بات مبدأً
ذلك الذي أرسته الثورة الفيتنامية (الفيتكونغ)
في مفاوضاتها الماراثونية مع الولايات المتحدة إبان احتلال هذه الأخيرة لفيتنام
الشمالية؛ في رفضها التوقف عن عملياتها العسكرية، واستمرار قصفها لمعاقل القوات الأمريكية
والفيتنامية الجنوبية المتحالفة معها فيما كان يعرف بسايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية)
والتي أصبحت بعد التحرير "هوشه منه"، بينما كان وفدها يجلس مع الوفد الأمريكي
-الذي كان لا زال مناورا ويعتقد بوجود حلٍ سياسي- على طاولة
المفاوضات. هذا المبدأ
أصبح أحد الأسس التي تقوم عليها الانتصارات في مواجهة أساليب المناورة والخداع
والتضليل التي يمارسها المحتل على طاولة المفاوضات. هذا، في الواقع، ما تمارسه
المقاومة اليوم من معادلة في الميدان وعلى طاولة المفاوضات.
إن ما
يجري في الميدان من عمليات نوعية في ساحات بيت حانون والشجاعية، وخان يونس وعبسان،
ورفح وحي الزيتون وبني سهيلة، وغيرها، يضع بصماته على طاولة المفاوضات ويقوي من
عزيمة المفاوض الفلسطيني، ويعزز من فرض شروطه وعدم التنازل والمساومة على أساسيات إطار
وقف إطلاق النار. كما يقلص من مساحة المراوغة الإسرائيلية، ومحاولة فرض شروط
الإذعان المدعومة أمريكيا، وما تأخير وصول المبعوث ويتكوف المتعمد إلى الدوحة، بحجة
انتظار وصول المفاوضات إلى مستوى قريب جدا من التوافق بين الطرفين، إلا ضرب من
ضروب المناورة.
إن الإسرائيليين ومن ورائهم الأمريكيون يسعون من خلال هذه المراوغة والإفشال المتعمد لهذه المفاوضات لكسب المزيد من الوقت
إن
الإسرائيليين ومن ورائهم الأمريكيون يسعون من خلال هذه المراوغة والإفشال المتعمد
لهذه المفاوضات لكسب المزيد من الوقت لعدة أسباب، أولها الوصول بالكنيست الإسرائيلي
إلى انتهاء دورته الحالية ودخوله في إجازة لمدة أربعة أشهر؛ ما يمكّن
نتنياهو من
الاستمرار في حربه الإجرامية دون معارضة من الكنيست، أو تمكين أحزاب المعارضة من حجب
الثقة عن حكومته اليمينية. ثاني الأسباب، انتظار حدوث متغيرات جديدة وضاغطة في
الميدان على يد الجيش الإسرائيلي -الذي يتلقى الضربات تلو الضربات في مواجهة
المقاومة وعملياتها النوعية- بما يمكنه من تحقيق أحد أهدافه في إطلاق المزيد من
الرهائن أو جثث القتلى منهم؛ وبالتالي إرضاء الجمهور الإسرائيلي، وتهدئة اعتراض
خصومه على استمرار الحرب، بأن حربه تحقق أهدافها. وثالث هذه الأسباب طمأنة الأحزاب
اليمينية المتحالفة معه والحاضنة والداعمة لحكومته ولقراراته بأنه لن يوقف الحرب؛
هذا ما أكده ليبرمان، رئيس حزب "إسرائيل بيتنا"، بقوله "إن نتنياهو
يحاول إرضاء سموتريتش وبن غفير عبر إطالة أمد الحرب".
إن
النزول عن الشجرة، سيكلف نتنياهو ثمنا باهظا؛ منه خسارة وتفكك ائتلافه الحكومي، وربما
خسارة الانتخابات المبكرة المتوقعة، وكذلك خضوعه للمحاكمة من جديد، على خلفية مسؤوليته
عن فشل السابع من أكتوبر، والمساءلة عن قضايا فساد وجهتها له أكثر من جهة وعلى
رأسها المحكمة العليا، وزعيم المعارضة، ما يعني نهاية حياته السياسية، وإغلاق باب
السجن عليه.
لذلك
وبمشورة ودعم الرئيس الأمريكي ترامب، قرر نتنياهو تغيير أدواته تكتيكيا، وفرصة
الأسبوع التي منحه إياها ترامب لإبرام صفقة تندرج في هذا الإطار.
ومن
هذه الأدوات طلبه من الجيش إقامة ما يسمى بـ"المدينة الإنسانية" في رفح،
والتي رفضها الجيش لكلفتها العالية (15 مليار شيكل)، ولما يتطلب تنفيذها سنة واحدة
على الأقل؛ ما يعني مزيدا من الإنهاك لجيش الاحتلال. ومن المتوقع أن يحتجز نتنياهو
في هذه المدينة اللاإنسانية نحو 600 ألف فلسطيني في سجن نازي كبير يتحكم بحياتهم ويخضعهم
إلى الشروط الإسرائيلية المذلّة؛ وبالتالي يدفعهم إلى التهجير بحرا أو برا؛ ما
يشكل جريمة حرب لأنها تعتبر شكلا من أشكال التطهير العرقي. وفي الوقت ذاته، إطباق
الحصار على شمال القطاع والفتك بسكانه انتقاما وثأرا لقتلاه، بعد حرب العبوات والكمائن
التي تنفذها المقاومة بتكتيكات صدمت قادة جيش الاحتلال، وآخرها وليس أخيرها مقتل ثلاثة
جنود وإصابة ضابط بجراح خطرة داخل دبابتهم.
المقاومة التي صمدت نحو 22 شهرا في ظل حاضنتها الشعبية وقدراتها الذاتية، وبعد كل هذه الأعداد الهائلة من الشهداء والمصابين والمفقودين والدمار الكامل لكل جوانب الحياة في غزة، وبرغم كل أشكال الإبادة والمعاناة، قالت كلمتها في الميدان قبل طاولة المفاوضات، وأعلنت استعدادها للمضي في حرب استنزاف طويلة الأمد حتى انسحاب القوات الغازية وهزيمة أهداف نتنياهو
والأداة
الثانية، الحديث عن توسيع المنطقة العازلة، لتشمل نحو 40 في المئة من مساحة
القطاع. وقد برز ذلك من خلال الخرائط التي سُلّمت للوسطاء، والتي تحدثت عن إعادة
انتشارٍ لقوات الاحتلال، وليس انسحابها من القطاع، وهذا ما يشكل الأداة الثالثة.
أما الأداة الرابعة فكانت إيهام العالم بأنه وافق على مقترح ويتكوف ولكن حماس
رفضته؛ ما يحملها مسؤولية استمرار الحرب أمام الرأي العام العالمي والإسرائيلي. أما
الأداة الأخيرة فكانت القفز عن البروتوكول الإنساني الذي تضمنته الصفقة الأولى وحصره
بملف المساعدات فقط وفق الرؤية والخطة الإسرائيلية؛ على اعتبار أن المساعدات هي
السلاح الأمضى والأكثر فاعلية لإخضاع المقاومة والغزيين، وهذا ما يشكل انتهاكا قانونيا
وأخلاقيا وإنسانيا في زمن الحرب.
في
حقيقة الأمر أن ما يجري في الدوحة ما هو إلا "طبخة بحص"، ومفاوضاتٍ من
أجل المفاوضات؛ لا طائل منها سوى تبرير مواقف نتنياهو في إدارته للوقت، وإظهار
الرئيس ترامب بأنه صانع سلام، وتلميع وجه الإدارة الأمريكية بمحاولة إقناع العالم
بأنها تمارس ضغوطها على نتنياهو المتعنت والمتغطرس، والذي لا يزال يحلم "بالنصر
المطلق"، والذي قال مؤخرا: "أوافق على صفقة تبادل إذا كانت جيدة، ولن
أوافق على صفقة سيئة ".
إن كل
ما يطمح إليه نتنياهو صفقة على مزاجه تتماهى مع مصالحه وأهدافه؛ تضمن له إطلاق
سراح الرهائن بهدنة لا تزيد عن 60 يوما، تمكنه من استئناف حربه الإجرامية، تماما
مثل ما حدث في الهدنة الأولى سعيا منه للقضاء على المقاومة، وسحب سلاحها، وبسط
الحكم العسكري على
غزة والتنكيل بالأهالي، ودفعهم نحو التهجير. ولكن حسابات الحقل
لم تطابق حسابات البيدر؛ فالمقاومة التي صمدت نحو 22 شهرا في ظل حاضنتها الشعبية
وقدراتها الذاتية، وبعد كل هذه الأعداد الهائلة من الشهداء والمصابين والمفقودين
والدمار الكامل لكل جوانب الحياة في غزة، وبرغم كل أشكال الإبادة والمعاناة، قالت
كلمتها في الميدان قبل طاولة المفاوضات، وأعلنت استعدادها للمضي في حرب استنزاف طويلة
الأمد حتى انسحاب القوات الغازية وهزيمة أهداف نتنياهو، ومغادرته المعترك السياسي
خالي الوفاض، كما غادر السفير الأمريكي غراهام مارتن سايغون حافي القدمين معلنا
الهزيمة المنكرة للولايات المتحدة وحلفائها، بينما كانت المقاومة الفيتنامية تفاوض
وتنتصر في 30 نيسان/ أبريل 1975.
[email protected]