قضايا وآراء

بين مطرقة القتل في غزة وسندان التفكيك في الضفة: قرار إبادة بغطاء أممي

لؤي صوالحة
"في الوقت الذي تُدفن فيه العائلات تحت الأنقاض في غزة، تُحاصر الذاكرة في الضفة الغربية"- جيتي
"في الوقت الذي تُدفن فيه العائلات تحت الأنقاض في غزة، تُحاصر الذاكرة في الضفة الغربية"- جيتي
منذ أكثر من سبعة عشر شهرا، يعيش الشعب الفلسطيني في قطاع غزة تحت سطوة حرب لا تكلّف نفسها عناء التخفي وراء المسميات التقليدية. لم تعد "العملية العسكرية" توصيفا مناسبا، ولا "الرد الأمني" غطاء منطقيا، ما يحدث هو تحطيم منظّم لشعب، وتجريد ممنهج من كل ما يمنحه الحق في البقاء: الغذاء، والمسكن، والأمان، والأمل. هي إبادة لا تُنفّذ في الظلام، بل على مرأى العالم، بغطاء أممي، وصمتٍ صارخ يكاد يُفهم كموافقة.

عندما يصبح القتل قرارا دوليا.. لا حادثا عرضيا

في غزة، لم تَعد الغارات الجوية وحدها تقتل، الذي يقتل الآن هو الحصار، هو الجوع، هو التعتيم، هو التخلي. حين تُغلق المعابر، وتُمنع الإمدادات، وتُقصف المستشفيات، وتُستهدف طوابير الخبز، فإن القتل لم يعد رد فعل عسكري، بل قرار سياسي مكتمل الأركان.

لم تَعد الغارات الجوية وحدها تقتل، الذي يقتل الآن هو الحصار، هو الجوع، هو التعتيم، هو التخلي. حين تُغلق المعابر، وتُمنع الإمدادات، وتُقصف المستشفيات، وتُستهدف طوابير الخبز، فإن القتل لم يعد رد فعل عسكري، بل قرار سياسي مكتمل الأركان

قرابة مليوني إنسان يعيشون في شريط ساحلي محاصر، بلا دواء ولا كهرباء، أطفالهم يتضورون جوعا، ونساؤهم يلدن في الظلام، وجرحاهم يموتون قبل أن يصل إليهم الإسعاف. لا شيء في غزة يترك مجالا للصدفة، كل تفصيل فيها محسوب، التجويع مقصود، العطش متعمّد، الدمار مقصود، كل بيت يُقصف، وكل شارع يُسوّى بالأرض، كأنما على يد مهندس يخطط لمحو كل معالم الحياة.

صرخات المخيم في الضفة.. لا يسمعها أحد

في الوقت الذي تُدفن فيه العائلات تحت الأنقاض في غزة، تُحاصر الذاكرة في الضفة الغربية. المخيمات التي نشأت كإرث للنكبة، تتحوّل إلى ساحات مواجهة، ثم تُجرَّف، وتُفرَّغ من سكانها. لا تنفصل جرائم الضفة عن مشهد غزة، بل تكمله وتوسّع أفقه.

ما يحدث في مخيمات جنين وبلاطة وشعفاط والدهيشة وغيرها، ليس إجراءات أمنية، بل سياسة تفكيك منهجي لهوية الفلسطيني. كل مخيم يُستهدف هو محاولة لطمس فكرة اللجوء، وتصفية رمزية العودة، وإعادة تعريف الفلسطيني كمجرد "ساكن عشوائي"، لا كلاجئ صاحب حقّ.

كأن الفلسطيني متهم بجرم الوجود

بين غزة والضفة، يتكرّس شعور بأن الفلسطيني متهم بجريمة لم يرتكبها: جريمة البقاء. يُقصف لأنه ما زال حيا، ويُهجّر لأنه يصر على التمسك ببيته، ويُحاصر لأنه لم يُوقّع بعد على وثيقة استسلام وجودي.

وفي هذه الحرب، لم تعد القذائف وحدها أدوات القتل. تُشارك فيها المؤسسات، القرارات، البيانات المزدوجة اللغة. مجلس الأمن؟ عاجز، المحكمة الجنائية؟ بطيئة، المنظمات الأممية؟ "قلقة"، والفيتو؟ حاضر دائما لإفشال أي مشروع يُطالب فقط بوقف إطلاق النار أو إيصال المساعدات.

اللغة الدولية صارت شريكة في الجريمة

من أخطر ما كشفته حرب الإبادة في غزة هو الانحدار الأخلاقي في اللغة السياسية الدولية. صارت الكلمات قاتلة بقدر الصواريخ. "الطرفان"، "الاشتباك"، "الردود"، "حق الدفاع عن النفس"، كلها مصطلحات تُفرغ الجريمة من مضمونها، وتساوي بين الجاني والمجني عليه، بين الدولة المحتلة والشعب المحاصر، بين الطائرة الحربية والطفل الجائع.

كأن العالم يتواطأ في صياغة رواية جديدة، لا مكان فيها لذكر الاحتلال، ولا استدعاء التاريخ، بل مجرد مشهد دموي يُعاد تدويره على شاشات الأخبار، ثم يُنسى مع الحدث التالي.

لا مخيم يبقى.. ولا ذاكرة تُغفر

تفكيك المخيمات في الضفة ليس فقط تفكيكا لمساكن اللاجئين، بل هو نزع لجذور الحكاية الفلسطينية. كل مخيم يُجرف هو صفحة تُنتزع من ذاكرة النكبة، وكل لاجئ يُطرد من بيته الجديد، هو لاجئ مرتين، وطريد مرتين، وشاهد مرتين على جريمة لا تريد أن تنتهي.

وفي الضفة، كما في غزة، يجري كل شيء ببطء محسوب. لا قصف شاملا، بل اقتحام تدريجي. لا تفجير كاملا، بل حصار مخنوق. الموت لا يأتي دفعة واحدة، بل يزحف، على هيئة جرافة، أو قنّاص، أو قانون جديد، أو تصريح ممنوع.

الإنسان الفلسطيني.. هدف دائم

في خضمّ كل هذه الأحداث، يبقى الفلسطيني هو الهدف الوحيد الذي لا يتغير. ليس كحامل سلاح، ولا كجزء من "نزاع"، بل كإنسان. نعم، الإنسان الفلسطيني نفسه، بحياته اليومية، بطفله، بخيمته، بحلمه، هو المستهدف. ولذلك، فإن هذه الحرب، بقدر ما هي عسكرية، فهي نفسية، وجودية، أخلاقية.

الحرب لا تستهدف جسد الفلسطيني فقط، بل ذاكرته، وتماسكه، وثقته بالعالم، بل حتى قدرته على الحلم. فحين يُولد الطفل تحت القصف، ويكبر في الحصار، ويموت قبل أن يحلم بمستقبل، فهذه جريمة قتل للحياة نفسها.

الصمت العالمي: تحالف غير معلن
غزة تقاوم بصبرها، الضفة تصرخ في صمتها، والمخيمات، مهما هُدمت، تبقى شاهدة على أن فلسطين لا تُمحى بالجرافات، ولا تُمحى بالقنابل، ولا بالقرارات المنزوعة الأخلاق

لم يكن الصمت الدولي يوما حياديا، إنه موقف، وهو في حالتنا موقف متواطئ. العالم اليوم لا يكتفي بعدم وقف الجريمة، بل يسهّل استمرارها، حين يُبرر، ويُموّل، ويُبرم الصفقات. كل دولة تمنح سلاحا لدولة الاحتلال، أو تمنع قرارا في مجلس الأمن، أو تُدين "الطرفين"، هي شريكة في الإبادة، وإن ارتدت بدلة الدبلوماسية.

ما بعد الحرب: لا عودة إلى ما قبلها

الفلسطيني يدرك أن هذه الحرب، بما فيها من قتل وتجويع وتفكيك، لن تنتهي باتفاق وقف إطلاق نار. هذه حرب تُعيد صياغة موقعه في العالم، تحاول انتزاع شرعيته، وتُخرجه من سياق الضحية إلى متهم افتراضي. ولذلك، فإن ما بعد هذه الحرب يجب ألا يكون عودة إلى الصمت، بل إلى المطالبة الصارخة بإعادة بناء نظام عدالة دولية يراه، يسمعه، يعترف بحقه.

وفي الختام:

في زمنٍ تحوّل فيه القتل إلى قرار دولي، والصمت إلى أداة قتل، والنظام العالمي إلى هيكل بلا روح، لا يملك الفلسطيني إلا أن يتمسك بالحياة. غزة تقاوم بصبرها، الضفة تصرخ في صمتها، والمخيمات، مهما هُدمت، تبقى شاهدة على أن فلسطين لا تُمحى بالجرافات، ولا تُمحى بالقنابل، ولا بالقرارات المنزوعة الأخلاق.

إنها ليست مجرد حرب أخرى، إنها لحظة كشف كاملة.. عن عالم فقد إنسانيته، وشعب لم يفقد كرامته.
التعليقات (0)