منذ ما يقارب
العامين، لا تدور حرب على أعتاب الحدود
المصرية فحسب، بل هي اختبار قاسٍ للمبادئ، معركة
غير متكافئة بين إرادة الصمود في
غزة وبين غطرسة الكيان الصهيوني، المدعوم بلا خجل
من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وبلا حياء من بعض الأنظمة العربية
كالإمارات.
لقد بلغ هذا
التحالف الصهيوني الغربي مبلغا من الفوقية حاصر فيه أهلنا في غزة، جردّهم من كل مقومات
الحياة: طعام وماء ودواء وكساء، تاركا إياهم فريسة شمس الصيف الحارقة وبرد الشتاء القارس.
الأكثر إيلاما،
هو المشهد المخزي الذي يرى فيه كل مصري نظام السيسي شريكا في هذا
الحصار، يغلق معبر
رفح ويقطع شرايين الحياة عن غزة وأهلها المرابطين.
ولئن كان نظام
السيسي قد بلغ هذا الحد من المشاركة في هذا الحصار المُميت، فالسؤال الذي يفرض نفسه
بقوة هو: أين عقلاء الدولة المصرية؟ ألم يبقَ بينهم من يملك الشجاعة ليأخذ على يد هذا
النظام ويفتح المعبر لإغاثة أهلنا في غزة؟
إنها ليست مجرد دعوة دينية تمليها علينا عقيدتنا الإسلامية، ولا نداء عروبي يفرضه علينا وحدة اللغة، ولا حتى مجرد استغاثة إنسانية يمليها ضمير حي، إنها دعوة تمليها ضرورات الأمن القومي المصري، والذي تمثل فيه غزة ومقاومتها اليوم خط الدفاع الأول لمصر
إنها ليست
مجرد دعوة دينية تمليها علينا عقيدتنا الإسلامية، ولا نداء عروبي يفرضه علينا وحدة
اللغة، ولا حتى مجرد استغاثة إنسانية يمليها ضمير حي، إنها دعوة تمليها ضرورات الأمن
القومي المصري، والذي تمثل فيه غزة ومقاومتها اليوم خط الدفاع الأول لمصر في مواجهة
الكيان الصهيوني، عدوها الاستراتيجي الأول.
المقاومة الفلسطينية:
جيش مصر الميداني الأول
منذ أن عبرت
قواتنا الباسلة قناة السويس وحطمت أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر" في أكتوبر
1973، ترسخت حقيقة واحدة لا لبس فيها في الوجدان المصري: الكيان الصهيوني هو العدو
الاستراتيجي الأول لمصر. إن صون الأمن القومي ليس ترفا، بل هو يقظة دائمة، وإرادة صلبة،
وفهم عميق لطبيعة الصراع الوجودي معه.
اليوم، بينما
يتواصل العدوان الوحشي على قطاع غزة الذي تجاوز ضحاياه 59 ألف شهيد فلسطيني، وتتعثر
المفاوضات بوساطة مصرية تفتقر أحيانا للقوة، يبرز المشهد كتحدٍّ متعدد الأبعاد يتجاوز
الإطار الإقليمي، وتأتي تصريحات التمويل الأمريكي لسد النهضة الإثيوبي كتهديد مائي
إضافي يلقي بظلاله. كل هذا يؤكد أن اللحظة الراهنة تستدعي استلهام روح أكتوبر لإعادة
تقييم جذري لموقع المقاومة الفلسطينية، في معادلة الأمن القومي المصري الشامل، بعيدا
عن أي سجالات سياسية ضيقة أو حسابات آنية.
غزة.. الحصن
الاستراتيجي الشرقي لمصر
لا بد أن ترتكز
الرؤية المصرية على إدراك عميق للدور المحوري الذي يلعبه وجود قوة مقاومة منظمة في
غزة، وذلك من عدة محاور حاسمة:
المحور الأول:
منع التمدد الصهيوني وخلق منطقة عازلة:
إن زوال المقاومة سيخلق فراغا أمنيا خطيرا، أو ما هو أسوأ، سيؤدي إلى سيطرة صهيونية مباشرة
على القطاع. حينها ستجد القاهرة نفسها وجها لوجه مع قوات
الاحتلال على كامل حدودها
الشرقية، وفي مقدمتها حدودها البحرية الأكثر حساسية. إن وجود المقاومة يشكل جيش مصر
الميداني الأول؛ حاجزا يفرض على الكيان الصهيوني تكلفة باهظة لأي محاولة سيطرة كاملة
أو توغل. هذا الواقع يحول دون تحقيق هذا الكابوس الاستراتيجي الذي يتهدد مصر.
المحور الثاني:
الحفاظ على حيوية القضية الفلسطينية:
فلسطين ليست
مجرد قضية خارجية لمصر، بل هي جوهر سياستها الخارجية ومرتبطة ارتباطا وثيقا بهويتها
القومية. استمرار المقاومة يضمن بقاء القضية حية على الأجندة الدولية، ويمنع تصفيتها
عبر حلول أحادية الجانب، ويعزز بلا شك الدور القيادي لمصر على الصعيد الإقليمي.
المحور الثالث:
سدّ الطريق أمام التهجير القسري إلى سيناء:
يمثل الدفع
الجماعي للفلسطينيين نحو سيناء أحد أبرز المخاوف الوجودية لمصر. صمود المقاومة داخل
غزة يحمي سيناء من عبء ديموغرافي وأمني واقتصادي مدمر.
ثماني أدوات
للنفوذ المصري في إدارة المعادلة
يجب أن تمتلك
مصر ترسانة متعددة الأبعاد لإدارة هذه الأزمة المعقدة ودعم الصمود الفلسطيني، ومن أهم
هذه الأدوات:
1- قوة الردع
العسكري للجيش المصري:
يمثل الجيش
المصري القوة الحاسمة في هذه المعادلة. فبعد عامين من الحرب الصهيونية المدمرة مع غزة،
بالإضافة إلى الحرب الخاطفة مع إيران، أصبح الكيان الصهيوني منهكا عسكريا، واقتصاديا،
ومعنويا.
يُدرك الكيان
الصهيوني جيدا عدم قدرته على خوض حرب على جبهتين، أو حتى مواجهة محدودة مع الجيش المصري
في ظل هذه الظروف الراهنة. إن أي تصعيد مع مصر سيكون بمثابة ضربة قاضية للكيان الصهيوني،
مما يمنح القاهرة نفوذا غير مسبوق لفرض شروط تحمي أمنها القومي.
2- العمق الأمني
في سيناء:
على مصر استغلال
الانتهاك الصهيوني لاتفاقية السلام لتعزيز الوجود العسكري المصري على الحدود مع غزة
خصوصا، وفي سيناء عموما. هذا يعزز الموقف التفاوضي، ويحمي الأمن القومي من التداعيات
الخطيرة للأزمة، ويوفر -ضمن إطار مرن- إمكانيات "إدارة"
محدودة لتدفقات عبر الحدود لدعم صمود القطاع أو حتى مواجهة جيش الكيان الصهيوني إن
استوجب الأمر ذلك.
3- الوساطة
الحاضنة للمقاومة والغطاء التفاوضي:
عندما يدرك
الكيان الصهيوني رفض مصر القاطع للقضاء على المقاومة، فإن ذلك يمنحها هامشا تفاوضيا
أوسع، ويحد من قدرة تل أبيب على فرض شروطها القصوى، ويدفعها في النهاية إلى قبول مطالب
جوهرية كوقف دائم لإطلاق النار ورفع الحصار.
4- السيطرة
الاستراتيجية على معبر رفح:
بوصفه الشريان
الحيوي الوحيد لغزة، يمنح المعبر مصر نفوذا حاسما في التحكم بتدفق المساعدات الإنسانية
(وإن كان نظام السيسي يستخدمه الآن ضد أهل غزة ولصالح الكيان الصهيوني) والأفراد والبضائع،
ليصبح أداة ضغط لتحقيق المصالح المصرية المتوافقة مع استمرار المقاومة.
5- قنوات الاتصال
المباشر مع المقاومة:
على مصر أن
تمتلك قنوات اتصال فريدة ومباشرة مع قيادة المقاومة. هذا يمكنها من فهم الديناميكيات
الداخلية، وتقديم الدعم الضروري لصمود غزة.
6- النفوذ
الدبلوماسي والإقليمي والدولي:
يجب أن تستغل
مصر دورها التاريخي كوسيط رئيس يمنحها شرعية دولية لا مثيل لها لحشد الدعم للقضية الفلسطينية،
وممارسة الضغط اللازم على الكيان الصهيوني لوقف عدوانه ورفض التهجير، والتنسيق الفعال
مع قوى إقليمية وازنة كتركيا وقطر لتشكيل جبهة ضغط موحدة.
7- القوة الناعمة
والإعلام:
استمرار العدو في حصار أهل غزة، ومحاولة السيطرة أو تفكيك المقاومة؛ يهدد الأمن القومي المصري جوهريا. وقرار دعم غزة هو الضامن لمستقبل آمن لمصر وللأجيال القادمة في ظل هذه المعادلة الإقليمية والدولية المعقدة
لا بد لمصر
من الاستغناء عن الوجوه الإعلامية ذات التوجه الصهيوني واستبدالها بوجوه وطنية مخلصة.
هذا يعزز النفوذ الإعلامي المصري، ويسهم في تشكيل الرأي العام العربي والدولي الداعم
للمقاومة وفضح جرائم الاحتلال. كما يجب أن تسمح مصر بالتحركات الشعبية (الحقيقية وليست
المصطنعة على عين النظام) بإرسال رسائل قوية عن عمق التأييد الشعبي لقضية غزة.
8- البحر الأحمر:
برغم عدم قيام
مصر بدورها المنوط بها كأم الدول العربية كاملا حتى الآن، إلا أن موقفها من عمليات
الحوثيين في البحر الأحمر يكشف عن عمق استراتيجي لدى متخذ القرار العسكري المصري.
لقد تحملت
مصر تكلفة السيطرة اليمنية على البحر الأحمر -رغم تأثيرها السلبي على حركة الملاحة
بقناة السويس- ورفضت المشاركة مع التحالف الأمريكي ضد الحوثيين، رغم قدرتها.
فضغط الحوثيين
على الملاحة المتجهة للكيان الصهيوني يشكل دعما مباشرا لموقف المقاومة في غزة ويشتت
جهود العدو.
الخلاصة: استراتيجية
دعم غزة لا تقبل التردد
تشكل غزة،
بصمودها الأسطوري رغم الوحشية الصهيونية، حجر الزاوية في الأمن القومي المصري. إن دعم
مصر للمقاومة -دبلوماسيا ولوجستيا وأمنيا- مدعوما بقوة الردع العسكري، والموازنة الدقيقة
لملف اليمن، والتصدي للتحديات المائية، ليس خيارا تكتيكيا عابرا، بل هو استراتيجية
وجودية تحمي الحدود وتضمن الاستقرار وتحافظ على المكانة القيادية لمصر. أمن مصر يبدأ
من أمن غزة وحياة المصريين مرتبطة ارتباطا استراتيجيا بحياة أهل غزة.
واستمرار العدو
في حصار أهل غزة، ومحاولة السيطرة أو تفكيك المقاومة؛ يهدد الأمن القومي المصري جوهريا.
وقرار دعم غزة هو الضامن لمستقبل آمن لمصر وللأجيال القادمة في ظل هذه المعادلة
الإقليمية والدولية المعقدة.