21- الابتكار وريادة الأعمال كمحرك للنمو الاقتصادي
الاستراتيجيات..
خارطة طريق للابتكار
بناء
منظومة وطنية للابتكار وريادة الأعمال يحتاج إلى رؤية استراتيجية متدرجة، تبدأ بوضع
الأساسات القوية، ثم بناء الهياكل المؤسسية، وصولا إلى نشر ثقافة الإبداع في كل مكان.
دعونا نستعرض الاستراتيجيات الأساسية بتسلسل منطقي يضمن نجاح المنظومة:
أولا:
القلعة الحصينة.. حماية الملكية الفكرية الفعّالة
لا
يمكن أن يزدهر الابتكار في بيئة يخشى فيها المبتكر على فكرته؛ المبتكر
المصري اليوم
يتردد في الكشف عن ابتكاره خوفا من السرقة، والشركات الناشئة تخسر ميزتها التنافسية
بسبب التقليد السريع. هذا الخوف يقتل الإبداع في مهده.
نحتاج
إلى نظام حماية ملكية فكرية قوي وسريع وميسور التكلفة؛ مكاتب براءات الاختراع يجب أن
تتحول من دواوين بيروقراطية تستغرق سنوات، إلى مراكز خدمة حديثة تمنح الحماية في أسابيع
لا سنوات. ونحتاج إلى محاكم متخصصة في قضايا الملكية الفكرية تصدر أحكاما سريعة ورادعة
ضد المنتهكين، لا قضايا تتعثر لعشر سنوات.
والأهم،
دعم قانوني مجاني للمبتكرين الشباب في تسجيل براءات اختراعهم، وتوعية مستمرة بأهمية
حماية الملكية الفكرية. المبتكر يجب أن ينام مطمئنا على فكرته، واثقا أن القانون يحميه،
لا خائفا أن يسرقها منه أول شريك أو مستثمر يلتقيه.
الابتكار المنعزل محدود الأثر، أما الابتكار التعاوني فمضاعف النتائج. نحتاج إلى تشجيع نماذج الابتكار المفتوح، حيث الأفكار والحلول تُشارك وتُطور جماعيا، ولا تُحتكر
ثانيا:
الابتكار الهادف.. توجيه البحث نحو التحديات الوطنية الكبرى
المشكلة
الكبرى في واقعنا الحالي أن معظم الأبحاث المصرية تُكتب لترقية الأستاذ الجامعي، لا
لحل مشكلة حقيقية. رسائل دكتوراه تُناقش ثم تُحفظ في الأدراج، وأبحاث منشورة في مجلات
عالمية لا يقرأها أحد ولا تغير شيئا في الواقع. هذا إهدار فاضح للموارد والعقول.
نحتاج
إلى خريطة وطنية للابتكار تحدد بوضوح التحديات الوطنية الكبرى: ندرة المياه، فاتورة استيراد الطاقة،
الفاقد الزراعي، جودة التعليم، الازدحام المروري، التلوث البيئي. لكل تحدٍ نطلق برنامج
ابتكار وطني بتمويل سخي وجوائز مجزية ووعد واضح الحل الناجح سيُطبق على نطاق واسع.
المِنح
البحثية والجوائز والترقيات الجامعية يجب أن تتوجه للأبحاث التطبيقية التي تعالج هذه
الأولويات. وعندما ينجح باحث مصري في
تطوير حل حقيقي -مثلا نظام ري ذكي يوفر 40 في
المئة من المياه- تلتزم الدولة بتبنيه فورا في مشاريعها، مما يمنح المبتكر السوق والمصداقية،
ويرسل رسالة واضحة الابتكار الهادف له مستقبل في مصر.
ثالثا:
الفشل السريع كاستراتيجية.. كسر حاجز الخوف
ثقافتنا
تعاقب الفشل بقسوة؛ رائد الأعمال الذي يفشل يُنظر إليه كخاسر، ولا يُعطى فرصة ثانية،
وتلاحقه ديونه ومشكلاته القانونية لسنوات. هذا يجعل الشباب يفضلون الأمان الوظيفي على
المخاطرة الإبداعية، ويقتل روح المبادرة في مهدها.
لكن
في عالم الابتكار الحقيقي، الفشل ليس نهاية بل بداية التعلم. كل الشركات العملاقة فشلت
عشرات المرات قبل النجاح. نحتاج إلى خلق بيئة آمنة للتجريب تشجع على المحاولة السريعة
دون خوف من الوصمة أو العقاب.
نحتاج إلى برامج
حق الفشل تمنح رواد الأعمال ثلاث محاولات مدعومة قبل الحكم على قدراتهم. نوادي الفاشلين
حيث يتشارك رواد الأعمال دروس فشلهم علنا ويحتفون بها كمراحل تعلم، تكسر الوصمة وتحولها
لشارة خبرة. ونحتاج إلى تشريعات إفلاس إنسانية تحمي المبتكر من الانهيار الكامل، وتمنحه
فرصة سريعة للبدء من جديد خلال شهور لا سنوات. والأهم،
تغيير الخطاب الإعلامي والمجتمعي: الفشل في مشروع ليس عارا بل تجربة ثرية،
والمحاولة أشرف من السكون.
رابعا:
من المختبر إلى السوق.. جسور نقل التكنولوجيا
في
واقعنا الحالي الابتكارات تموت في أدراج الجامعات؛ باحث يطور تقنية رائعة لتحلية المياه
بالطاقة الشمسية، لكنها تظل حبيسة المختبر لأنه لا يعرف كيف يحولها لمنتج تجاري.. أستاذ
جامعي يخترع جهازا طبيا مبتكرا، لكن لا توجد قناة تربطه بالمستشفيات أو شركات الأجهزة
الطبية.
نحتاج
إلى مكاتب نقل التكنولوجيا احترافية داخل كل جامعة ومركز بحثي، مهمتها الوحيدة تحويل
البحث العلمي إلى منتجات قابلة للتسويق. هذه المكاتب تساعد الباحث في تسجيل براءة الاختراع،
تقييم الجدوى التجارية، إيجاد شريك صناعي، وحتى تأسيس شركة ناشئة.
والأهم،
برامج (باحث- رائد أعمال) حيث يتزوج العلم بالتجارة؛ الباحث يوفر الابتكار العلمي،
ورائد الأعمال يوفر المهارات التجارية والتسويقية. هذا التزاوج هو سر نجاح وادي السيليكون
ومراكز الابتكار العالمية، وعندما يلتقي عالم المختبر برائد السوق، تولد الشركات المليارية.
خامسا:
مصانع الأفكار.. الحاضنات المتخصصة ومختبرات الابتكار المفتوحة
الخطأ
الشائع أننا ننشئ حاضنات عامة تقبل أي فكرة، لكن الحاضنات الناجحة عالميا هي المتخصصة
قطاعيا: حاضنة للتكنولوجيا الطبية مرتبطة بمستشفيات،
حاضنة للتكنولوجيا الزراعية بها مزارع تجريبية، حاضنة للتكنولوجيا المالية متصلة بالبنوك..
الخ.
نحتاج
إلى حاضنات متخصصة في مجالات الميزة النسبية المصرية؛ الطاقة الشمسية، تحلية المياه،
الزراعة الذكية، السياحة الرقمية، التصنيع الطبي.. كل حاضنة تكون نظاما بيئيا متكاملا
يضم الخبراء التقنيين، والمرشدين الناجحين، والمستثمرين المتخصصين، والعملاء المحتملين.
لكن
الأهم أن تكون هذه الحاضنات ميادين تجريب حقيقية مجهزة بأدوات التصنيع والاختبار، لا
مجرد مكاتب للاجتماعات. المبتكر في الطاقة الشمسية يجد معملا لاختبار ألواحه، والمبتكر
الزراعي يجد قطعة أرض لتجربة تقنيته، والمبتكر الطبي يجد مختبرا معتمدا لاختبار جهازه.
وإلى
جانب الحاضنات، نحتاج إلى مساحات صنع منتشرة في كل المحافظات، مجهزة بطابعات ثلاثية
الأبعاد ومعدات إلكترونية وورش تصنيع، متاحة مجانا أو بأسعار رمزية للمبتكرين لتحويل
أفكارهم لنماذج أولية. هذه المساحات أنتجت كثيرا من الابتكارات العالمية، وهي أرخص
بكثير من بناء مراكز بحوث ضخمة.
سادسا:
من رأس المال المريض إلى رأس المال الصبور
أكبر
عقبة أمام الابتكار الحقيقي هي طبيعة التمويل المتاح؛ المستثمرون التقليديون يريدون
أرباحا سريعة خلال سنة أو سنتين، بينما الابتكار التقني الجاد يحتاج سنوات من البحث
والتطوير قبل أن يصل للسوق.
نحتاج
إلى رأس مال صبور يستثمر في الابتكار طويل الأجل دون ضغوط الربح الفوري.. صندوق وطني
للابتكار الاستراتيجي بموارد حقيقية يستثمر في المشاريع ذات الأثر العميق، ورأس مال
مخاطر حكومي يتحمل المخاطرة العالية في المراحل المبكرة جدا. والأهم، تطوير نماذج تمويل
إسلامية مبتكرة -المشاركة والمضاربة- حيث يشارك الممول
في الربح والخسارة، مما يحول العلاقة لشراكة حقيقية لا دين بفوائد مركبة يخنق المشروع.
وإلى
جانب المال نحتاج تمويلا غير مالي؛ خدمات قانونية ومحاسبية مجانية، إرشادا من خبراء،
وصولا لشبكات العملاء والموردين، مساحات عمل وورش تصنيع.. كلها قد تكون أثمن من المال
في البداية.
سابعا:
العمالقة يحتضنون الصغار.. الشراكة الاستراتيجية مع القطاع الخاص
الشركات
الكبرى المصرية في الاتصالات والبنوك والصناعة تمتلك موارد ضخمة وشبكات واسعة وخبرات
عميقة، لكن دورها في دعم الابتكار محدود جدا.
نحتاج
إلى تحويل هذه الشركات لشركاء استراتيجيين في منظومة الابتكار، ونحتاج برامج الابتكار
المؤسسي حيث تفتح الشركات الكبرى أبوابها للشركات الناشئة لتطوير حلول لتحدياتها، صناديق
رأس مال مخاطر تديرها أو تساهم فيها هذه الشركات، وبرامج العميل الأول، حيث تتبنى الشركة
الكبيرة منتج الشركة الناشئة وتستخدمه، مما يمنحها المصداقية والسوق.
والدولة
نفسها كأكبر مشترٍ يجب أن تخصص نسبة من مشترياتها للشركات الناشئة والمنتجات المحلية
المبتكرة. تخيل لو أن 10 في المئة من المشتريات الحكومية -من أنظمة رقمية إلى معدات
طبية إلى حلول طاقة- ذهبت لمبتكرين مصريين بمعايير واضحة وعادلة، هذا وحده كفيل بإطلاق
مئات المشاريع الناجحة.
ثامنا:
المسابقات والجوائز.. تأجيج روح التنافس
المصريون
يحبون التنافس ويتألقون فيه؛ إطلاق مسابقات وطنية دورية للابتكار في مجالات محددة،
بجوائز مالية مجزية وفرص حقيقية لتطوير الأفكار الفائزة، يخلق حراكا إبداعيا هائلا.
جائزة وطنية سنوية كبرى للمبتكر المصري تكون بمثابة نوبل الابتكار المصرية -بجائزة
مالية ضخمة وتكريم رئاسي واحتفاء إعلامي- تجعل كل شاب يحلم بالفوز بها. وكذلك مسابقات
طلابية في المدارس والجامعات، وتحدي ابتكار تطلقه الوزارات والشركات لحل مشكلات محددة،
مع وعد بتطبيق الحلول الفائزة.
هذه
المسابقات ليست مجرد ترفيه، بل محركات حقيقية للابتكار تكتشف المواهب، تحفز الإبداع،
وتخلق زخما مجتمعيا حول الابتكار.
تاسعا:
النماذج الملهمة.. صناعة الأبطال المحليين
الشاب
المصري يحتاج لقدوة محلية يتماهى معها، لا فقط قصص ستيف جوبز ومارك زوكربيرغ البعيدة.
نحتاج إلى توثيق احترافي لقصص نجاح رواد الأعمال المصريين -الصعوبات التي واجهوها،
كيف تغلبوا عليها، لحظات اليأس والنصر- ونشرها عبر كل الوسائط.
نحتاج
إلى منصة وطنية رقمية تحتفي بالمبتكرين المصريين وتروي قصصهم بشكل جذاب، وبرامج تلفزيونية
تستضيف رواد الأعمال في أوقات الذروة، لا في منتصف الليل، ومناهج دراسية تُدرّس قصص
نجاح مصرية، لا فقط أمريكية، وجدران الشهرة في الجامعات لتخلد أسماء الخريجين المبتكرين.
عندما
يرى الشاب المصري أن ابن بلده نجح وأسس شركة وحل مشكلة وأثرى، تنكسر في عقله فكرة الابتكار
مستحيل في مصر، ويقول لنفسه: إذا استطاع هو، أستطيع أنا أيضا.
عاشرا:
الكنز المخفي.. الابتكار العكسي من السوق الشعبي
في
ورش الصاغة بخان الخليلي، وورش الميكانيكا في شبرا، ومحلات الإلكترونيات في العتبة،
هناك مبتكرون حقيقيون يُصلحون المستحيل ويطورون ويبتكرون حلولا بسيطة لمشكلات معقدة.
لكن إبداعهم يظل محصورا في نطاق ضيق، ومجهول، وغير محمي.
استراتيجية
الابتكار العكسي تعني اكتشاف هذه المواهب المخفية ودعمها. برامج استكشاف تبحث في الأسواق
الشعبية والورش الصغيرة عن ابتكارات حقيقية، وتقدم دعما مجانيا لتطوير هذه الابتكارات
وحمايتها قانونيا وتسويقها.
فميكانيكي
ابتكر قطعة غيار بديلة بتكلفة تبلغ عُشر المستوردة؛ يستحق الدعم والحماية والتسويق،
لا أن يظل مجهولا يخشى أن يسرق فكرته أول مصنع كبير. هؤلاء هم علماء الشارع، وطاقتهم
الإبداعية إذا صُقلت ودُعمت، قد تنتج ابتكارات تنافس عالميا.
حادي
عشر: الابتكار المفتوح والتعاوني.. القوة في الشراكة
الابتكار
المنعزل محدود الأثر، أما الابتكار التعاوني فمضاعف النتائج. نحتاج إلى تشجيع نماذج
الابتكار المفتوح، حيث الأفكار والحلول تُشارك وتُطور جماعيا، ولا تُحتكر.
وكذلك
منصات وطنية رقمية تجمع المبتكرين والباحثين والمطورين للعمل معا على تحديات مشتركة،
ومجتمعات ابتكار محلية تلتقي دوريا لتبادل الخبرات والأفكار، ومكتبات برمجية ومعرفية
مفتوحة المصدر تساعد المبتكرين الجدد على البناء على ما أنجزه السابقون، لا البدء من
الصفر.
نشجع
على ثقافة المشاركة لا الاحتكار، حيث مشاركة المعرفة تعود بالنفع على الجميع. عندما
يتعاون عشرة مبتكرين على حل تحدٍ واحد، تتضاعف فرص النجاح عشر مرات.
ثاني
عشر: الجسور العالمية.. الشراكات الدولية والاستفادة من المصريين بالخارج
مصر
لا يجب أن تبني منظومة ابتكار منعزلة؛ نحتاج إلى شراكات استراتيجية مع مراكز الابتكار
العالمية -وادي السيليكون، برلين، بنغالور، شنتشن- وبرامج تبادل ترسل المبتكرين المصريين
للتعلم والعمل في هذه المراكز، وتستقبل خبراء عالميين لنقل المعرفة.
والأهم،
الاستفادة من الكنز المهدر؛ ملايين المصريين في الخارج. كثير منهم يشغلون مناصب قيادية
في شركات عالمية، أو أساتذة في جامعات مرموقة، أو رواد أعمال ناجحين، أو مستثمرين أثرياء.
نحتاج إلى برنامج وطني منظم لربطهم بمنظومة الابتكار، فعندما يشعر المصري في الخارج
أن وطنه يحتاجه ويقدره ويوفر له بيئة مناسبة، سيعود أو على الأقل سيساهم. والمساهمة
ولو عن بُعد أفضل من القطيعة التامة.
ثالث
عشر: القفزة الرقمية.. الذكاء الاصطناعي وتقنيات المستقبل
العالم
يتجه بسرعة نحو الذكاء الاصطناعي، والبلوك تشين، وإنترنت الأشياء، والحوسبة الكمومية،
والتكنولوجيا الحيوية.. مصر لا يجب أن تكون مستهلكة لهذه التقنيات فقط، بل مساهمة في
تطويرها.
نحتاج
إلى مبادرة وطنية للذكاء الاصطناعي تستثمر في البحث والتطوير في هذا المجال، وتدرّب
آلاف المطورين على تقنياته، وتطبقه في حل التحديات المصرية: الذكاء الاصطناعي في الزراعة
لتوفير المياه، في الصحة للتشخيص المبكر، في التعليم للتعلم المخصص، في المرور لتقليل
الازدحام..
نحتاج
إلى مراكز تميز تقنية متخصصة في كل تقنية ناشئة، تجمع الباحثين والمطورين والشركات،
وصندوق
استثماري مخصص للمشاريع التقنية المتقدمة، وتشريعات تواكب التطور في مجالات
مثل البيانات والخصوصية والذكاء الاصطناعي الأخلاقي.
الاستثمار
اليوم في هذه التقنيات هو استثمار في موقع مصر التنافسي في عالم الغد.
رابع
عشر: الاحتفاظ بالمواهب.. لماذا يبقى المبتكر في مصر؟
لماذا
يهاجر المبتكر المصري؟ ليس فقط للراتب الأعلى، بل من أجل بيئة محفزة، ومختبرات متقدمة،
وتمويل متاح، واحترام للإبداع، وفرص للنمو، وحياة كريمة.. إذا أردنا إيقاف نزيف
العقول،
نحتاج لتوفير هذه البيئة محليا.
نحتاج
إلى حزمة حوافز للمبتكرين المتميزين: رواتب تنافسية، مسار مهني واضح، دعم
سكني، تسهيلات للأسرة، اعتراف وتقدير مجتمعي.. ومراكز تميز عالمية المستوى في مصر توفر
نفس الإمكانيات المتاحة في الخارج، ثقافة تحترم العلم والإبداع وتضع المبتكر في مكانته
اللائقة.
والأهم،
مسارات مرنة تسمح للمبتكر بالعمل فترات في الخارج ثم العودة دون خسارة مكتسباته، أو
العمل عن بُعد لشركات عالمية وهو في مصر. الهدف ليس حبس المبتكر في مصر، بل جعل مصر
خيارا جذابا يختاره بإرادته.
خامس
عشر: الابتكار داخل الجهاز الحكومي.. تغيير من الداخل
لا
يمكن بناء منظومة ابتكار وطنية بينما الجهاز الحكومي نفسه عدو للابتكار؛ الروتين القاتل،
والبيروقراطية المعقدة، والخوف من المسؤولية، كلها تقتل أي محاولة إبداعية.
نحتاج
إلى تشجيع الابتكار داخل المؤسسات الحكومية نفسها:مختبرات
ابتكار حكومية تجرب حلولا جديدة لتحسين الخدمات، وجوائز للموظف المبتكر الذي يطور طريقة
أفضل لإنجاز العمل، وحماية للمبادرين من المساءلة عند الفشل في محاولات الابتكار المدروسة،
ورقمنة شاملة للإجراءات تقضي على البيروقراطية، وشراكات بين الحكومة والقطاع الخاص
لتطوير حلول رقمية للخدمات العامة، وثقافة مؤسسية تكافئ الابتكار والكفاءة، لا الولاء
الأعمى والروتين الأعمى.
عندما
تصبح الحكومة نفسها نموذجا للابتكار والكفاءة، ستنتقل هذه الثقافة لكل المجتمع.
التحديات..
العقبات على طريق الابتكار
الطريق
نحو بناء منظومة ابتكار قوية ليس مفروشا بالورود؛ هناك عقبات حقيقية وجذرية يجب الاعتراف
بها بصراحة، لأن تجاهل المشكلة لا يحلها، بل يفاقمها. دعونا نضع الإصبع على الجرح،
لا لليأس، بل لوضع العلاج الصحيح.
- الثقافة القاتلة هي التحدي الأكبر: مجتمعنا يعاقب المخاطرة ويحتفي
بالأمان الوظيفي، والأم تفرح براتب ابنها الحكومي المحدود وتقلق من مشروعه الناشئ..
نظامنا التعليمي يخرّج حفّاظا لا مبدعين، يقتل التساؤل والفضول منذ الصف الأول الابتدائي،
والأخطر ثقافة "مش هينفع في مصر" تقتل الأفكار قبل أن تولد، فأول ما يسمعه
الشاب المبتكر "دي اتجربت وفشلت، السوق مش مستعد، الحكومة مش هتسيبك".
الثقافة تتغير بالتعليم والقدوة، والتمويل يُحل بصناديق وبرامج، والملكية تُحمى بقوانين فعالة، والبيروقراطية تُبسط بالرقمنة، والعقول تبقى ببيئة جاذبة، والخوف يُكسر بالنماذج الناجحة، والإنفاق يزيد بوعي القيادة بأهمية الابتكار، والشراكات الحقيقية تُبنى بإرادة صادقة
- صحراء التمويل تقتل الأفكار عطشا: البنوك تطلب ضمانات لا يملكها الشاب،
وفوائد تخنق المشروع، والمستثمرون الأفراد قليلون ومتحفظون يريدون أرباحا سريعة مضمونة،
وصناديق رأس المال المخاطر تركز على المراحل المتقدمة لا البدايات. التمويل الحكومي
موجود على الورق لكن الحصول عليه يتطلب مئات الاستمارات وشهور انتظار، وربما رفض بحجج
غامضة. المبتكر يقضي وقته في مطاردة التمويل بدلا من تطوير فكرته.
- المُلكية المنهوبة تجعل المبتكر يتردد في الإفصاح عن فكرته: تسجيل
براءة الاختراع يستغرق سنوات ويكلف ثروة، وحتى لو سُجلت فإن إثبات السرقة ومقاضاة السارق
يستغرق سنوات في المحاكم بتكاليف باهظة. النتيجة؟ المبتكرون يحتفظون بأفكارهم لأنفسهم
أو يهاجرون بها للخارج حيث تُحترم وتُحمى، والشركات الكبيرة تقلد ابتكارات الصغار بلا
رادع.
- البيروقراطية الخانقة تحول تأسيس شركة ناشئة إلى رحلة في متاهة: السجل
التجاري، التصاريح، التراخيص، الموافقات الأمنية.. كل منها يحتاج أياما أو أسابيع.
الضرائب والتأمينات معقدة ومتشابكة، والقوانين متضاربة وتتغير فجأة، والموظف يفسر القانون
كما يريد. ثقافة لا هي السائدة؛ الموظف يخاف أن يوافق فيُحاسب، فالأسهل له أن يرفض.
رائد الأعمال يحتاج محاميا ومحاسبا قبل أن يحتاج مبرمجا.
- هجرة العقول تصدّر أفضل ما لدينا: نستثمر في تعليم شاب موهوب سنوات،
ثم يأخذ شهادته وموهبته ويهاجر. لماذا؟ لأنه في الخارج يجد راتبا أفضل بعشر مرات، وبيئة
بحث متقدمة، واحتراما لكفاءته، وحياة كريمة. في مصر يجد راتبا لا يكفي الإيجار، ومختبرات
متهالكة، وتقديرا معدوما. المهندس المصري يبني وادي السيليكون، والطبيب ينقذ الأرواح
في أوروبا، والباحث يفوز بجوائز عالمية باسم جامعات أجنبية، بينما وطنهم يخسر عقولهم
ويكتفي بحوالاتهم.
- الخوف من المجهول يشل الحركة: كثير من المؤسسات والأفراد يخافون التغيير
(احنا اشتغلنا كده 50 سنة وماشيين)، المصنع يرفض تقنية جديدة لأنها غير مجربة، والمسؤول
يرفض مشروع ابتكار لأنه محفوف بالمخاطر.. الجميع يفضل الحلول القديمة المعروفة، حتى
لو كانت أقل كفاءة وأعلى تكلفة، على الحلول المبتكرة الجديدة. الخوف من الفشل أقوى
من الطموح للنجاح.
- ضعف الإنفاق على البحث والتطوير يكشف حجم المشكلة: مصر تنفق أقل من
1 في المئة من ناتجها القومي على البحث والتطوير، بينما الدول المتقدمة تنفق 3-4
في المئة وكوريا تتجاوز 4.5 في المئة. هذا يعني أن الأبحاث تتم بإمكانيات محدودة، والباحثون
يعملون بأدوات قديمة، والمشاريع الابتكارية الكبرى لا تجد التمويل الكافي. الرسالة
واضحة: الابتكار ليس أولوية حقيقية في الموازنة العامة.
- ضعف الشراكات الدولية الحقيقية يبقينا في العزلة: معظم الشراكات مع
الجامعات والمراكز العالمية شكلية؛ توقيع بروتوكولات وتبادل زيارات، لكن دون نقل حقيقي
للمعرفة أو التكنولوجيا. نحضر المؤتمرات لكن لا نبني مشاريع بحثية مشتركة طويلة الأمد،
نستضيف الخبراء لمحاضرة ثم يرحلون دون أن يتركوا أثرا مستداما. الانفتاح على العالم
موجود بالاسم، لكن التعاون الحقيقي العميق غائب.
هذه
التحديات ليست قائمة لليأس، بل خريطة للعمل، فكل تحدٍ هو فرصة للإصلاح. الثقافة تتغير
بالتعليم والقدوة، والتمويل يُحل بصناديق وبرامج، والملكية تُحمى بقوانين فعالة، والبيروقراطية
تُبسط بالرقمنة، والعقول تبقى ببيئة جاذبة، والخوف يُكسر بالنماذج الناجحة، والإنفاق
يزيد بوعي القيادة بأهمية الابتكار، والشراكات الحقيقية تُبنى بإرادة صادقة.
التحديات
كبيرة، لكن الإرادة أكبر، والدول التي نجحت واجهت تحديات مماثلة أو أصعب، لكنها لم
تستسلم. السؤال ليس هل التحديات موجودة، بل هل نملك الشجاعة والإصرار لمواجهتها؟ الطريق
واضح، والحلول معروفة، ينقصنا فقط القرار الجاد بالبدء والاستمرار.