قضايا وآراء

الجملة المفتاح: "لا زالت صامدة"

هشام الحمامي
"كل المدن الصامدة كان مربط فؤادها صمود أهلها في العمق العميق، وعلى التخوم وفي الثغور كانت المقاومة التي أتت من قلب المدينة"- إكس
"كل المدن الصامدة كان مربط فؤادها صمود أهلها في العمق العميق، وعلى التخوم وفي الثغور كانت المقاومة التي أتت من قلب المدينة"- إكس
أخيرا نطق بها صراحة المبعوث الأمريكي لشئون الرهائن، أدم بوهلر (52 سنة)، ونطق بها كما هي دون تلاعب أو تحريف، "الصمود" هذه كلمة ضخمة جدا في معيار التاريخ، والبشر الصانعين لهذا التاريخ، والمدن التي تصمد أمام الغزو ولا تنكسر ولا تلين؛ يحفظ لها التاريخ مكانا كبيرا من بين المدائن كلها، لها ولأهلها.

هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها مسؤول غربي كبير وصف "الصمود" للمقاومة، ومن خلفها أهل العزائم والأنوار في القطاع كله، رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا، صمود المدن لا يكون فقط صمود المقاومة التي تدافع عن هذه المدن، ولكن وهو الأهم صمود أهل المدن، الذين يعرفون أن صمود المقاومة مرهون بصمودهم وصبرهم على النار والدمار والجوع والموت.

جملة بوهلر عن الصمود، لا يقصد بها المقاومة فقط، بل يقصد بالأساس الأهالي والمدنيين الذين يتم قصفهم كل يوم في المخيمات والمستشفيات، بترتيب معه ومع من جعله مبعوثا

كل المدن الصامدة كان مربط فؤادها صمود أهلها في العمق العميق، وعلى التخوم وفي الثغور كانت المقاومة التي أتت من قلب المدينة، وتوجه ضرباتها للباغي المعتدى، ضربة تلو ضربة حتى تطرده بعيدا.

وجملة بوهلر عن الصمود، لا يقصد بها المقاومة فقط، بل يقصد بالأساس الأهالي والمدنيين الذين يتم قصفهم كل يوم في المخيمات والمستشفيات، بترتيب معه ومع من جعله مبعوثا.

والكلمة الأخيرة للناطق العسكري باسم القسام، أبو عبيدة"، تضع الأمة كلها، قادة وأحزابا وعلماء ونُخبا أمام أصعب موقف يوضع فيه مخلوق يؤمن بالله واليوم الأخر، موقف "الخصومة" أمام الله.. مع كل يتيم وجريح ومُجوّع، وعشرات الآلاف الذين خُذلوا بصمتهم.

* * *

وأتصور أن موقف الدول العربية تحديدا في عدم التمكين للأهالي المحاصرين وإمدادهم بالطعام والدواء، عبر حمولات جوية يتم إسقاطها إن لم يكن عبر البحر والمعابر، هو امتداد للموقف الغربي/ الصهيوني، الذي يريد خضوعا واستسلاما وانكسارا للمقاومة، بكل ما تمثله من حمولة فكرية وتاريخية وقدرة وتعبئة، نجحت على مدى 21 شهرا في تحطيم كثير من الثوابت والتابوهات الكذوبة على مستوى السياسات والمواقف من جهة، وعلى مستوى العدو وشركائه، الذين فرضوا هذه السياسات والمواقف. وهي السياسات التي وضعت الشرق العربي في الأغلال والقيود، من بعد الحرب العالمية الثانية، في منظومة إقليمية، تم ربط كل مرابطها بإحكام شديد في الأيادي الغربية الظاهرة والخفية.

وهذه أحد أهم الوجوه التاريخية الكبرى التي تتجلى من كلمة "الصمود التي قالها، وعناها بوهلر، خريج جامعة بنسلفانيا، بكل ما تعكسه ثقافته الأمريكية/ اليهودية، التي تمرست كثيرا في جولات تفاوض مع ألوان وأنواع من الرجال والمواقف من الطراز الصعب المراس.

وسيكون مهما هنا أن نعرف أنه شارك في مفاوضات طالبان أثناء رئاسة ترامب الأولى (2017/2021م) وشارك في "اتفاقات أبراهام" مع جاريد كوشنر، رفيقه في السكن أثناء الدراسة الجامعية! وكان له دور كبير في التطبيع بين إسرائيل والمغرب (2020م)..

نحن إذن أمام شخص منغمس حتى أطراف أظافره في الصراع مع عالم الإسلام، سواء كان بوصفه صهيونيا قُحا، أو أمريكيا بالمعنى الغربي التام للهيمنة الأمريكية على عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية..

* * *

على أي حال فـ"الصمود" هنا وعلى مدار 21 شهرا، وأمام الآلة العسكرية الغربية الشاملة (عسكريا ومخابراتيا) هو أحد أهم الأهداف الاستراتيجية البعيدة لـ"طوفان الأقصى" في معضلة هذا الصراع الصعب، الذي فرضه علينا الغرب من بعد خروجه من المنطقة العربية، تاركا خلفه من "يرعى مصالحه". والجملة بين الأقواس هنا تتسع، لا للدولة الصهيونية فقط، ولكن لمن يرون مصالحهم جزءا أصيلا من الغرب ومصالحه (تاريخيا واستراتيجيا).. لا جزءا أصيلا من عالم الإسلام ومصالحه (أيضا تاريخيا واستراتيجيا)..

ولا عجب في ذلك، فقد رأينا في القرنين المضطربين، العاشر والحادي عشر الميلادي وقت الحروب الصليبية أمثال هؤلاء، وبكثرة وتكرار لافت، سواء كانوا من الأغلبية المسلمة أو من الأقليات، سواء بسواء..

رأينا تواطؤا وتحالفات مع المعتدى الغريب، طوال تلك الحرب الطويلة التي صنعت علاقة الغرب والعالم العربي، ولا تزال تحدد حتى اليوم علاقاتهما، كما قال لنا بحق المفكر اللبناني/ الفرنسي أمين معلوف (76 سنة)، أمين عام الأكاديمية الفرنسية، في كتابه المهم "الحروب الصليبية كما رآها العرب" الصادر عن دار الفارابي سنة 1983م.

* * *

وسيؤكد لنا الأستاذ هيكل رحمه الله (ت: 2016م) في كتابه المعروف "سلام الأوهام.. أوسلو ما قبلها وما بعدها" هذا التوجه الغريب، صوب الغرب ومصالحه في نظرة من أضيق زوايا النظر في تاريخ السياسات والضرورات.

لنا أن نتخيل أن ما "عجز" عنه ياسر عرفات وسلطة أوسلو، يتم الترتيب له اليوم مع ياسر أبو شباب!! ويا هول المفارقات المضحكات.. ومتى؟؟ بعد أكثر من ثلاثين سنة من "عجز" الراحل العجوز، ثم خلفائه من بعده، الذين سنعرف عنهم، ونرى منهم ما يفوق التصور والوصف من التواطؤ والبلادة والحماقة والغدر، بعد أن اهتز العالم كله وتحوّل في موقفه القديم من الصراع، من بعد الطوفان

سيقول لنا بالحرف الواحد: "الإسرائيليون في حاجة إلى فصيل فلسطيني يحكم قطاع غزة بما فيه من أعباء ومشكلات، ويتولى عنهم مهمة القضاء على تلك المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، التي فشلت إسرائيل في كسر عظامها جيلا بعد جيل".. هذا الكلام قاله قائله سنة 1996م، سنة صدور الكتاب. وسيقول لنا أيضا جملة سنقرأ فيها كلمة من أكثر الكلمات دلالة على الموقف كله، وقتها وحتى اليوم: "عجز"..!!

هذا الذي نراه الآن واقعا ميدانيا في غزة، ولكنه، والحق يقال، "عجز" جديد، عجز بطعم النهايات والخواتيم الأخيرة، لكابوس "الدولة الصهيونية" الجاثم على صدر المنطقة، وتم تكريس كل مقدراتها على مقياس الهيمنة والسيطرة المكفولة لهذه الدولة من الغرب..

* * *

ماذا يقول الأستاذ هيكل؟

يقول: إن رئيس وزراء الاحتلال إسحاق رابين، رغم كونه الفائز الوحيد في اتفاقية أوسلو التي حوَّلت تل أبيب إلى شريك في الأرض، باعتراف عرفات، لم يكن ليقبل بالجلوس مع الفلسطينيين إلا بسبب "عجز" جيشه عن التعامل مع المقاومة داخل قطاع غزة.

ولنا أن نتخيل أن ما "عجز" عنه ياسر عرفات وسلطة أوسلو، يتم الترتيب له اليوم مع ياسر أبو شباب!! ويا هول المفارقات المضحكات.. ومتى؟؟ بعد أكثر من ثلاثين سنة من "عجز" الراحل العجوز، ثم خلفائه من بعده، الذين سنعرف عنهم، ونرى منهم ما يفوق التصور والوصف من التواطؤ والبلادة والحماقة والغدر، بعد أن اهتز العالم كله وتحوّل في موقفه القديم من الصراع، من بعد الطوفان. أما هم، فسينطبق عليهم حرفيا ما قاله الشاعر العراقي مظفر النواب (ت: 2022م): "تتحرك دكة غسل الموتى.. أما أنتم لا تهتز لكم قصبة.. الآن أعرّيكم في كل عواصم هذا الوطن العربي".

حاول أدم بوهر أن يقدم للإعلام والرأي العام، ما يساعده على تقديم بشارة في مسألة الهدنة والرهائن.. لكنه قال لنا وللأمة والتاريخ ما سيبقى طويلا بعد الهدنة والرهائن: "لا زالت صامدة".

x.com/helhamamy
التعليقات (0)

خبر عاجل