مشهد
متحوّل
مع سقوط
مقرّ القيادة الرئيسية للفرقة السادسة في الفاشر واشتداد قبضة مليشيا "القوة
المتحالفة" المعروفة بالدعم السريع على أجزاء واسعة من دارفور، دخلت المعادلة
السودانية مرحلة جديدة قد تُرسّخ انقساما فعليا في الخريطة السياسية والأمنية
للبلاد؛ بين غرب تحت نفوذ
الدعم السريع وشرق تحت سيطرة الجيش السوداني. هذا
التحوّل ما هو إلا تتويج لسلسلة من الحملات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية
التي دفعت الصراع إلى فرضيات جديدة على الأمن الإقليمي، لا سيما بالنسبة لمصر.
ما حدث
فعلا على الأرض: قراءة وقائع موجزة
الاشتباكات
الدامية والحصار الطويل على الفاشر لم تكن بداية المعركة بل ذروتها؛ تقارير صحافية
ومنظمات حقوقية وثّقت حصارا استمرّ لأكثر من سنة، ضرب شبكات الإمداد وأدّى إلى
موجات نزوح ومجازر بدوافع عرقية وجماعية، بحسب شهود ومصادر ميدانية. سقوط مواقع
الجيش في قلب الفاشر يرمز إلى خسارة رمزية وعملية للسلطة المركزية في غرب السودان
ويقوّي ورقة "الواقع"، أي سيطرة الطرف الذي يمتلك القدرة على تثبيت
مواقع إقليمية قبل أي تسوية سياسية.
هذا التحوّل ما هو إلا تتويج لسلسلة من الحملات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية التي دفعت الصراع إلى فرضيات جديدة على الأمن الإقليمي، لا سيما بالنسبة لمصر
الاتهامات
الخارجية وتمويل المليشيا: قراءات وتوثيق
خلال
السنوات الماضية تراكمت اتهامات من أطراف سودانية ودولية تفيد بأن جهات إقليمية
دعمت مليشيا الدعم السريع بالمال أو المرتزقة أو اللوجستيات. تقارير عدة وصفت دورا
إماراتيا في توفير مسارات إمداد أو تسهيل انتقال مقاتلين، بينما نفت أبو ظبي تلك
الاتهامات مرارا. كذلك ظهرت تقارير عن طائرات ومحاولات توظيف مرتزقة أجانب وصلت
الى مسارح القتال، ما عمّق الشكوك الإقليمية حول تسييس أدوات الصراع. من جهة أخرى،
الولايات المتحدة اتخذت إجراءات عقابية طالت قادة من الطرفين خلال 2025، ما يعكس
تعقيدات مواقف واشنطن بين إرادة الضغط على الفاعلين ومسارات التفاوض. في كل هذه
المزاعم ينبغي التفرقة بين أدلة وثائقية، وروايات ميدانية، وادعاءات سياسية، وهي
فروق حاسمة في تقييم المسؤوليات.
لماذا
يُشكّل سقوط الفاشر تهديدا للأمن القومي المصري؟
أ. الحدود
والترابط الاجتماعي: السودان شريك استراتيجي لمصر في ملفَي الأمن والموارد
المائية؛ انهيار الدولة أو تقاسم النفوذ عبر مليشيات مسلحة يزيد من مخاطر تسلّل
مجموعات مسلحة، ويفتح ثغرات على طول الحدود الممتدة بين البلدين.
ب. قضية
نهر النيل: وجود قوة إقليمية معادية أو لا تحترم مؤسسات الدولة يعقّد إدارة ملفات
المياه والتنسيق الأمني الذي تحتاجه القاهرة لحماية مواردها المائية.
ج.
تهديدات مباشرة: احتجاز جنود أو ضرب قواعد مصرية، وتهريب سلاح وعناصر متشددة عبر
أراضٍ تهيمن عليها مليشيات، كل ذلك يترجم إلى تهديدات ملموسة على الأمن المصري
الداخلي والإقليمي. هذه القراءة تدعمها وقائع احتجاز جنود وهجمات استهدفت موقعا
مصريا في مناطق حدودية خلال الفترة الماضية، إضافة إلى تصريحات ميدانية تُظهر
استهداف مصالح مصرية.
لعبة
القوى الإقليمية: الإمارات وموازين النفوذ
التقارب
المصري-الإماراتي خلال العقد الأخير كان قائما على محاور اقتصادية وسياسية (مواجهة
الإسلام السياسي، استثمارات، دعم مالي..)، لكن هذه العلاقة تضاعفت فيها عناصر
تعقيد حين تباينت أدوات الفعل الإقليمي. الانتقادات الموجهة لأبو ظبي بشأن سياساتٍ
وصفها معارضون بأنها "تدخلية" في دول الجوار، وُضعَت في سياق استخدام
أذرع دون الدولة لتحقيق أهداف نفوذية. من المهم هنا التأكيد على نقطتين: الأولى، توجد أدلة وظروف تُطرح فيها أسئلة جدّية
عن دوره في ملف السودان (لا سيما عبر تحركات جوية وتجهيزات)، والثانية، أن
الإمارات تنفي رسميا تزويد المليشيات، وتقدّم نفسها كوسيط دبلوماسي ومانح مساعدات
إنسانية.
دور
الولايات المتحدة والرباعية الدولية: هل تمّ استبدال الموقف بالمصالح؟
واشنطن،
عبر مبعوثين وقرارات عقابية، تحاول أن تلعب دور الوسيط، لكن الموازنات بين مطلب
حماية المدنيين، والضغط على قيادات، وفتح قنوات تفاوضية؛ دفعت لتنازلات سياسية
مثيرة للجدل، مثل مقترحات هدنة أو ترتيبات انتقالية تقترح مشاركة طرفين مسلّحين
على قدم المساواة. هذا ما رأت فيه الخرطوم والجيش خسارة دبلوماسية، بينما اعتبرته
القوى الداعية للحوار مخرجا لإنهاء المعاناة الإنسانية. منطق السياسة الواقعية في
الإدارة الأمريكية الحالية، والعلاقات المالية والدبلوماسية بين طرفين إقليميين،
يجعل من الملف السوداني ساحة لتجارب ضغط وموازنة مصالح.
الفاشر لم تسقط كمدينة فقط، بل كشاهد على أن أدوات النفوذ الخارجي، إن لم تُضبط، قادرة على إعادة تشكيل خرائط الأمن القومي للدول المجاورة. وأي مراجعة مصرية لسياساتها الإقليمية لن تكون بدعة بل ضرورة بديهية؛ لحماية المصالح الوطنية والحدّ من امتداد أزمات إقليمية قد تتحوّل إلى أزمات داخلية
ماذا
ينبغي أن تفعل مصر عمليا؟ توصيات استراتيجية فورية:
- إعادة تقييم
الشراكات: مراجعة بنّاءة لآليات التعاون مع شركاء إقليميين (بمن فيهم الإمارات)
على ضوء اتساع الفجوة بين المصلحة الوطنية وممارسات بعض الشركاء.
- تعزيز
أدوات الحدّ من النفوذ المليشياوي: دعم مؤسسات الدولة السودانية الشرعية دبلوماسيا
وإنسانيا، والضغط السياسي الموّجه لمنع إعادة تكريس النفوذ المسلح عبر محفزات
إقليمية.
- آليات
مراقبة إقليمية: دفع مبادرات عربية-أفريقية مشتركة لمراقبة تدفّق الأسلحة
والمرتزقة، وربط المساعدات بآليات تحقق وشفافية.
- تبنّي
مصالحة وطنية مدنية: العمل مع شركاء دوليين لتبني حلّ يشمل ترتيبات أمنية بعيدة عن
منطق قبول انشطار الدولة، وتدعيم بدائل مدنية لإعادة بناء الدولة.
بين
الواقعية والمصلحة الوطنية
الفاشر لم
تسقط كمدينة فقط، بل كشاهد على أن أدوات النفوذ الخارجي، إن لم تُضبط، قادرة على
إعادة تشكيل خرائط
الأمن القومي للدول المجاورة. وأي مراجعة مصرية لسياساتها
الإقليمية لن تكون بدعة بل ضرورة بديهية؛ لحماية المصالح الوطنية والحدّ من امتداد
أزمات إقليمية قد تتحوّل إلى أزمات داخلية. في ملفات معقّدة مثل السودان، لا يكفي
الاتكاء على العلاقات التقليدية، بل يجب أن يكون معيار العمل هو الثمن الاستراتيجي
للمصلحة الوطنية، ودرء أي عامل يقوّضها.