قضايا وآراء

غزة تُجَوَّع.. والعالم شريك بالصمت والتواطؤ

عدنان حميدان
"تُعاقب غزة على صمودها، وتُحرَم من الغذاء بقرار دولي غير معلن"- جيتي
"تُعاقب غزة على صمودها، وتُحرَم من الغذاء بقرار دولي غير معلن"- جيتي
في الصباحات الرمادية لغزة، لم يعد الهلع من صوت القصف هو أول ما يوقظ الأمهات، بل التجويع الشديد.

أمٌّ تفتح عينيها على بكاء رضيع لا حليب له، وطفلٌ يبحث عن لقمة تسدّ رمقه، قبل أن يعود القصف ليقضم ما تبقّى من الأمل.

هذه ليست مقدّمة أدبية، بل واقع موثّق يتكرّر كل ساعة. فغزة اليوم لا تواجه فقط الطائرات والقنابل، بل تواجه سلاحا أفتك: سلاح التجويع. ولأنّ التجويع لا يُدوّي، ولا يُسمع له انفجار، بات العالم يتجاوزه، وكأنّ موتا بطيئا لا يقلّ فتكا لا يُعدّ جريمة.

منذ بداية الإبادة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وأهالي غزة يُتركون فريسة لحصار مزدوج: من الجوّ والبرّ، ومن ضميرٍ عالميّ أصمّ.

المعابر مغلقة، ومن يذهب لتلقّي مساعدة يتعرض للقنص، وسلاسل الإمداد الإنسانية محطّمة. في غزة، الخبز حلم، والماء تحدٍّ، والدواء معجزة.

لم تعد كلمات "كارثة إنسانية" تكفي لوصف الواقع، فقد تجاوزنا مرحلة الوصف، وصرنا أمام جريمة تجويع ممنهجة ترقى إلى الإبادة الجماعية

لم تعد كلمات "كارثة إنسانية" تكفي لوصف الواقع، فقد تجاوزنا مرحلة الوصف، وصرنا أمام جريمة تجويع ممنهجة ترقى إلى الإبادة الجماعية.

ومن تابع تقارير الصحفي أنس الشريف عبر الجزيرة ومقاطع الفيديو القصيرة التي تصلنا من داخل القطاع، يدرك أن ما يُنشر ليس سوى غيضٍ من فيض من حجم الكارثة.

يتحدث أنس بألم عن أطفال يُغمى عليهم من الجوع في طوابير الخبز، عن عائلات تقتات على الأعشاب، عن أمهات يتقاسمن الرغيف مع ثلاثة أو أربعة أبناء، وعن موتٍ زاحف لا يُعلن عن نفسه بالقنابل، بل بأجسادٍ تضمر شيئا فشيئا.

الناس في غزة لا ينتظرون المعجزات، بل فتاتا من ضمير العالم. لكنّ اللافت أكثر، والمؤلم أكثر، هو الصمت الغربيّ المتواطئ مع هذا الخراب المعلن.

لقد كنّا، في بدايات العدوان، نسمع بعض التصريحات الأوروبية الحادّة نسبيا؛ من زعماء تحدّثوا عن ضرورة احترام القانون الدولي، وتحييد المدنيين، وقلقهم من انهيار القطاع الصحي في غزة. لكن ماذا تبقّى من كل ذلك؟ لا شيء.

اختفى الصوت، وذابت الكلمات في أرشيف المؤتمرات الصحفية. لم يُترجَم شيء على الأرض، لم تتغير سياسة دعم الاحتلال، بل زاد التنسيق، وواصلت بعض الحكومات الأوروبية وقف تمويل وكالة الأونروا في ذروة الحاجة إليها!

هل سمعتم عن حكومة في العالم تقطع التمويل عن جهة إغاثية، في وقت يموت فيه الأطفال جوعا؟ نعم، حدث ذلك، وحدث بصمتٍ وقح.

نيلسون مانديلا قال ذات يوم: حرية الإنسان لا تكتمل ما دام هناك من يُعاقب على صموده، ويُمنع من الغذاء".

واليوم تُعاقب غزة على صمودها، وتُحرَم من الغذاء بقرار دولي غير معلن، لكنه أكثر حضورا من كل القرارات.

في بيانات المنظمات الأممية، يظهر كل شيء بالأرقام:

• انعدام الأمن الغذائي وصل إلى مستويات كارثية.

• معدلات سوء التغذية بين الأطفال تجاوزت 90 في المئة.

• وفيات الرضّع بسبب الجوع وسوء التغذية صارت جزءا من التقارير اليومية.

ومع ذلك، لا أحد يتحرّك. بل إنّ بعض الدول، بدلا من فتح المعابر أو الضغط على الاحتلال، تواصل الحديث عن "الحق في الدفاع عن النفس"، وكأنّ التجويع صار شكلا من أشكال الدفاع المشروع!

لكن الغرب ليس وحده في قفص الاتهام، فالتاريخ سيسجّل بمداد الخزي أن النظام المصري شارك في هذه الجريمة بالصمت، وبإغلاق معبر رفح، منتظرا إذنا من نتنياهو كي يُدخل المساعدات أو يُخرج المرضى.

هل يُعقل أن تكون حياة الفلسطيني مرهونة بمزاج المحتل؟وهل هناك من يملك القدرة على كسر الحصار أكثر من الجار الأقرب، الذي يُدير المعبر الوحيد غير الخاضع للاحتلال؟

إن هذا الموقف لا يندرج تحت عنوان "الحياد"، بل تحت عنوان "التواطؤ الرسمي المباشر". ولن ينسى التاريخ أن مصر الرسمية، بكل ما تمثله من ثقل عربي، وقفت موقف المتفرج في لحظة موت.

ولعلّ الأكثر قبحا من ذلك كله، هم الأنظمة العربية المطبّعة، التي لا تكتفي بالصمت، بل تُمعن في خذلان غزة حتى مع تواصل النداءات الإنسانية. هؤلاء الذين ساروا في طوابير التطبيع وفتحوا أبواب العواصم لاستقبال قادة الاحتلال، هم اليوم أشدّ قبحا من الغرب نفسه.

الحقيقة الأكثر مرارة هي أن الاحتلال لا يستطيع الاستمرار في هذه الجريمة وحده. فهو بحاجة إلى تغطية دولية، وصمت إعلامي، وتواطؤ سياسي، وهذا تماما ما يجده لدى من يزعمون الدفاع عن "حقوق الإنسان"، فيما يفرّقون بين دم ودم، وبين ألم وألم

فالغرب، على الأقل، لا يدّعي القربى، أما هؤلاء، فيتحدثون عن "القضية المركزية"، ويصوّتون في الوقت نفسه لصالح سياسات المحتل في المحافل الدولية.

لقد قال كوفي عنان، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة: "حين يُستخدم الطعام كسلاح، فاعلم أن الإنسانية قد انهارت". وغزة اليوم لا تواجه فقط انهيار الإنسانية، بل تواطؤا عربيا وغربيا يشرعن هذا الانهيار.

في ظل هذا المشهد، تبقى غزة علامة مضيئة وسط الظلمة، تُذكّرنا بأن الكرامة ليست مرتبطة بالوفرة، بل بالصمود.فها هي، رغم الحصار والقصف والتجويع، ما زالت حيّة، تقاوم بلقمتها، وتحوّل الخبز إلى قضية، والماء إلى رمز، والدواء إلى جبهة صمود.

لكنّ الحقيقة الأكثر مرارة هي أن الاحتلال لا يستطيع الاستمرار في هذه الجريمة وحده. فهو بحاجة إلى تغطية دولية، وصمت إعلامي، وتواطؤ سياسي، وهذا تماما ما يجده لدى من يزعمون الدفاع عن "حقوق الإنسان"، فيما يفرّقون بين دم ودم، وبين ألم وألم.

فمن الذي يقف اليوم مع غزة؟ ليس الحكومات، بل الشعوب، ليس المؤتمرات، بل الشوارع، ليس العواصم، بل الضمائر الحيّة التي لم تُخرَس بعد.

غزة لا تطلب تبرعات، بل عدالة، ولا تنتظر شفقة، بل موقفا يُنهي الإبادة، ويحاسب المجرم.

فمن سيقف؟ ومن سيكتب التاريخ في خانة المجرمين؟ ومن سينجو من لعنة الجوع، حين تصير الشهادة: "لقد ارتقوا شهداء من التجويع.. ونحن شركاء في الجريمة"؟
التعليقات (0)

خبر عاجل