قضايا وآراء

الموقف الفارغ تجاه حرب الإبادة في غزة.. كندا نموذجا

محمود الحنفي
"كان المنتظر من بلد يدّعي ريادة حقوق الإنسان أن يتحرك بوضوح وحزم لإدانة الجرائم ووقف سفك الدماء"- الأناضول
"كان المنتظر من بلد يدّعي ريادة حقوق الإنسان أن يتحرك بوضوح وحزم لإدانة الجرائم ووقف سفك الدماء"- الأناضول
يشهد قطاع غزة، المحاصر منذ عام 2007، حربا وحشية أسفرت عن استشهاد وإصابة عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين وتدمير واسع للبنية التحتية، وسط وصف بعض الخبراء الأمميين لما يجري بأنه حالة "إبادة جماعية" بالمعنى الحرفي. في خضم هذه الكارثة الإنسانية، برز موقف الحكومة الكندية بمظهر باهت ومخيب للآمال. فعلى الرغم من خطاب كندا المتكرر عن دعمها لحقوق الإنسان والقانون الدولي، إلا أن أفعالها على الأرض تجاه المجازر في غزة لم ترقَ لمستوى شعاراتها. نستعرض في هذا المقال تناقض الموقف الكندي بين الادعاءات والواقع، وكيف تعاملت أو بالأحرى تقاعست كندا خلال حرب غزة، وماذا كان يُفترض أن تفعله لو كانت جادة في مبادئها، وصولا إلى خلاصة حول التداعيات الأخلاقية لموقفها الحالي.

ما الذي تدّعيه كندا؟

تتباهى كندا تاريخيا بأنها نصير للقانون الدولي ومدافع عن منظومة حقوق الإنسان العالمية، ودأب المسؤولون الكنديون على التشديد في المحافل الدولية على وجوب احترام قواعد النظام الدولي القائم على القانون، وضرورة حماية المدنيين في النزاعات. على سبيل المثال، صرّح رئيس الوزراء السابق جاستن ترودو مرارا بأن كندا تقف دوما في صف القانون الدولي وهي من الأعضاء المؤسسين للمحكمة الجنائية الدولية، مؤكدا أهمية الترتيب العالمي القائم على القواعد. كما تعلن الحكومة الكندية رسميا تأييدها لحل الدولتين في فلسطين ودعمها لجهود السلام وحقوق الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني في العيش بأمان وكرامة. غير أن المشكلة تكمن في أن هذا الالتزام المعلن لم يصمد عند أول اختبار حقيقي.

على الرغم من اتساع نطاق المطالبات الدولية بضرورة محاسبة مرتكبي الجرائم في غزة، بقيت كندا مترددة، ولم يظهر أي تحرك كندي جاد على غرار ما فعلته مع أزمات أخرى؛ فمثلا عند الغزو الروسي لأوكرانيا، بادرت أوتاوا سريعا إلى فرض عقوبات صارمة وملاحقات قانونية دعمت بها المحكمة الجنائية الدولية

فوفق تحليل الباحث الحقوقي الكندي أليكس نيف (Alex Neve) المدير السابق لمنظمة العفو الدولية في كندا، فإن من النفاق الخطير أن تشيد الحكومة الكندية بدور القانون الدولي ثم تتجاهله أو تتخلى عنه عندما تُنتهك هذه المعايير الدولية. ويؤكد نيف في ورقته المنشورة عام 2025 بعنوان: "Israel/Palestine and Canada's Empty Support for International Law" أن الاكتفاء برفع الشعارات دون ترجمة فعلية يعني أن الحديث عن حقوق الإنسان يصبح فارغا من معناه. لقد أظهرت الأزمة الأخيرة أن كندا تقول الكثير عن حقوق الإنسان، لكنها عند الانتهاكات الملموسة -كما في الأراضي المحتلة- تكتفي بالكلام دون فعل. هذا التناقض بين القول والفعل يقوّض مصداقية كندا الدولية، فليس كافيا أن نعلن احترامنا للقانون الدولي ما لم نقترن ذلك بخطوات عملية حازمة حين يتم خرق هذا القانون.

كيف تعاملت كندا مع حرب الإبادة على غزة؟

مع اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة وسقوط آلاف الضحايا المدنيين، كان المنتظر من بلد يدّعي ريادة حقوق الإنسان أن يتحرك بوضوح وحزم لإدانة الجرائم ووقف سفك الدماء، لكن الواقع أن موقف كندا كان ضعيفا وملتبسا، ويمكن رصد ذلك في عدة جوانب:

- غياب الإدانة الصريحة للجرائم: بينما وثّقت المنظمات الحقوقية عمليات قصف عشوائي لمنازل ومستشفيات ومدارس في غزة، تجنّبت أوتاوا توجيه أي إدانة مباشرة لهذه الأفعال بوصفها جرائم حرب. اكتفت الحكومة الكندية بتكرار مواقف عامة تدين استهداف المدنيين "بشكل شامل" دون تسمية المسؤول. في المقابل، كانت إدانتها لعملية السابع من أكتوبر 2023 سريعة وحازمة وبأقسى العبارات، لكن المفارقة أنها لم تُتبَع بموقف متوازن تجاه ما تلاها من رد إسرائيلي مدمر على سكان غزة. لقد دافعت أوتاوا مرارا عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" واعتبرته حقا مشروعا، بينما جاءت تعليقاتها على معاناة الفلسطينيين خجولة ومشفوعة بعبارات القلق دون أي انتقاد واضح لإسرائيل. هذا الصمت أو التردد الكندي إزاء جرائم الحرب في غزة اعتبره محللون موقفا متواطئا ضمنيا، خاصة وأن المسؤولين الكنديين في الفترة ذاتها عارضوا الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار الشامل. لقد مثّل هذا الموقف إحباطا كبيرا للمدافعين عن حقوق الإنسان الذين توقعوا من كندا أداء أكثر أخلاقية.

- الامتناع عن دعم وقف إطلاق النار في الأمم المتحدة: تجلّى التخاذل الكندي بشكل صارخ في أروقة الأمم المتحدة. فعندما طُرح في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 قرار يدعو إلى "هدنة إنسانية فورية ودائمة" في غزة، مع إيصال المساعدات والإفراج غير المشروط عن الأسرى الإسرائيليين، أيدت 120 دولة هذا القرار، وعارضته 14 دولة فقط، فيما امتنعت 45 دولة من بينها كندا عن التصويت. لقد امتنعت كندا عن مجرد تأييد هدنة إنسانية يُفترض أنها الحد الأدنى أخلاقيا، بل سعت قبل التصويت لإدخال تعديل يُحمّل حركة حماس وحدها مسؤولية العنف، وهو تعديل اعتُبر محاولة لتحويل الأنظار بعيدا عن الجرائم الإسرائيلية. وقد انتقدت دول عديدة هذا التصرف، إذ وبّخ ممثل باكستان المندوب الكندي صراحة لكون التعديل المقترح "مسيسا وأحادي الجانب"، في حين أن القرار الأصلي كان إنسانيا بحتا.

النتيجة أن العالم شاهد على الشاشة الكبيرة في قاعة الأمم المتحدة حصيلة التصويت؛ صورة تُظهر كندا ضمن أقلية معزولة رفضت مطالبة إسرائيل بوقف القتل. منظمات حقوقية كندية وصفت موقف أوتاوا بأنه وصمة عار، فقد اعتبرت منظمة "أصدقاء العدالة والسلام في الشرق الأوسط (CJPME) أن "كندا خذلت الإنسانية بهذا التصويت"، وأنها اختارت "اللعب السياسي" بدل إنقاذ أرواح المدنيين. وأشار رئيس المنظمة إلى أن قرار الامتناع الكندي يعني تبني خيار الـ"لا فعل" رسميا في مواجهة جرائم حرب إسرائيل، مما يجعل كندا "متواطئة في هذه الكارثة الإنسانية" التي يُحذّر خبراء الأمم المتحدة من أنها قد ترقى إلى جريمة إبادة.

- عدم فرض عقوبات أو ضغوط على إسرائيل: خلال ذروة العدوان على غزة، لم تتخذ الحكومة الكندية أي إجراءات عقابية أو ضغوط ملموسة على السلطات الإسرائيلية لردعها عن الاستمرار في الانتهاكات. لم تُفرض عقوبات اقتصادية أو دبلوماسية على المسؤولين المتورطين في الجرائم (كقطع العلاقات أو طرد دبلوماسيين مثلا)، ولم يُطرح أي تعليق للتعاون العسكري أو حظر على صادرات السلاح إلى إسرائيل، رغم النداءات الشعبية بذلك. بل بالعكس، كشفت تقارير أن الجيش الكندي قدم تسهيلات لوجستية للجيش الإسرائيلي في الأيام الأولى للنزاع: إذ نقلت طائرات نقل عسكرية كندية مجموعة من جنود الاحتياط الإسرائيليين من كندا إلى إسرائيل للمشاركة في القتال، كما أُرسل عناصر من القوات الخاصة الكندية إلى إسرائيل بحجة حماية طاقم السفارة والمساعدة في الإجلاء. هذه الخطوات تعطي انطباعا بأن كندا لم تكن محايدة، بل مالت عمليا لدعم الاحتلال الإسرائيلي تحت شعار العلاقات التحالفية، دون اعتبار لواجبها في ضمان عدم المساهمة في جرائم الحرب.

وعلى الرغم من اتساع نطاق المطالبات الدولية بضرورة محاسبة مرتكبي الجرائم في غزة، بقيت كندا مترددة، ولم يظهر أي تحرك كندي جاد على غرار ما فعلته مع أزمات أخرى؛ فمثلا عند الغزو الروسي لأوكرانيا، بادرت أوتاوا سريعا إلى فرض عقوبات صارمة وملاحقات قانونية دعمت بها المحكمة الجنائية الدولية. أما في غزة، فلم تعلن كندا حتى تعليقا رمزيا لتعاونها العسكري أو التجاري مع إسرائيل خلال القصف المكثف. واستمرت رحى الحرب تدور دون أن تستخدم أوتاوا ثقلها الدبلوماسي لفرملة آلة الحرب.

- عدم دعم المحكمة الجنائية الدولية (ICC) ومساءلة مجرمي الحرب: رغم كل حديثها عن العدالة الدولية، اتسم الأداء الكندي فعليا بعرقلة جهود المحاسبة القضائية في الحالة الفلسطينية. فعندما أعلنت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية عام 2019 عزمها التحقيق في جرائم الحرب المحتملة في الأراضي الفلسطينية، بادرت حكومة أوتاوا إلى معارضة اختصاص المحكمة في القضية؛ إذ أبلغت رسميا المحكمة بأنها لا تعترف بفلسطين كدولة ومن ثم تعترض على التحقيق، بما يتماشى تماما مع موقف إسرائيل الرافض لأي مساءلة دولية. هذا الموقف الكندي آنذاك قوبل بانتقادات شديدة من المنظمات المناصرة لفلسطين، التي اعتبرته تأييدا صريحا لإفلات الاحتلال من العقاب على جرائمه. واستمر نهج كندا الفاتر تجاه المحكمة خلال حرب غزة الأخيرة؛ فلم تنضم إلى البيانات الدولية الداعمة للمحكمة في مواجهة محاولات الترهيب أو العقوبات (على عكس عشرات الدول الأخرى التي وقّعت بيانات تأييد للمحكمة خلال 2023). ولم تُظهر الحكومة تحمسا لفكرة تحقيق دولي مستقل في جرائم غزة، بل التزمت الصمت.

وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 حصل تطور تمثل في إصدار المحكمة الجنائية مذكرات توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين كبار (رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت) بتهم جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب تشمل القتل والاضطهاد واستخدام التجويع ضد المدنيين، عندها صرّح رئيس الوزراء السابق ترودو أن كندا "ستمتثل لأي قرارات أو أوامر تصدر عن المحكمة الدولية"، معتبرا ذلك خطوة نحو العدالة. لكن هذا الموقف جاء متأخرا وبعد ضغط الواقع الدولي، إذ لم تكن كندا بين الدول التي ساهمت بنشاط في دفع المحكمة لفتح الملف؛ بل انصاعت للأمر الواقع فقط بعد أن تحركت آلية العدالة الدولية من تلقاء نفسها. بكلمات أخرى، لم تبادر كندا بدعم المحكمة عندما كان الأمر ملحا، وإنما لحقت بالركب متأخرة.

كان يفترض بكندا أن تتخذ موقفا حازما منذ بداية الحرب على غزة، يشمل إدانة واضحة للجرائم، والدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، وتفعيل أدوات الضغط السياسي والاقتصادي، ودعم التحقيقات الدولية، وتقديم مساعدات إنسانية حقيقية. لكن تقاعسها وصمتها كشفا تناقضا بين الخطاب والممارسة، وأضعفا مصداقيتها الأخلاقية. لقد أظهرت كندا ازدواجية في المعايير

وتجدر الإشارة إلى أن حتى الجهود الخجولة التي قامت بها السلطات الكندية محليا أتت تحت الضغط الشعبي؛ فقد ذكرت صحيفة تورونتو ستار أن الشرطة الفيدرالية الكندية فتحت (سرا) تحقيقا هيكليا حول تورط بعض حاملي الجنسية الكندية من الجنود الإسرائيليين بجرائم حرب خلال حرب غزة. لكن اللافت أن الشرطة لم تُعلن ذلك للملأ إطلاقا، بخلاف تحقيقاتها في جرائم حرب أوكرانيا التي صاحبتها حملات علنية وحملة تواصل نشطة لجمع الأدلة. هذا التباين الصارخ بين تحمس كندا للعدالة في أوكرانيا وبرودها في حالة غزة يعزز الشعور بازدواجية المعايير.

- التحركات المتأخرة والرمزية: تحت وطأة الضغوط الدولية، بدأت بعض دول الغرب مؤخرا باتخاذ خطوات غير مسبوقة تجاه إسرائيل، وقد اضطرت كندا مجاراة هذا التوجه ولو بشكل محدود, في حزيران/ يونيو 2025 أعلنت أوتاوا بالاشتراك مع بريطانيا وعدد من حلفائها فرض عقوبات على وزيرين إسرائيليين متطرفَيْن هما إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، بسبب "تحريضهما على العنف وانتهاكاتهما الجسيمة لحقوق الإنسان الفلسطينية". اعتُبرت هذه الخطوة مهمة لكنها جاءت متأخرة جدا، إذ رأى محللون أنها مجرد اعتراف ضمني بأن إسرائيل ترتكب جرائم وجاء بعد طول تردد. فلم تقدم كندا على هذه العقوبات إلا بعدما قامت بها بريطانيا أولا ولحقت بها دول أخرى، مما يفقدها التأثير القوي. كما أنها تقتصر على فردين معروفين بتطرفهما الواضح، في حين تجنبت كندا مساءلة الحكومة الإسرائيلية ذاتها أو الجيش الإسرائيلي كمؤسسة. وقد انتقدت واشنطن حتى هذه العقوبات المحدودة ووصفتها بأنها "غير مفيدة"، ما يعكس حجم الضغوط التي تواجهها أي دولة غربية تحاول كسر الإجماع التقليدي في دعم إسرائيل.

وهكذا، ظل الموقف الكندي في المجمل أقرب إلى الفراغ والمواربة طوال فترة الحرب: كلمات منمّقة عن القيم والمبادئ، تقابلها أفعال غائبة أو خجولة عندما يتعلق الأمر بإنقاذ شعب أعزل من حرب إبادة.

كان يفترض بكندا أن تتخذ موقفا حازما منذ بداية الحرب على غزة، يشمل إدانة واضحة للجرائم، والدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، وتفعيل أدوات الضغط السياسي والاقتصادي، ودعم التحقيقات الدولية، وتقديم مساعدات إنسانية حقيقية. لكن تقاعسها وصمتها كشفا تناقضا بين الخطاب والممارسة، وأضعفا مصداقيتها الأخلاقية. لقد أظهرت كندا ازدواجية في المعايير، حيث تدافع عن القانون الدولي في أوكرانيا، وتتجاهله في فلسطين. إن عدم التزامها بمبادئ العدالة يفقدها مصداقية ادعائها باحترام حقوق الإنسان، ويُقوّض المنظومة القانونية الدولية. والمطلوب اليوم مراجعة جذرية لسياستها، واختيار واضح: إما الانحياز للضحايا والعدالة، أو الإقرار بأن القيم خاضعة للحسابات السياسية.
التعليقات (0)