قضايا وآراء

كيف أعادت حرب غزة تعريف حدود الوساطة الأمريكية؟

محمد الصاوي
"لم تعد الولايات المتحدة وسيط سلام بالمعنى الكلاسيكي، بل أضحى دورها أقرب إلى مدير أعطال في نظام إقليمي متآكل"- البيت الأبيض
"لم تعد الولايات المتحدة وسيط سلام بالمعنى الكلاسيكي، بل أضحى دورها أقرب إلى مدير أعطال في نظام إقليمي متآكل"- البيت الأبيض
شارك الخبر
بينما يتصاعد الحديث عن دور أمريكي لاحتواء التوتر بين القاهرة وتل أبيب، تكشف حرب غزة أن واشنطن لا تسعى إلى رأب الصدع بقدر ما تُدير تصدّعات سلام بارد بات مهددا بالتآكل.

مقدّمة: السؤال الخطأ والسؤال الصحيح

مع تصاعد حرب غزة منذ أواخر عام 2023، عاد الجدل مجددا حول طبيعة العلاقات المصرية-الإسرائيلية، ليس بوصفها علاقة سلام مستقرة، بل كمعادلة دقيقة قائمة على توازنات أمنية هشّة. وفي قلب هذا الجدل، طُرح سؤال واسع الانتشار: هل يقود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جهودا حقيقية لرأب الصدع بين القاهرة وتل أبيب؟

غير أن هذا السؤال، على وجاهته الإعلامية، يخفي إشكالية أعمق: هل يوجد أصلا "صدع" بالمعنى الدبلوماسي الكلاسيكي، أم أننا أمام تآكل وظيفي داخل سلام بارد؟ وهل الوساطة الأمريكية، في صيغتها الراهنة، مؤهلة لإنتاج تسوية سياسية، أم أنها تكتفي بتنظيم وقف إطلاق النار وإدارة الأزمات دون معالجة الجذور السياسية العميقة؟

التجربة التاريخية في المفاوضات الإقليمية تُظهر أن واشنطن نادرا ما تستخدم هذا النفوذ استخداما حاسما إذا تعارض مع حساباتها الداخلية أو تحالفاتها التقليدية

يجادل هذا المقال بأن الدور الأمريكي، بقيادة ترامب، لا يهدف إلى إعادة بناء العلاقة بين مصر وإسرائيل، بل يسعى إلى احتواء التوترات المتراكمة داخل إطار سلام قائم لكنه مأزوم سياسيا .

من السلام البارد إلى التنسيق القَلِق

منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979، تشكّلت العلاقات المصرية-الإسرائيلية وفق معادلة غير متكافئة: سلام رسمي وتعاون أمني محدود مقابل فتور سياسي وشعبي مزمن. وقد وصف بعض الباحثين هذا النمط بـ"السلام البارد"، في إشارة إلى استمرار آليات الهدوء العام رغم غياب الثقة العميقة والتحالف الاستراتيجي الحقيقي بين الطرفين.

لكن حرب غزة (2023-2025) دفعت هذا السلام البارد إلى مرحلة أكثر هشاشة، حيث تحوّل إلى تنسيق قَلِق تحكمه الضرورة الأمنية أكثر مما تضبطه الرؤية السياسية المشتركة.

برزت هذه الهشاشة في خلافات حول ملفات مركزية، منها:

- مستقبل قطاع غزة بعد الحرب.

- رفض مصر لأي تهجير قسري لسكان القطاع.

- إدارة الحدود والمعابر (مثل رفح).

- طبيعة "اليوم التالي" لحركة حماس.

هذه الخلافات لا تعني انهيار العلاقة، لكنها تكشف تصدّعات استراتيجية عميقة مستمرة.

الوساطة الأمريكية: نفوذ بلا حسم

تمتلك الولايات المتحدة أدوات ضغط واسعة على إسرائيل، تشمل المساعدات العسكرية، والدور الدبلوماسي في المحافل الدولية، والتنسيق الاستخباراتي. غير أن التجربة التاريخية في المفاوضات الإقليمية تُظهر أن واشنطن نادرا ما تستخدم هذا النفوذ استخداما حاسما إذا تعارض مع حساباتها الداخلية أو تحالفاتها التقليدية.

في عهد ترامب، تتعزز هذه المحدودية بفعل اعتبارات انتخابية داخلية وحساسية العلاقة مع اللوبي المؤيد لإسرائيل. هذا يدفع إلى مقاربات قصيرة الأجل تقوم على احتواء الأزمات بدل حلّها.

قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعليقا على التقدم في المفاوضات لإنهاء الحرب في غزة: "لقد اتفقت إسرائيل وحماس على المرحلة الأولى من خطة السلام التي طرحتها، وهذه خطوة تاريخية نحو إنهاء الحرب في غزة" (تعليق للرئيس ترامب بعد إعلان أول تقدم في تنفيذ خطة وقف إطلاق النار في القطاع).

في هذا السياق، لم تعد الولايات المتحدة وسيط سلام بالمعنى الكلاسيكي، بل أضحى دورها أقرب إلى مدير أعطال في نظام إقليمي متآكل: لا تسعى إلى إصلاح جذور الصراع، بل إلى منع انهياره الكامل مع كل دورة تصعيد.

مصر: وسيط بنديّة لا تفويض

على عكس بعض القراءات التبسيطية، لا تتحرك القاهرة بوصفها تابعا للسياسة الأمريكية. فالدور المصري في ملف غزة يستند إلى محددات استراتيجية واضحة:

- حماية الأمن القومي.

- رفض التهجير القسري لسكان القطاع.

-الحفاظ على الدور الإقليمي لمصر كوسيط مركزي.

وخلال جولات المفاوضات في شرم الشيخ، أعرب الرئيس عبد الفتاح السيسي عن دعم مصر لاستمرار جهود إنهاء الحرب، مؤكدا أن "مصر حريصة على أن يكون لها تفاعل إيجابي في القضية الفلسطينية، ونحن نبذل جهودا متواصلة لدعم أي مسار يؤدي إلى وقف الحرب وتحقيق السلام" (تصريح للرئيس السيسي في سياق مفاوضات وقف الحرب في غزة).

كما رحّب السيسي بخطة وقف الحرب والتنسيق مع قادة دوليين مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مما يُظهر دورا متعدد الأطراف لمصر في تسريع مسار وقف إطلاق النار وتهيئة المناخ للمفاوضات.

إسرائيل: أمن بلا أفق سياسي

تواجه إسرائيل مأزقا استراتيجيا يتمثل في غياب رؤية سياسية واضحة لمرحلة ما بعد الحرب. التصريحات الرسمية تشير إلى أن المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، التي تشمل نزع سلاح حماس، وانسحاب القوات، وتشكيل حكومة مؤقتة تحت إشراف دولي، ما زالت موضع تفاوض وصراع سياسي داخلي. هذا الغموض يعقّد أي محاولة وساطة، ويضع مصر والولايات المتحدة أمام معضلة حقيقية: كيف يمكن بناء ترتيبات مستقرة دون شريك سياسي إسرائيلي يمتلك رؤية متكاملة لما بعد الحرب؟

غزة في السياق الدولي الأوسع
الغموض يعقّد أي محاولة وساطة، ويضع مصر والولايات المتحدة أمام معضلة حقيقية: كيف يمكن بناء ترتيبات مستقرة دون شريك سياسي إسرائيلي يمتلك رؤية متكاملة لما بعد الحرب؟

لا يمكن فهم حدود الوساطة الأمريكية في الملف المصري-الإسرائيلي بمعزل عن التحولات الأوسع في موقع الولايات المتحدة داخل النظام الدولي. فمن أوكرانيا إلى تايوان، ومن البحر الأحمر إلى الخليج، يظهر نمط متكرر في السياسة الأمريكية: إدارة الأزمات بدل حلّها، وذلك بسبب تراجع القدرة -وربما الرغبة- في فرض تسويات سياسية مكلفة، مقابل تفضيل مقاربات تحافظ على الحد الأدنى من الاستقرار. وفي هذا الإطار، لا تبدو غزة استثناء، بل حلقة جديدة في سلسلة أزمات تُدار ولا تُحل.

وقد أعلنت الولايات المتحدة مؤخرا أنها ستستضيف مؤتمرا دوليا في الدوحة في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2025 لبحث إنشاء قوة دولية لتثبيت الاستقرار في غزة، بمشاركة أكثر من 25 دولة، في محاولة لمعالجة الأبعاد الأمنية لمنع تجدد الحرب.

سيناريوهات المرحلة المقبلة

مع استمرار تنفيذ المرحلة الأولى من خطة وقف إطلاق النار (التي شهدت زيارات مصرية وأمريكية لشرم الشيخ لمتابعة تنفيذ الاتفاق) وبدء التنقل نحو المرحلتين التاليتين، يمكن تحديد عدة سيناريوهات للمرحلة المقبلة:

السيناريو الأول: الاحتواء المستمر (المرجّح)

- تنسيق أمني بين القاهرة وتل أبيب.

- خلافات سياسية تُدار ضد انفجار جديد.

- دور أمريكي مهدّئ وليس حاسما.

السيناريو الثاني: التوتر المكتوم

- توتر دبلوماسي محدود بين القاهرة وتل أبيب.

- زيادة الضغوط المصرية على إدارة المرحلة الثانية.

- ضغوط أمريكية محدودة على إسرائيل.

السيناريو الثالث: الاختراق السياسي (الأقل احتمالا)

يتطلب ضغطا صريحا من واشنطن على إسرائيل، ودعما دوليا لآليات تنفيذ ترتيبات ما بعد الحرب. هذا السيناريو يبقى الأضعف بسبب الانقسامات الإقليمية وضعف القوة السياسية الأمريكية للتوصل إلى حل شامل.

خاتمة: إدارة التصدّع كسياسة دائمة

لا تقود الولايات المتحدة، في عهد ترامب، مشروعا لرأب الصدع بين مصر وإسرائيل، بل تُمارس سياسة إدارة تصدّعات متراكمة داخل علاقة سلام فقدت مضمونها السياسي وباتت قائمة على الضرورة الأمنية وحدها. وقد تنجح هذه المقاربة مؤقتا في منع الانفجار، لكنها تحمل في طياتها خطرا أكبر: تحويل الأزمات المؤجلة إلى أزمات أكثر تعقيدا.

فكلما طال أمد إدارة الأزمة دون معالجة جذورها، ازدادت احتمالات أن يتحول السلام البارد إلى سلام هش، ثم إلى مواجهة مفتوحة. وعندها، لن يكون السؤال: لماذا فشلت الوساطة الأمريكية؟ بل: لماذا أُتيح لهذا الفشل أن يستمر كل هذا الوقت؟
__________
المراجع (موثوقة وقابلة للتحقق)

أولا: مصادر دولية إخبارية موثوقة
1. Reuters - What do we know about Trump’s Gaza deal?
2. Reuters - US to host international conference on Gaza stabilization force plans
3. Associated Press - Israel faces questions over ‘day after’ Gaza war
4. Al Jazeera English - Gaza ceasefire talks progress in Egypt
ثانيا: بيانات وتصريحات رسمية أمريكية
5. The White House - Statements on Gaza ceasefire efforts
6. U.S. Department of State - Press Briefings on Gaza

ثالثا: مصادر مصرية رسمية وإعلام موثوق
7. Masrawy - Details of Trump’s Gaza peace plan
8. Masrawy - President Sisi calls for ending Gaza war
9. Ahram Online - Sisi, Macron discuss Gaza ceasefire efforts

رابعا: مراكز أبحاث وتحليل استراتيجي
10. Chatham House - Egypt’s role in Gaza war and regional security
11. Brookings Institution - U.S. mediation limits in the Middle East
التعليقات (0)