قضايا وآراء

إسرائيل تنسف الوساطات وتُربك "أمن الخليج"

نبيل الجبيلي
"الضربة على قطر كانت نموذجا لهذا الاندفاع: قرار عسكري بلا جدوى استراتيجية، أفضى إلى فضيحة دبلوماسية، وصوّر إسرائيل ككيان مارق أكثر منها كقوة قادرة"- الأناضول
"الضربة على قطر كانت نموذجا لهذا الاندفاع: قرار عسكري بلا جدوى استراتيجية، أفضى إلى فضيحة دبلوماسية، وصوّر إسرائيل ككيان مارق أكثر منها كقوة قادرة"- الأناضول
على الرغم من مضي أكثر من 3 أسابيع على استهداف الدوحة، ما زال هذا الاعتداء محط اهتمام الدول العربية والخليجية والأروقة الدبلوماسية في العواصم الكبرى. فالضربة صارت علامة فارقة في مسار الصراع، إذ وضعت إسرائيل في مواجهة مباشرة مع القانون الدولي، وأحرجت دول العالم التي التزمت ما يشبه الصمت أمام الرأي العام، كما فتحت الباب أمام أسئلة صعبة حول معنى السيادة والأمن الجماعي.

بقصفها دولة عضو في جامعة الدول العربية، تقوّض إسرائيل إمكانية التوصل إلى حلّ دبلوماسيّ للحرب في قطاع غزة، وتُسيء إلى صورة قطر كـ"منصة" تفاوض محايدة. فما جرى لم يكن استهدافا عسكريا فقط، بل رسالة بأنّ لا وسيط عربيا محايدا يمكن أن يلعب دورا بين الأطراف. حماقة إسرائيل حولت قطر من "وسيط" إلى "ضحية"، وهذا ما عمّق من انسداد أفق الحلول السياسية، وفتح الأفق الخليج أمام أعادة الحسابات في التحالفات مع الغرب.

 إنّ أفعال إسرائيل في قطاع غزة، التي تسببت في أزمة إنسانية هائلة ومقتل آلاف المدنيين، تُضاهي أساليب ألمانيا النازية التي تتهمها إسرائيل بارتكاب المجازر بحق اليهود. وها هي اليوم تفعل الأمر نفسه، فالمجازر هناك لا تنفصل أبدا عن مشهد الدوحة، إذ يُكملان بعضهما: استباحة المدنيين في غزة، وتوسيع المعركة إلى عاصمة خليجية. إسرائيل لا تكتفي بخرق الأعراف، بل تُعيد رسم خطوط النار بما يُشعر العرب أنّ لا أحد في مأمن من سلوكها.

هذه الهشاشة السياسية لا تعني فقط أزمة حكم داخلية، بل تترجم مباشرة إلى قرارات مرتجلة؛ حكومة مضطربة، تبحث عن إنجازات إعلامية، تُجازف بخطوات دولية خطيرة من دون حساب ردود الفعل

إلّا أنّ المفارقة الأكبر، هي أنّ الضربة لم تُحقّق غايتها الأساسية: لم يتحقق هدف القضاء على قادة "حماس"، مما فاقم الأزمة السياسية الداخلية في إسرائيل وشكك في كفاءة الائتلاف الحاكم. وهنا تتجلّى هزالة الحكومة الإسرائيلية: ائتلاف قائم على مساومات حزبية ضيقة، تحكمه الاعتبارات الشخصية أكثر مما تحكمه الرؤية الإستراتيجية.

 فرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي يواجه ملفات فساد، يجد نفسه اليوم أمام حلفاء متطرفين يزايدون عليه في الميدان، فيما الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية يتعرضون لهزائم سياسية قبل أن تكون عسكرية. الضربة في الدوحة كشفت التناقض الداخلي: حكومة تريد أن تُظهر الحزم لكنها تنتهي بإبراز الفشل، وهذا ما عمّق فقدان الثقة داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه.

والواقع أنّ هذه الهشاشة السياسية لا تعني فقط أزمة حكم داخلية، بل تترجم مباشرة إلى قرارات مرتجلة؛ حكومة مضطربة، تبحث عن إنجازات إعلامية، تُجازف بخطوات دولية خطيرة من دون حساب ردود الفعل.

 الضربة على قطر كانت نموذجا لهذا الاندفاع: قرار عسكري بلا جدوى استراتيجية، أفضى إلى فضيحة دبلوماسية، وصوّر إسرائيل ككيان مارق أكثر منها كقوة قادرة.

من زاوية السيادة، انتهكت إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، سيادة قطر انتهاكا صارخا، وزعزعت استقرار المنطقة بأسرها. المعادلة الجديدة لا تتعلق بفلسطين وحدها، بل بالعمق الخليجي نفسه؛ حين تصبح الدوحة هدفا، فهذا يعني أنّ أبو ظبي والرياض والمنامة والكويت ومسقط قد تكون جميعها تحت التهديد. هنا تتجاوز إسرائيل فكرة "مكافحة الإرهاب" (على حدّ وصفها) لتتحول إلى كيان يفرض معاييره الخاصة، غير آبه بمواثيق الأمم المتحدة.

فت ضربة الدوحة وهْما كان يُروّج له منذ سنوات، ومفاده أنّ إسرائيل يمكن أن تكون شريكا استراتيجيا أو حليفا في بعض المسارات الإقليمية. الواقع يقول العكس؛ حكومة ضعيفة في الداخل ومتهورة في الخارج، محمية بصمت أمريكي ودولي، لا يمكن الوثوق بها أو اعتبارها شريكا في الأمن الجماعي

وما يعزز هذا الانطباع أنّ عدم رد الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن على قصف إسرائيل للعاصمة القطرية شكّل سابقة عالمية من التعسف وغض الطرف، مما أدى إلى زعزعة استقرار القانون الدولي تماما.

الصمت لم يعد موقفا دبلوماسيا بل صار تشريعا ضمنيا لتكرار الفعل. العالم كلّه يُدرك أن تهاون المؤسسات الدولية أمام إسرائيل يعني انهيار مبدأ السيادة، وفتح الباب أمام قوى أخرى لتمارس الشيء نفسه.

وعليه، إنّ الضربة الإسرائيلية ضد دولة ذات سيادة وثقل سياسي كبير، مثل قطر، دليل على الطبيعة الإرهابية للدولة الإسرائيلية وسياساتها تجاه جميع سكان المنطقة المسلمين. إنها رسالة ردع مُضاعفة: أولا إلى حماس، وثانيا إلى الخليج بأسره، وثالثا إلى كل من يفكر في الوساطة أو الحوار. ومن الطبيعي أن تكون الصدمة كبيرة: كيف يمكن الحديث عن مسارات تطبيع أو عن مستقبل استقرار إقليمي فيما تُثبت إسرائيل أن لا شريك ولا صديق بمأمن من صواريخها؟

انعكاسات الحدث طالت كل عاصمة خليجية؛ السعودية ترى في الضربة تهديدا مباشرا لمكانة المنظومة الخليجية ككل، والإمارات تجد نفسها في مأزق أخلاقي وسياسي بعد أن راهنت على التطبيع، والبحرين والكويت وعُمان تشعر بأن السكوت يعني التنازل عن أمنها الوطني. أما قطر، فباتت في موقع شديد الحساسية: من منصة وساطة إلى خط مواجهة مباشر.

لقد نسفت ضربة الدوحة وهْما كان يُروّج له منذ سنوات، ومفاده أنّ إسرائيل يمكن أن تكون شريكا استراتيجيا أو حليفا في بعض المسارات الإقليمية. الواقع يقول العكس؛ حكومة ضعيفة في الداخل ومتهورة في الخارج، محمية بصمت أمريكي ودولي، لا يمكن الوثوق بها أو اعتبارها شريكا في الأمن الجماعي، وما لم تتحرك دول الخليج لبناء مقاربة مستقلة، ستظل المنطقة كلها رهينة مغامرات ائتلاف إسرائيلي هشّ لا يعيش إلّا على الأزمات.
التعليقات (0)

خبر عاجل