قضايا وآراء

مفاوضات غزة: حدود الدور المصري بعد استهداف الدوحة

محمد الباز
يتحدث الكاتب عن تأثير استهداف الدوحة على الوساطة- جيتي
يتحدث الكاتب عن تأثير استهداف الدوحة على الوساطة- جيتي
أعاد استهداف إسرائيل للعاصمة القطرية الدوحة وما تبعه من اهتزاز في دور الوساطة الذي اضطلعت به قطر طوال السنوات الماضية؛ طرح تساؤلات حول مستقبل قنوات التفاوض في المنطقة، ولا سيما ما يتعلق بملف غزة والقضية الفلسطينية. وفي ظل هذا التحوّل، تبرز مصر باعتبارها الدولة الأكثر امتلاكا للأدوات التاريخية والجغرافية والسياسية التي تؤهلها لاستعادة موقعها التقليدي كوسيط إقليمي. لكن هل تمهّد هذه الظروف لهيمنة مصرية على مسار الوساطة؟ أم أن هناك الكثير من العقبات ستحول دون ذلك؟ إن إعادة التموضع المصري تظلّ مرهونة بقراءة دقيقة لميزان القوة، وللشروط التي قد تسمح للقاهرة بأن تملأ الفراغ الذي تركه تراجع الدور القطري.

رغم التعقيدات التي تحيط بمشهد الوساطة، تتمتع مصر بمميزات يصعب على غيرها تجاوزها. فالإرث التاريخي للدور المصري في القضية الفلسطينية الممتد -قبل وبعد- اتفاقات كامب ديفيد وصولا إلى رعايتها المتكررة لوقف إطلاق النار في غزة، عزّز من مكانتها باعتبارها الطرف الأكثر خبرة في إدارة هذه المفاوضات. كما أن الجوار الجغرافي المباشر مع القطاع، وما يفرضه من ترتيبات جيوسياسية وأمنية متصلة بالحدود والمعابر وملف سيناء، يجعل القاهرة طرفا لا يمكن تجاوزه في قلب أي معادلة تفاوضية تخص غزة.

مصر دولة محورية في معادلات الشرق الأوسط، بحكم ثقلها السكاني وموقعها الجغرافي الاستراتيجي وسيطرتها على ممرات حيوية مثل قناة السويس

بالإضافة إلى ذلك، ترتكز قوة القاهرة في قدرتها على الموازنة بين أطراف متعددة في الإقليم والعالم. فهي تحتفظ بقنوات اتصال فعّالة مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وفي الوقت نفسه تربطها علاقات مباشرة مع السلطة الفلسطينية وحركة حماس، فضلا عن حضورها في المنظومة العربية التقليدية. هذا المزيج من الروابط يجعلها طرفا مقبولا من طيف واسع من الفاعلين، ويمنحها فرصة حقيقية لإعادة التموضع كوسيط رئيسي مهيمن على طاولة المفاوضات في مرحلة ما بعد أزمة الدوحة.

وفوق كل ذلك، تظل مصر دولة محورية في معادلات الشرق الأوسط، بحكم ثقلها السكاني وموقعها الجغرافي الاستراتيجي وسيطرتها على ممرات حيوية مثل قناة السويس. ورغم ما تواجهه من أزمات اقتصادية ضاغطة وتحديات إقليمية معقدة، فإن هذه المقومات تمنحها ما يكفي من أوراق القوة لتقديم نفسها كوسيط كفؤ وقادر على التأثير. فحجمها الإقليمي لا يسمح بتهميشها، بل يجعل حضورها شرطا لتوازن أي عملية سياسية كبرى في المنطقة، وهو ما يضفي على وساطتها قدرا من المصداقية والقدرة على النفاذ لا يتوفران لفاعلين أصغر حجما.

رغم الفرص الواضحة، تتعامل مصر مع حسابات دقيقة تَحدّ من أي إمكانية لهيمنة كاملة على ملف الوساطة. فالقاهرة تبدو حذرة من الاستحواذ على طاولة التفاوض منفردة، وتفضل تبني دبلوماسية متعددة الاطراف على الهيمنة الدبلوماسية، حيث أن تحمّل تبعات أي اتفاق أو فشل قد ينعكس سلبا على مصالحها الإقليمية وسمعتها الدبلوماسية. يعكس هذا التوجه إدراكها للمخاطر السياسية والأمنية والاقتصادية المرتبطة بالوساطة الأحادية، ويجعلها تميل إلى العمل ضمن إطار متعدد الأطراف أو بالتنسيق مع وسطاء آخرين لتخفيف أي ضغط مباشر.

تدرك القاهرة أن تشكيل موقف عربي موحد في هذا الملف يمثل تحديا آخر. فالتباين في المصالح بين الدول العربية، واختلاف الأولويات بين مكونات الدول العربية والإسلامية، يزيد من تعقيد أي جهود للوساطة الإقليمية، ويصعب الوصول لرؤية موحدة تتبناها مجموعة دول مجتمعة. وبناء على ذلك، فإن قدرة مصر على الموازنة بين هذه المصالح والحفاظ على قبولها من جميع الأطراف تُعدّ حجر الزاوية لأي دور فعّال، لكنها في الوقت نفسه تحد من إمكانية السيطرة الكاملة على مسار الوساطة، وبذلك، فإن حدود الدور المصري لا تحددها قدراته الذاتية فحسب، بل أيضا طبيعة الانقسامات العربية والإقليمية التي تعرقل أي مقاربة جماعية للوساطة.

لكن لماذا ينبغي أن تضطلع القاهرة بدور أكبر في الوساطة؟ وما بعد الوساطة؟ ببساطة لأن حجم المخاطر التي تواجهها مصر نتيجة الحرب في غزة أكبر بكثير مما يمكن أن تواجهه أي دولة أخرى في المنطقة، فسيناريو التهجير نحو سيناء يعني تهديدا مباشرا لسيادتها وحدودها، وتصفية القضية الفلسطينية تعني اهتزازا جذريا لمعادلات الإقليم بأسره. ومن هنا، فإن مسؤولية القاهرة لا تتوقف عند حدود إدارة التفاوض، بل تتجاوزها إلى صياغة ترتيبات تمنع هذه السيناريوهات الكارثية من التحقق. لكن في الوقت نفسه، فإن أيّ تحرك مصري منفرد يجعلها تتحمل التبعات كاملة، وهو ما يفسر ميلها للعمل ضمن أطر متعددة الأطراف لتقليل حجم المخاطر الاستراتيجية عليها.

حدود دور القاهرة في الوساطة وما بعدها ليس مجرد خيار دبلوماسي بل ضرورة استراتيجية. فإلى جانب السعي لوقف إطلاق النار أو إدارة مسار التفاوض، تحتاج مصر أن تضمن أن أي ترتيبات مستقبلية تُغلق الباب أمام مشاريع التهجير أو تصفية القضية

إنّ حدود دور القاهرة في الوساطة وما بعدها ليس مجرد خيار دبلوماسي بل ضرورة استراتيجية. فإلى جانب السعي لوقف إطلاق النار أو إدارة مسار التفاوض، تحتاج مصر أن تضمن أن أي ترتيبات مستقبلية تُغلق الباب أمام مشاريع التهجير أو تصفية القضية. هذا يضعها في موقع المفاوض الذي لا يكتفي بنقل الرسائل بين الأطراف، بل يسعى لفرض محددات أمنية وسياسية تُحصّن مصالحه الوطنية. فالوساطة بالنسبة لمصر ليست مجرد أداة لتثبيت نفوذها الإقليمي، بل آلية حيوية لتحييد المخاطر الكبرى التي تُهدد حدودها وأمنها القومي.

وفوق كل ما سبق، تحتاج طاولة المفاوضات المتعلقة بالقضية الفلسطينية إلى إدارة طويلة النفس، تتوافق مع طبيعة القضية العربية الممتدة عبر عقود متتالية، فالأمر لا يقتصر على التوصل إلى وقف إطلاق النار فقط، وإنما يتعداه إلى ما بعد ذلك؛ من تنسيق جهود إعادة الإعمار، وإدارة الخلافات الفلسطينية الفلسطينية، التي تتطلب آلية حوار مستدامة وفاعلة، وهو ما يعكس أعباء الانفراد بمهام الوساطة الفلسطينية التي تتجنب القاهرة تحملها منفردة.

إن انحياز القاهرة نحو الاندماج في دبلوماسية متعددة الأطراف لمعالجة الأزمات المحلية والإقليمية، يعكس إدراك حجم أعباء الهيمنة الدبلوماسية ورغبة مصرية في تجنبها، لكن مخرجات هذا المسار قد لا تتناسب في كل الأحوال مع المصالح المصرية، وهو ما يدفع القاهرة إلى الانخراط في موازنة حرجة بين مصالحها الاستراتيجية وحسابات الوساطة متعددة الأطراف.
التعليقات (0)