صمت القوى
الكبرى، وارتفاع الجاهزية، وسلوك الأسواق العالمية يوحي بأن
النظام الدولي يقف عند
لحظة "ما قبل الانكسار"، حيث يصبح الانتظار نفسه سياسة.
لحظة "ما
قبل الحدث"
ليس أخطر ما
يمرّ به العالم اليوم هو الحروب المشتعلة أو الأزمات المعلنة، بل ذلك الصمت غير المطمئن
الذي يخيّم على مراكز القرار الدولية؛ صمتٌ لا يشبه فترات التهدئة، بل يذكّر بلحظات
تاريخية سبقت انعطافات كبرى غيّرت شكل النظام الدولي.
فبينما تخفّ
حدّة الخطاب السياسي، ترتفع مؤشرات الجاهزية: تحرّكات عسكرية بلا ضجيج، وأسواق مالية
تتصرّف وكأنها تستبق صدمة، وقوى كبرى تدير ملفات حساسة بعيدا عن الأضواء. هذا التناقض
بين هدوء السطح وقلق العمق يطرح سؤالا يتردّد همسا في عواصم القرار: هل يقف العالم
على أعتاب حدث جلل لم يُعلن بعد، لكنه يُحضَّر له بهدوء؟ إنها لحظة "ما قبل الحدث"،
حيث يصبح الصمت نفسه إشارة، ويغدو الترقّب أخطر من الفعل.
الصمت بوصفه
سلوكا استراتيجيا
بينما تخفّ حدّة الخطاب السياسي، ترتفع مؤشرات الجاهزية: تحرّكات عسكرية بلا ضجيج، وأسواق مالية تتصرّف وكأنها تستبق صدمة، وقوى كبرى تدير ملفات حساسة بعيدا عن الأضواء
في التاريخ
الحديث، نادرا ما سبقَت التحولات الكبرى ضوضاء إعلامية أو خطابات تصعيدية مباشرة. على
العكس، كثيرا ما جاءت الانعطافات الحاسمة بعد فترات صمت محسوب، حين اختارت القوى الكبرى
خفض سقف الكلام ورفع مستوى الاستعداد. هذا النمط يتكرر اليوم بوضوح: تراجع التصريحات
النارية، غياب المبادرات الدبلوماسية الكبرى، وتأجيل الحسم في ملفات تبدو ناضجة ظاهريا،
من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، ومن تايوان إلى أسواق الطاقة. في المقابل، تتحرك الجيوش
بهدوء، وتُعاد صياغة سلاسل الإمداد، وتُكدَّس الموارد الاستراتيجية، وكأن النظام الدولي
بأكمله دخل مرحلة "التحصين قبل العاصفة".
هذا السلوك
لا يعكس فقدان رؤية، بل غالبا يعكس إدراكا مشتركا بأن حدثا غير عادي يلوح في الأفق،
وأن الإفصاح المبكر عنه قد يقيّد حرية الحركة أو يرفع كلفته السياسية. فحين تصمت القوى
الكبرى، لا تفعل ذلك بدافع الاطمئنان، بل بدافع الحساب الدقيق؛ حساب التوقيت، وحجم
الصدمة، وقدرة الخصوم على الرد. الصمت هنا
ليس فراغا، بل أداة قوة، وإشارة إلى أن ما يُحضَّر له أكبر من أن يُدار عبر التصريحات
أو البيانات.
مؤشرات الترقّب
العالمية (عسكريا، اقتصاديا، سياسيا)
لا يقتصر الإحساس
العالمي بأن "شيئا كبيرا يُحضَّر" على المزاج العام أو التحليل الانطباعي،
بل تدعمه مؤشرات ملموسة ومتزامنة عبر ثلاثة مسارات رئيسة:
- عسكريا،
تشهد مناطق التماس الاستراتيجية رفعا هادئا لمستويات الجاهزية دون إعلان نيات واضحة:
انتشار بحري متزايد، ومناورات دفاعية توصف بأنها "روتينية"، وإعادة تموضع
للقوات بدل حشدها العلني، وهو نمط يرتبط عادة بالتحضير لسيناريوهات مفتوحة لا يراد
لها أن تُقرأ مسبقا.
- اقتصاديا،
تتصرف الأسواق والدول بمنطق استباق الصدمة لا إدارة الاستقرار؛ ارتفاع الطلب على الذهب،
وتوجّه بنوك مركزية إلى تعزيز الاحتياطات، وإعادة رسم سلاسل التوريد، وتباطؤ قرارات
الاستثمار الكبرى، وكلها إشارات إلى توقّع اختلال واسع لا أزمة عابرة.
- أما سياسيا،
فيتجلى الترقّب في غياب المبادرات الكبرى، وتأجيل التسويات، وتفضيل "إدارة الوقت"
بدل حسم الملفات، وكأن النظام الدولي يشتري مهلة قصيرة قبل استحقاق لا يمكن تفاديه.
هذا التلاقي
بين المؤشرات العسكرية والاقتصادية والسياسية لا يحدث مصادفة، بل يعكس وعيا ضمنيا بأن
مرحلة ما بعد الاستقرار الهش تقترب، وأن العالم يقف عند عتبة تحول قد يعيد تعريف قواعد
اللعبة بأكملها.
متى يصبح الصمت
إشارة خطر؟
ليس الصمت
في السياسة الدولية فراغا، بل قرارا، وحين تجتمع هذه المؤشرات، فإن التاريخ يُخبرنا
أننا نكون عادة على مشارف تحوّل كبير:
- القوى
الكبرى تُخفّض خطابها العلني لكنها ترفع مستوى الجاهزية الفعلية.
- تُدار
الأزمات الحساسة بعيدا عن المنصّات الدولية.
- تتقدّم
الحسابات الأمنية على المبادرات الدبلوماسية.
- تتحرّك
الأسواق وكأنها تستعد لصدمة لا لأزمة.
- ينشغل
الإعلام العام بقضايا هامشية بينما تُدار الملفات الثقيلة في الظل.
عند هذه النقطة،
لا يكون السؤال: هل سيقع الحدث؟ بل: من سيتحمّل كلفته، ومن سيفرض قواعد ما بعده؟
سيناريوهات
الحدث الجلل المحتمل: بين الحرب والصدمة والضربة غير المتناظرة
في لحظات الترقّب
الكبرى، لا يكون السؤال عمّا إذا كان الحدث سيقع، بل عن شكله وطبيعته.
السيناريو
الأول يتمثل في حرب أوسع نطاقا، قد لا تبدأ بإعلان رسمي ولا بهجوم تقليدي، بل بانزلاق
محسوب في إحدى مناطق الاحتكاك الساخنة، حيث تتقاطع الحسابات الإقليمية مع رهانات القوى
الكبرى. مثل هذه الحرب لن تكون شاملة بالمعنى الكلاسيكي، لكنها ستكون كافية لإعادة
رسم خطوط الردع وفرض وقائع جديدة قبل أي تسوية.
السيناريو
الثاني هو صدمة
اقتصادية كبرى، لا تقل أثرا عن الحروب العسكرية؛ انهيار مفاجئ في سوق
حيوية، وتعثّر مالي واسع، أو اهتزاز في عملة مرجعية، قد يكون الأداة الأقل كلفة سياسيا
والأكثر تأثيرا استراتيجيا لإعادة ضبط موازين القوة. هذا النوع من الصدمات غالبا ما
يأتي بلا إنذار مباشر، ويُقدَّم لاحقا بوصفه نتيجة "عوامل تقنية"، رغم كونه
نتاج حسابات سياسية عميقة.
أما السيناريو
الثالث، وربما الأخطر، فهو الضربة غير المتناظرة: حدث نوعي لا يشبه ما اعتاده العالم،
يستهدف بنية حساسة بدل جبهة عسكرية، ويقلب المعادلات دون الحاجة إلى حرب مفتوحة. قد
تكون ضربة سيبرانية واسعة، أو تعطيلا للبنى التحتية الحيوية، أو تسريبا معلوماتيا مزلزلا
يغيّر مواقف الرأي العام ويقيد خيارات صانعي القرار. في هذا السيناريو، تكمن الخطورة
في الغموض؛ فلا فاعل معلنا، ولا رد واضحا، ولا قواعد اشتباك مستقرة.
ما يجمع هذه
السيناريوهات هو أنها جميعا تتجاوز منطق الأزمات التقليدية، وتعكس استعداد النظام الدولي
لانتقال حاد لا يُدار عبر المؤتمرات أو البيانات، بل عبر الصدمة. وبينما يترقّب العالم
شكل الحدث الجلل، يبقى الثابت الوحيد أن ما بعده لن يشبه ما قبله، وأن مرحلة الانتظار
ليست سوى الهدوء الذي يسبق إعادة ترتيب شاملة لقواعد اللعبة الدولية.
لماذا يبدو
العالم عاجزا عن تسمية ما ينتظره؟
المفارقة أن
هذا الترقّب العالمي لا يصاحبه وضوح في التوصيف أو توافق على طبيعة الخطر، وكأن النظام
الدولي يعرف أن حدثا جللا قادما، لكنه لا يملك بعد لغة تسميته.
يعود ذلك إلى
أن التحولات المحتملة لا تنتمي إلى نمط واحد مألوف؛ فهي ليست حربا تقليدية يمكن التحذير
منها، ولا أزمة اقتصادية يمكن احتواؤها بأدوات السوق، ولا حتى صراعا سياسيا يمكن التفاوض
حوله؛ نحن أمام لحظة تتقاطع فيها المخاطر، وتذوب فيها الحدود بين الأمن والاقتصاد والتكنولوجيا،
ما يجعل الإفصاح المبكر عنها بمثابة كشفٍ لأوراق لا ترغب القوى الكبرى في إظهارها.
لهذا، تفضّل
العواصم المؤثرة الإبقاء على الغموض، ليس لأن الرؤية غائبة، بل لأن تسمية الخطر تعني
الالتزام بكيفية التعامل معه. وحين تكون الخيارات محدودة أو مكلفة، يصبح الصمت خيارا
استراتيجيا بحد ذاته. في هذه اللحظة تحديدا، لا يُدار العالم بمنطق المبادرة، بل بمنطق
تقليل المفاجآت والاستعداد لأسوأ الاحتمالات دون إعلانها. وهكذا، يتحوّل "الانتظار"
من حالة سلبية إلى سياسة قائمة بذاتها، تُراهن على أن معرفة التوقيت أهم من معرفة التفاصيل.
في لحظات كهذه،
لا يكون الخطر في الجهل بما سيحدث، بل في الاعتياد على الانتظار وكأنه وضع طبيعي. التاريخ
يُظهر أن النظم الدولية لا تنهار فجأة، بل تدخل أولا مرحلة صمت مُربك، حيث تُدار المخاطر
خلف الأبواب المغلقة، ويُترك الرأي العام أمام إشارات ناقصة.
ما يعيشه العالم اليوم ليس فراغا في القيادة ولا هدوءا عابرا، بل مرحلة فاصلة بين نظام يتآكل وآخر لم يولد بعد
وما يعيشه
العالم اليوم يشبه تلك اللحظات التي سبقت أزمات كبرى، حين كان الجميع يشعر بأن الأرض
تهتز، لكن أحدا لا يملك رفاهية الإعلان عن مصدر الزلزال. في هذا السياق، يصبح الترقّب
نفسه علامة على اقتراب التحوّل، لا دليلا على الاستقرار.
خاتمة استشرافية:
ما بعد الانتظار.. عالم مختلف
ما يعيشه العالم
اليوم ليس فراغا في القيادة ولا هدوءا عابرا، بل مرحلة فاصلة بين نظام يتآكل وآخر لم
يولد بعد؛ لحظة تتراجع فيها اللغة الصاخبة، لأن الفعل القادم سيكون أثقل من أن يُمهَّد
له بالكلمات، وحين يقع الحدث الجلل -أيا كان شكله-لن يكون مفاجئا لمن قرأ مؤشرات الصمت،
لكنه سيكون كاسرا للتوازنات القائمة.
السؤال الحقيقي
إذن ليس: متى سيقع الحدث؟ بل: من سيكون مستعدا لما بعده، ومن سيكتشف متأخرا أن الانتظار
لم يكن حيادا، بل اختبارا للقدرة على البقاء والتكيّف؟ في عالم ما قبل الانفجار، لا
تُقاس القوة بما يُقال، بل بما يُحضَّر في صمت.
_________
المراجع والتحليلات
الداعمة
2.
Chatham House
(Royal Institute of International Affairs)- Global Strategic Trends & Risk Forecasts