غزة
اليوم ليست على حافة الكارثة بل هي في قلبها، تنزف على مدار الساعة وتعيش حالة
إبادة ممنهجة، في ظل
صمت دولي مُطبق وتواطؤ إقليمي فاضح. في الساعات الماضية
وحدها، ارتقى 145 شهيدا، معظمهم من المدنيين، وبينهم أطفال ونساء ومسنون، قُصفوا
وهم يبحثون عن ما يسدّ الرمق في طوابير المساعدات وفي الأسواق الشعبية وعند صهاريج
الماء. هذا النوع من القصف الذي يستهدف مراكز التجمع الإنساني لا يعبّر عن منطق
عسكري أو تكتيكي، بل عن تصميم على تجويع المجتمع وكسر إرادته الجماعية، وهو أقرب
إلى سياسة الأرض المحروقة والإبادة الجماعية البطيئة.
وضمن
هذه المجازر، يتواصل الحصار الخانق بكل تفاصيله المهينة، فالمعابر مغلقة لا سيما
معبر رفح الذي يُفترض أن يكون شريان الحياة الوحيد للقطاع، والوحيد غير الخاضع
لسلطة الاحتلال. الموقف الرسمي المصري، الذي يملك القدرة التقنية واللوجستية على
تخفيف الكارثة يكتفي بالصمت، ويثير بذلك تساؤلات حقيقية عن الدور المصري الإقليمي:
أهو دور حارس حدود؟ أم شريك سياسي في مشروع أوسع من مجرد موقف أمني؟ إن إغلاق
المعبر أمام الجرحى والمساعدات لا يمكن تبريره بمصطلحات السيادة، وهو خرق واضح
للمسؤوليات الأخلاقية والإنسانية والقومية في آنٍ واحد.
في ظل هذه الصورة القاتمة، يبقى الرهان الحقيقي على الشعوب. فحين تخذل الحكومات شعوبها، وتبيع القضايا في مزادات السياسة، لا يبقى إلا الصوت الشعبي ليعيد التوازن. فالشعوب الحرة في العالم العربي والإسلامي، بل وحتى في أوروبا وأمريكا اللاتينية، تمتلك اليوم أدوات مؤثرة
القطاع
الصحي في غزة ينهار أمام أعين العالم الأعمى أكثر من 80 في المئة من المستشفيات
ومرافق الرعاية الصحية أصبحت خارج الخدمة. لا كهرباء، لا وقود، لا أدوية، ولا قدرة
على إنقاذ الجرحى، أو حتى دفن الموتى في ظروف تحفظ الحد الأدنى من الكرامة،
الأطباء يعملون بأيديهم المجردة، والمرضى يُسعفون على الأرض، والمستشفيات تحولت
إلى غرف انتظار طويلة للموت. ما يجري هو جريمة صحية تُنفذ على مرأى من الجميع، دون
ردع أو تدخل.
في
الجانب الآخر، تحاول القيادة الإسرائيلية، وعلى رأسها نتنياهو، أن توهم الجميع
بأنها تحقق تقدما عسكريا، لكن الواقع يفضح هشاشة هذا الادعاء، فبعد كل هذه الأشهر
من القصف، لم يُسترجَع الأسرى، ولم تُنهَ البنية العسكرية للمقاومة، ولم تُبسط
السيطرة الفعلية على الأرض، بل على العكس، لا يزال الاحتلال يتكبّد خسائر، ويواجه
صعوبة في تحقيق أي إنجاز استراتيجي حقيقي. المقاومة الفلسطينية رغم الحصار
والدمار، ما زالت حاضرة في الميدان والإعلام والمعنويات، وهو ما يجعل نتنياهو مضطرا
إلى تمديد الحرب، عسى أن يُنتج الاستنزاف الميداني ما عجزت عنه القنابل.
في
المقابل، تتبدى حالة من الانهيار الكامل في الموقف العربي الرسمي، فدول الخليج
التي تملك أدوات حقيقية اقتصادية ودبلوماسية لا تزال تمارس صمتا استراتيجيا، هذا
الغياب العربي لا يمكن عزله عن مسارات التطبيع، التي أفرغت الموقف السياسي من
محتواه، وأضعفت القدرة على الضغط، وأخرجت فلسطين من أولويات القرار الرسمي في كثير
من العواصم. ومع ذلك، لا تزال بعض الدول الخليجية قادرة إن أرادت على تغيير قواعد
اللعبة بالدعم السياسي، وبالضغط الاقتصادي، وبوقف التنسيق، وباستعادة خطاب عربي
أخلاقي وفعّال.
وفي
ظل هذه الصورة القاتمة، يبقى الرهان الحقيقي على الشعوب. فحين تخذل الحكومات
شعوبها، وتبيع القضايا في مزادات السياسة، لا يبقى إلا الصوت الشعبي ليعيد
التوازن. فالشعوب الحرة في العالم العربي والإسلامي، بل وحتى في أوروبا وأمريكا
اللاتينية، تمتلك اليوم أدوات مؤثرة كالإعلام الرقمي، والتظاهر،
الصمت وظيفة بحد ذاته، وأصبح التلكؤ في التدخل تعبيرا عن قبول غير معلن لسياسة التجويع والقصف الجماعي، بانتظار أن تُرهق غزة بما يكفي، وتُكسَر روح المقاومة، ثم يُفرض على الجميع حل سياسي يناسب المصالح الكبرى
والمقاطعة، والحملات
الحقوقية، والتحرك في الفضاء القانوني الدولي. كل تحرك شعبي، مهما بدا صغيرا، هو
إضعاف للآلة الدعائية الإسرائيلية، وتعزيز للوعي العام، ولبِنة في جدار العزل
الأخلاقي لهذا الاحتلال الغاشم.
أما
المجتمع الدولي، فصمته لم يعد يُقرأ كعجز، بل صار يُفهم كقرار. هذا الصمت المنظّم
لا يعكس قلة الحيلة، بل يوحي بوجود توافق ضمني على إتاحة الفرصة لإسرائيل كي تنهي
مهمتها دون ضجيج. لقد بات الصمت وظيفة بحد ذاته، وأصبح التلكؤ في التدخل تعبيرا عن
قبول غير معلن لسياسة التجويع والقصف الجماعي، بانتظار أن تُرهق غزة بما يكفي،
وتُكسَر روح المقاومة، ثم يُفرض على الجميع حل سياسي يناسب المصالح الكبرى. هذا
الشكل من الانحياز السلبي يعكس نزعة استعمارية جديدة، لا ترى في الفلسطيني شعبا ذا
حق، بل عبئا مزمنا يجب تصفيته سياسيا، أو عزله ديموغرافيا.
غزة
اليوم لا تحتاج إلى بيانات تنديد فحسب، بل إلى إعادة تموضع كامل في فهم ما يحصل، فما
يجري هو مشروع تصفية طويل الأمد، تُنفّذ عبر حلقات من العنف والصمت. إن العالم كله
يُختبر في غزة، وإن من يصمت الآن شريك في الجريمة، ومن يتحدث عن الطرفين وهو يرى
المجازر تُرتكب ضد أطفال عُزّل عليه أن يعيد تعريف الأخلاق.
هذا
ليس وقت الحياد، ولا وقت الحسابات الضيقة. غزة تختصر كل شيء: عدالة القضية، وعري
العالم، وامتحان الضمير. ومن لا يقف مع غزة اليوم، سيجد نفسه يوما في الطرف الخاطئ
من التاريخ.