19- استراتيجيات نهضة التعليم في مصر: من الحفظ إلى الإتقان، ومن التلقين إلى الإبداع
في
زمنٍ تُقاس فيه قيمة الأمم بعدد العقول لا بعدد الثروات، تقف مصر أمام لحظة فاصلة في
تاريخها؛ إما أن تختار طريق النهضة عبر التعليم، أو تظل أسيرة نظمٍ حفظت أسماء المقررات
وضيّعت معنى المعرفة. فكل أمةٍ نهضت؛ نهضت من مقعد الدراسة، لا من منصة الخطابة. ومن
هنا يبدأ السؤال الأكبر: كيف تتحول المدرسة المصرية من قاعة للحفظ إلى مصنعٍ للإتقان،
ومن التلقين إلى الإبداع، ومن الشهادة الورقية إلى الشهود الحضاري؟
ؤ فكما قررت اليابان بعد الحرب أن العقل هو الثروة، يمكن لمصر
أن تعلن أن المعرفة هي رأس مالها الحقيقي.
لكن
الرؤية لا تكفي دون حاملٍ بشريٍّ يصنعها ويؤمن بها؛ ذلك الحامل هو المعلم، القلب الذي
يضخ الحياة في شرايين التعليم. لا يمكن لأي إصلاح أن ينجح ما لم يُعَد الاعتبار للمعلم
ماديا ومعنويا، وتُعد إليه مكانته الاجتماعية التي كانت يوما تضاهي مكانة الطبيب والقاضي.
إنّ المعلم الذي يزرع الفضول في عقل طفل، أخطر على الجهل من ألف وزير، وأشد تأثيرا
في مصير أمة من كل الخطب والبيانات. في التجارب التي نجحت -من فنلندا إلى كوريا- لم
يكن السر في الأجهزة أو المناهج، بل في من يقف أمام السبورة. في الرؤية الإسلامية،
المعلم ليس موظفا في الدولة، بل صاحب رسالة ربانية:إن
الله وملائكته وأهل السماوات والأرض ليصلّون على معلم الناس الخير. حين يتحول
التعليم إلى عبادة، يتحول الوطن كله إلى محراب حضارة.
أما
المدرسة فهي ليست جدرانا ولا مقاعد، بل بيئة حية تصنع
الإنسان. المدرسة التي نريدها
ليست تلك التي تُخضع الطالب لرهبة الامتحان، بل تلك التي تفتح أمامه نوافذ السؤال.
لا نريد تلميذا يحفظ الإجابة، بل جيلا يسأل السؤال الصحيح. الطفل الذي يتعلم اليوم
كيف يفكر، سيعرف غدا كيف يصنع المستقبل. لذلك لا بد من إعادة تعريف المدرسة كمجتمعٍ
للتعلّم، لا كمصنعٍ للشهادات، وأن تتحول الفصول إلى معامل صغيرة يعيش فيها الطالب التجربة،
ويخوض غمار البحث والاكتشاف.
المناهج
بدورها تحتاج إلى ثورة هادئة في الفكرة والروح، لا في الشكل فقط. ليست المشكلة في كثرة
المعلومات، بل في غياب المعنى. ما فائدة أن نحشو العقول بالمعارف إن كنا لا نربطها
بالحياة؟ المطلوب مناهج تربط الفيزياء بالواقع، واللغة بالثقافة، والتاريخ بالهوية،
مناهج تُعلّم الطفل أن القيم ليست درسا في كتاب، بل سلوكا في الشارع والعمل. لقد آن
الأوان أن ننتقل من التعليم الذي يُكدّس المعلومات إلى التعليم الذي يُشعل العقول.
ولن
تقوم نهضة اقتصادية دون تعليم فني حقيقي، فلعقودٍ طويلة، عومل التعليم الفني في مصر
كخيارٍ ثانٍ، مع أنه في الدول الصناعية هو الخيار الأول. في ألمانيا وكوريا وسنغافورة،
كانت الثورة الصناعية والثقافية معا تبدأ من الورشة والمصنع، لا من القاعة الجامعية.
التعليم الفني الجيد لا يصنع فقط المهارة، بل يخلق الاحترام للعمل اليدوي، ويربط المدرسة
بسوق الإنتاج. في الإسلام؛ العامل الماهر ليس أقل شأنا من العالم، بل شريكه في الإتقان، إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه.
وفي
عصر الرقمنة، لا يمكن أن نُبقي التعليم حبيس الورق والسبورة. التعليم الرقمي ليس رفاهية،
بل ضرورة وجود، لكن الخطأ الأكبر أن نحصره في الأجهزة والشاشات. التحول الرقمي الحقيقي
هو أن نخلق عقلية جديدة تفكر رقميا، تربط المعرفة بالحياة، وتفتح أمام الطالب أفق التعلم
المستمر مدى الحياة. نحتاج إلى منصة وطنية موحدة للتعليم الإلكتروني، تُربط فيها المدارس
والجامعات ومراكز التدريب، ليصبح التعلم متاحا لكل مواطن في أي مكان وزمان، ضمن منظومة
تحافظ على القيم والهوية وتستثمر التقنية في خدمة الإنسان، لا في محوه. غير أن كل ذلك
لن يثمر ما لم يُمنح التعليم استقلاله.
التجربة
الإسلامية في الوقف التعليمي قدمت نموذجا مبهرا في الإدارة الذاتية والاستدامة، فالمدارس
النظامية في بغداد والقرويين في فاس والأزهر في القاهرة، جميعها قامت على فكرة أن المؤسسة
التعليمية مستقلة في مواردها وإدارتها ومعاييرها. يمكن لمصر اليوم أن تحيي هذا النموذج
بصيغة معاصرة: صناديق وقفية تعليمية تُدار باحتراف، تضمن تمويلا مستقلا وجودة دائمة
ومساءلة شفافة. فالاستقلال مع الشفافية هو الطريق إلى الجودة مع الاستدامة.
ويبقى
التعليم في النهاية مشروعا لبناء الإنسان لا إنتاج الموظف، فالعلم بلا قيمٍ فراغ، والمعرفة
بلا أخلاقٍ خطر. النهضة التعليمية في مصر يجب أن تبنى على الرؤية الإسلامية التي توحّد
بين العقل والعقيدة، بين التقنية والروح، بين الكفاءة والإيمان. الهدف ليس أن نصنع
أدمغة ماهرة فحسب، بل أن نربي إنسانا يعرف ربه ويخدم وطنه ويعمر الأرض بإتقان. فالعلم،
كما قال ابن القيم، إمام العمل، والعمل تابعه، والعمران في الإسلام عبادة لا وظيفة.
حين
يرتبط التعليم بالاقتصاد الوطني، تصبح الجامعة بيت خبرة يخدم الصناعة، وتصبح الكلية
مشروعا إنتاجيا لا مصنعا للشهادات. التعليم الناجح هو الذي يخلق فرص العمل لا البطالة،
ويربط التخصص بحاجة السوق لا برغبة الطالب وحدها. فالعلاقة بين التعليم والإنتاج هي
ما يحدد اتجاه الأمة: هل تسير إلى المستقبل أم تدور حول نفسها؟
ومهما
تعددت الخطط، ستظل النهضة مسؤولية جماعية. الأسرة، والمسجد، والإعلام، ورجال الأعمال،
والمغتربون، جميعهم شركاء في هذه المعركة الحضارية. فالتعليم لا ينهض بقرار وزاري،
بل بإيمان وطني، وحين يتعلم كل مواطن أن المدرسة بيته، والمعلم قدوته، والطالب ابنه،
يصبح التعليم مسؤولية الجميع.
التعليم
في جوهره ليس رفاهية دولة، بل عبادة أمة. هو قراءة أخرى لآية الوجود، وتطبيق حديثٍ
على أول أمرٍ نزل في الوحي: اقرأ. من تلك
الكلمة بدأت الحضارة، ومن تلك الكلمة يمكن أن تبدأ مصر من جديد. فمصر التي علّمت الدنيا
يوما كيف تقرأ، قادرة أن تُعلّم نفسها اليوم كيف تنهض، إذا جعلت من التعليم ثورتها
الكبرى، ومن الإتقان طريقها إلى الله والعالم معا.
تحديات
نهضة التعليم في مصر: حين تصبح المعرفة رهينة الورق
في
كل مرة نحلم فيها بنهضة تعليمية في مصر، نصطدم بالحائط نفسه: منظومة ضخمة تشبه عملاقا
هرما يئنّ من البيروقراطية، لا يقدر على السير نحو المستقبل ولا يملك شجاعة العودة
إلى الوراء. التعليم في مصر لا يُعاني من نقص الأفكار بقدر ما يُعاني من فيضها دون
تطبيق، ومن نوايا حسنة تصطدم بجدران الواقع الصلبة. وإذا كانت الرؤية واضحة، فإن الطريق
إليها محفوف بتحديات عميقة لا تُحلّ بقرارات فوقية، بل بإعادة بناء المنظومة من جذورها.
أخطر
هذه التحديات أن التعليم في مصر يعيش ازدواجية لا حسم فيها: نريد مدرسة عصرية بمناهج
رقمية، لكننا ما زلنا نقيس النجاح بعدد الأوراق المختومة؛ نريد معلّما مبدعا، لكننا
نحاصره بلوائح وإدارات لا ترى فيه سوى موظف حكومي؛ نرفع شعار التفكير لا الحفظ، ثم
نعيد إنتاج امتحانات تُكافئ من يحفظ وتُعاقب من يفكر. هذه المفارقة اليومية هي التي
تُفرغ أي إصلاح من روحه قبل أن يبدأ.
المعلم
الذي هو قلب العملية التعليمية، هو أول الضحايا؛ يعيش بين مطرقة ضيق المعيشة وسندان
التهميش الإداري، في الصباح يُطلب منه أن يُلهم طلابه، وفي المساء يبحث عن دروس خصوصية
ليكمل نفقاته. كيف يمكن لرسول العلم أن يُشعل في تلاميذه نار المعرفة وهو نفسه يطفئها
بقهر الحاجة؟ لا يمكن لنهضة أن تقوم على معلمٍ منهك، ولا لرسالة أن تُبلّغها أفواه
عطشى. إن استعادة كرامة المعلّم ليست مطلبا فئويا، بل خطوة أولى في طريق النهضة الوطنية.
أما
المناهج فهي قصة أخرى من الألم الطويل، فلا تزال كتبنا المدرسية تُعامل الطالب كما
لو كان خزانة تحفظ ما يُلقى فيها، لا عقلا يفكر. في زمن الذكاء الاصطناعي ما زلنا نُصر
على قياس الذكاء بعدد الإجابات الصحيحة، لا بعدد الأسئلة الذكية. محتوى ثقيل، محشوّ،
متكرر، يقتل الفضول بدل أن يُغذيه، ويُغلق النوافذ على عقولٍ عطشى للدهشة. والنتيجة:
طالب يحفظ ولا يفهم، ينجح ولا يتعلم، يتخرج ولا يجد نفسه في سوقٍ يتغيّر كل يوم.
المدرسة
نفسها أصبحت -في كثير من الأحيان- مكانا لإدارة الوقت لا لصناعة الإنسان؛ ازدحام، ضوضاء،
مبانٍ متعبة، ومناهج تائهة بين القديم والجديد. الطالب لا يجد في فصله مساحة للتعبير،
والمعلم لا يجد في يومه وقتا للحوار، والنتيجة: مؤسسة تخرّج أجيالا بلا شغف، بلا انتماء،
بلا فضول. إنها مفارقة قاسية أن نُحمّل أبناءنا مسؤولية التخلّف، بينما نحن من وضعناهم
في قوالب جامدة لا تنبت فيها الموهبة.
ويأتي
تحدي الإدارة التعليمية، وهي -بكل صدق- واحدة من أكثر المنظومات بيروقراطية في الدولة.
تتوزع المسؤوليات بين المديريات والمناطق والإدارات دون وضوح في الصلاحيات، ويُقاس
النجاح بعدد التقارير المرفوعة لا بنتائج التعلّم المحققة. إن إصلاح التعليم في مصر
لن ينجح ما لم نُحدث ثورة إدارية داخل الوزارة نفسها، تُحرّر المدرسة من مركزية القرار،
وتُعيد الثقة إلى الميدان. لا يمكن لمدير مدرسة أن يكون مبدعا وهو ينتظر موافقة من
العاصمة على إصلاح باب أو شراء كتاب.
ثم
هناك فجوة التكنولوجيا، التي تتسع عاما بعد عام. ففي حين تتحدث الخُطط عن التحول الرقمي،
ما زال آلاف الطلاب في الريف لا يجدون إنترنت مستقرا، ولا أجهزة كافية، ولا معلمين
مؤهلين للتعامل مع المنصات الجديدة. التكنولوجيا ليست حلا سحريا؛ هي أداة تتطلب بيئة
مؤهلة وثقافة رقمية قائمة على الفهم لا على الحفظ الإلكتروني، وما لم نؤسس لعقلية رقمية
نقدية، ستظل الأجهزة اللامعة مجرد زينة في قاعات مظلمة.
ولعل
التحدي الأخطر هو فجوة القيم التي تسللت إلى منظومتنا التعليمية. لم يعد التعليم يبني
الإنسان المتكامل كما أراده الإسلام، بل يخرّج أفرادا يسعون إلى الوظيفة قبل الرسالة،
إلى الدرجات قبل القيم. حين يتحول التعليم إلى سباقٍ نحو الشهادة، يفقد جوهره الروحي،
ويُصبح أداة لتكريس الأنانية بدل الإبداع. المدرسة التي لا تُعلّم طلابها الأمانة والصدق
والنزاهة، مهما تفوقت في الرياضيات واللغات، هي مدرسة تنتج ذكاء بلا ضمير.
ويضاف
إلى كل ذلك ضعف الصلة بين التعليم والاقتصاد. لا تزال جامعاتنا تُخرّج آلافا من التخصصات
النظرية التي لا تجد موطئ قدم في سوق العمل، بينما الصناعات الجديدة تصرخ بحثا عن كفاءات
لا تُدرّس. التعليم في مصر يعيش في عالمٍ نظري موازٍ لا يسمع صوت السوق ولا يفهم احتياجاته،
وما لم تُربط الجامعات بخطط التنمية، وتتحول الكليات إلى بيوت خبرة حقيقية، سيبقى الخريج
تائها بين البطالة والإحباط.
كما
تواجه منظومة التعليم تحدي الاستدامة المالية، فلا يمكن تطوير المدارس والمناهج والمعلمين
بميزانيات تُدار على نمط القرن الماضي. التمويل الحكومي وحده لم يعد كافيا، والاعتماد
على المساعدات الخارجية طريقٌ قصير المدى. والحل يكمن في إطلاق نموذج تمويلي وطني،
يقوم على الأوقاف التعليمية والشراكات المجتمعية، تماما كما فعل المسلمون حين جعلوا
من الوقف الجامعي مصدرا مستداما للعلم عبر القرون.
ولا
يمكن إغفال التحدي الثقافي العميق، فثقافة ترى في الحفظ تفوقا، وفي السؤال وقاحة، وفي
الخطأ عيبا؛ هي
ثقافة تقتل روح التعلّم قبل أن يبدأ الدرس. نحن بحاجة إلى ثورة قيمية
تعيد تعريف التفوق بوصفه رحلة بحث، لا سباق درجات. أن يفشل الطالب في التجربة خيرٌ
من أن ينجح في التكرار.
كل
هذه التحديات ليست قدَرا، بل هي جدران قابلة للكسر إذا امتلكنا الإرادة والرؤية. فمصر
التي علّمت العالم ذات يوم، لا تعجز عن تعليم نفسها من جديد، فقط تحتاج أن تضع التعليم
في مكانه الطبيعي: في قلب مشروعها الوطني، وفي ضمير مجتمعها، وفي وجدان أبنائها. فالتعليم
ليس أزمة مالية ولا إدارية فحسب، بل قضية إيمانٍ بالإنسان، وثقةٍ بقدرته على التغيير.
وحين
تدرك مصر أن المعركة الحقيقية ليست في الأسواق ولا في الحدود، بل في العقول، ستبدأ
ثورتها الكبرى؛ ثورة المعرفة، وعندها فقط، حين يصبح الطفل المصري مشروع عالمٍ لا رقما
في دفتر، والمعلم رسول نهضة لا موظفا في جدول، والجامعة بيت فكر لا بوابة شهادة، يمكن
أن نقول إن مصر بدأت رحلتها الجادة نحو اقتصاد المعرفة، لا بالشعارات، بل بالإنسان.
في
النهاية، ليست مشكلتنا أننا نجهل التحديات، بل أننا نُطيل الحديث عنها أكثر مما نواجهها.
التعليم في مصر لا ينتظر أفكارا جديدة بقدر ما ينتظر إرادة حقيقية تُعيد إليه روحه.
البداية من الإنسان، من المعلم الذي فقد مكانته، والطالب الذي فقد شغفه، والمدرسة التي
فقدت معناها؛ حين نسترد هؤلاء الثلاثة، نسترد المستقبل كله.
يجب
أن نبدأ بإعادة المعلم إلى مقامه الطبيعي، بتدريبٍ راقٍ يواكب العصر، وتحفيزٍ كريمٍ
يحمي كرامته، وثقافةٍ ترى فيه قائد النهضة لا موظف الدولة، فالمعلم المطمئن يصنع أمة
واثقة. ثم نلتفت إلى المناهج فنحرّرها من الحشو، ونربطها بالحياة، ونجعلها تزرع في
الطفل فضول العالم لا خوف التلميذ. المدرسة بدورها يجب أن تتحول إلى بيتٍ للتجربة والإبداع،
لا إلى معسكرٍ للامتحانات، وأن تُدار بروحٍ جديدة تحاسب على النتائج لا على التقارير.
أما
الإدارة التعليمية، فحان وقت ثورتها الصامتة: تفويض، واستقلال، ومساءلة. يجب أن تتنفس
المدرسة بحرية، وأن يُمنح القائد التربوي صلاحياتٍ بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه.
وفي عصرٍ رقمي، لا يكفي أن نوزّع الأجهزة، بل علينا أن نبني العقل الرقمي القادر على
التفكير، والتحليل، والابتكار، وأن نجعل التكنولوجيا أداة تعلّم لا وسيلة تسلية.
التمويل
بدوره يحتاج ثورة في الفكرة؛ من ميزانية حكومية محدودة إلى استثمار وطني مستدام يقوم
على الأوقاف التعليمية والشراكات المجتمعية ومساهمات المغتربين. والتعليم نفسه يجب
أن يُعاد ربطه بالاقتصاد الوطني؛ فكل تخصص بلا وظيفة، وكل جامعة بلا مشروع إنتاجي،
هي عبء على الأمة لا قوة لها.
لكن
كل هذه الإصلاحات ستظلّ ناقصة ما لم تتغير الثقافة التعليمية ذاتها؛ نحن بحاجة إلى
ثورةٍ في الوعي، تُقدّس السؤال لا التكرار، تحتفي بالاجتهاد لا بالحفظ، وتعيد للإتقان
مكانه كقيمة روحية وعملية في آنٍ واحد. فحين يصبح التعلم شغفا لا واجبا، والإبداع عادة
لا استثناء، عندها فقط يمكن أن نقول إن مصر بدأت رحلتها الكبرى نحو النهضة.
فالمعركة
الحقيقية ليست في الأبراج ولا في الأسواق، بل في العقول. ومن هناك، من مقاعد الدراسة،
تبدأ كل معارك النهوض. فإذا جعلنا من التعليم قضيتنا الكبرى، ومن المعلم رائدها، ومن
الإتقان عنوانها، فإن مصر -التي علّمت الدنيا ذات يوم- قادرة أن تُعلّم نفسها من جديد،
لا بالشعارات، بل بالفعل، ولا بالحنين إلى الماضي، بل بصناعة المستقبل.