنحو 820 مليون دولار في منتصف 2025، بعد الانتهاء من تلك المراجعة، ولكن لم يُبد الصندوق رأيا، ثم أعلن منذ أيام أن المراجعتين الخامسة والسادسة ستتحدّان في مراجعة موحّدة خلال الخريف المقبل، لمنح مصر مزيدا من الوقت لإتمام الإصلاحات المطلوبة. ولم يذكر الصندوق حجم المبلغ المتوقع صرفه مع دمج المراجعتين، حيث سيتوقف ذلك بالطبع على تنفيذ اشتراطات الصندوق، كما أن هذا الإجراء يعني أنه من المتوقع تأخير صرف الحزمة القادمة بنحو 6 أشهر عن الموعد المتوقع سابقا.

برامج الصندوق المسماة بالإصلاح الاقتصادي هي برامج للإفساد الاقتصادي واستعباد الدول النامية بالمال، وجعلها تعيش في رحى الديون دون أفق معلوم للإصلاح أو الخروج من أزمتها

وقد بدت اشتراطات الصندوق مرارا من خلال سياسته العلنية والمعروفة، حيث طالب مصر بالتوسع في برنامج الخصخصة لا سيما ما يتعلق بشركات الجيش المسيطرة على الاقتصاد، أو بمعنى آخر تقليص السلطة الحاكمة سياسيا في سيطرتها على الاقتصاد وغلقها الباب أمام القطاع الخاص بما تملكه من امتيازات تحول دون منافسة عادلة مع القطاع الخاص، بل هي عامل من عوامل طرده وتصفية الشركات. كما طالب الصندوق باستكمال المسيرة برفع الدعم عن السلع الأساسية وفي مقدمتها ما يتعلق بأسعار الطاقة، وكذلك زيادة نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي، ورفع كفاءة تحصيلها لا سيما من خلال مراجعة الإعفاءات. كما طالب الصندوق أيضا بتعزيز الاحتياطي من العملة الصعبة.

ومما لا شك فيه أن برامج الصندوق المسماة بالإصلاح الاقتصادي هي برامج للإفساد الاقتصادي واستعباد الدول النامية بالمال، وجعلها تعيش في رحى الديون دون أفق معلوم للإصلاح أو الخروج من أزمتها، ومنذ لجأت مصر إلى الصندوق كانت الأصوات الناعقة تؤيد هذا التوجه باسم شهادة الثقة التي يمنحها الصندوق لمصر لتحصل على مزيد من القروض من السوق الدولية، وكأن الحصول على القروض وتحمّل خدمة الديون ميزة، رغم أنها قيد مسلط على رقاب الدولة ومواطنيها، ويصل بها في النهاية إلى ترقيع ديونها وفقد أصولها ومس أمنها القومي والاجتماعي والذهاب بسيادتها أدراج الرياح، وهذا هو عين الحال في مصر.

إننا نتفق مع طلب الصندوق بخصخصة شركات الجيش على أن يتم الاكتتاب فيها في الأساس لعموم الشعب المصري، فالجيش المصري جيش نظامي له مكانته، وتاريخه العسكري المشرف الذي ارتبط بحرب أكتوبر وقدرة هذا الجيش على حماية الأمن القومي المصري والعربي، وهذا يتطلب منه الاهتمام بجانب التصنيع العسكري من السلاح بصورة تحقق معادلة الردع في المنطقة التي تواجه تقلبات وتغيرات متلاحقة ومتسارعة. تترك الجيش مهامه الأساسية والتوجه إلى مزاولة الأنشطة الاقتصادية حتى انغمس في كل شيء؛ هو ضرر بالجيش نفسه الذي قوته من قوة مصر والعرب والمسلمين، ومنذ قرون عدة قال العالم المسلم أبو الفضل الدمشقي: الأمور ‏المركبة من المغالبة والاحتيال هي كتجارة السلطان التي تكون فيها الطروح والابتياع والبيع الذي لا يقدر أحد أن يزيد عليه في حال الشراء، ولا يمنع من تحكمه في البيع. وقد قال بعض الحكماء: إذا شارك السلطان الرعية في متاجرهم هلكوا، وإذا شاركوه في حمل السلاح هلك. كما جاء ابن خلدون بعده ليضع قاعدته المعروفة: التجارة من السلطان مضرة بالرعاية مفسدة للجباية منقصة للعمارة.

آن الأوان الآن في ظل مراجعات الصندوق لأن تراجع الدولة سياستها الاقتصادية، وتتوقف عن فتح الباب للمزيد من الديون، وتتجه إلى جدولة ديونها، والاعتماد على سواعد أبنائها، وإخراج الجيش من حلبة الاقتصاد، وتحفيز القطاع الخاص، وقبل كل هذا وذاك فتح باب الحرية السياسية

أما بالنسبة لاتجاه الدولة إلي خصخصة شركاتها فإن هذه الخصخصة لا بد أن تكون رشيدة، وتقتصر على خصخصة الإدارة للشركات الخاسرة، والبقاء على الشركات الناجحة، بل وتوسيع أعمالها وفق الطلب على منتجاتها. كما أن مطالبة الصندوق برفع الدعم وتحرير الأسعار لا سيما أسعار السلع الأساسية، هو طلب لا يستقيم ودور الدولة في حماية الرعية من مدارك الفقر، في عهد حالي ذابت فيه الطبقة المتوسطة وأصبح الشعب المصري رهين طبقة طافية ثرية تلعب بالأموال لعبا، وطبقة غارقة فقيرة تربط نهارها بليلها من أجل لقمة العيش التي أصبح الحصول عليها صعب المنال ويتطلب جهدا فاق الخيال.

إن الدولة مطالبة بترشيد الدعم ومنحه لمستحقيه، وليس الدعم سواء كان ماديا أو معنويا امتيازا ينال خيره أصحاب السلطان والثراء وينال فتاته عموم الناس. كما أنه كفى تحميلا للشعب مزيدا من الضرائب، والأولى من ذلك النظر في تعديل القوانين التي سنت لإعفاء فئات حصرا وهي لا تستحق الإعفاء. أما تعزيز الاحتياطي من النقد الأجنبي فليس من المنطق أن يكون مصدره بيع الأراضي والأصول، بل الأولى أن يكون هذا المصدر هو تعزيز الصادرات وترشيد الواردات.

لقد آن الأوان الآن في ظل مراجعات الصندوق لأن تراجع الدولة سياستها الاقتصادية، وتتوقف عن فتح الباب للمزيد من الديون، وتتجه إلى جدولة ديونها، والاعتماد على سواعد أبنائها، وإخراج الجيش من حلبة الاقتصاد، وتحفيز القطاع الخاص، وقبل كل هذا وذاك فتح باب الحرية السياسية، فوقتها ستكون الحرية الاقتصادية المنضبطة حاكما ينتعش معها الاقتصاد ولو بعد حين.

x.com/drdawaba
التعليقات (0)

خبر عاجل