كتاب عربي 21

الاستعمار التأسيسي وهندسة الفناء: من معاقبة الفلسطيني إلى إفناء المعنى العربي

ساري عرابي
"تتجلى سياسات الاستيطان والحصار الخانق والقتل المستمر اندفاعا نحو إعدام الإرادة الفلسطينية في التحرر، لا باعتبارها ردّا على المقاومة الصريحة"- الأناضول
"تتجلى سياسات الاستيطان والحصار الخانق والقتل المستمر اندفاعا نحو إعدام الإرادة الفلسطينية في التحرر، لا باعتبارها ردّا على المقاومة الصريحة"- الأناضول
ناقشت المقالة السابقة عن "الاستعمار التأسيسي والعقاب المستمر" أنّ السياسات الإسرائيلية الباطشة لا تعمل بوصفها ردود فعل عابرة أو ظرفية، بل تنبع من منطق تأسيسي يسعى إلى تكريس الحالة الاستعمارية وتحويل الوجود الفلسطيني ذاته إلى جرم دائم. وبيَّنَت كيف تُقدَّم هذه السياسات في الخطاب الإسرائيلي والدولي والعربي لتبدو وكأنها عقوبات ألجأ الفعلُ الفلسطيني إسرائيلَ إليها، في محاولة لإعادة هندسة الوعي بحيث لا يقتصر أثر البطش على حمل الفلسطينيين على الندم بعد الفعل المقاوم، نتيجة النهج الإسرائيلي الذي يحرص دائما على جعل الثمن المدفوع فلسطينيّا أعلى بما لا يُقارن بأي جدوى مرجوّة، وإنما يتعدى ذلك إلى زرع الإحساس العميق بالذنب والخطيئة الأصلية في الوعي الفلسطيني، أي خطيئة الوجود نفسه.

بانكشاف هذه السياسات الباطشة، يتضح أنها لا تستهدف المقومات النضالية فحسب، بل الإرادة النضالية ذاتها، إذ تتجلى سياسات الاستيطان والحصار الخانق والقتل المستمر اندفاعا نحو إعدام الإرادة الفلسطينية في التحرر، لا باعتبارها ردّا على المقاومة الصريحة، الشعبية أو المسلحة، وإنما أيضا على كل فعل يكشف عن الوعي بالذات الوطنية والإصرار على التحرر. ولهذا فإن جزءا واسعا من هذه السياسات، خاصة في تعزيز الاستيطان والضم والحصار الاقتصادي، يُعرَّف إسرائيليّا بوصفه ردّا على مساعي السلطة الفلسطينية القانونية والدبلوماسية، كالتوجه إلى المحاكم الدولية أو الأمم المتحدة، بينما يتضح بغير كبير عناء أنّ المنطق التأسيسي والفعل القبلي هو الموجّه الحقيقي لهذه السياسات، وأنها في حدّها الأدنى إبادة معنوية وسياسية للشعب الفلسطيني، وفي حدّها الأعلى نفي مادي وجودي. وحين يستجيب وعي الفلسطيني أو العربي لهذه الإرادة الإسرائيلية فيُحِّمل الضحيةَ مسؤوليةَ فنائها، فإن الاستجابة ستتعمق حتى الإيمان بخطيئة الوجود ذاته، لتتحول الذات إلى شريك في فنائها، ويغدو الوعي قابلا لسياسات الإبادة المعنوية والسياسية، التي جوهرها موت الإرادة النضالية قبل موت الجسد.

جاءت الضربة الإسرائيلية الفاشلة لوفد حركة حماس المفاوض في الدوحة يوم 9 أيلول/ سبتمبر، لتعطي التعبير الصحيح الكامل عن حقيقة الموقف التفاوضي منذ اليوم الأوّل في الإبادة الجماعية وحتى الآن، لم يكن القصف دليلا فقط على إرادة الاستمرار في إبادة الفلسطينيين وعدم وقف الحرب، ولكنه قصف للمنطقة كلها

يمكن ملاحظة هذه الاستجابة من بعض الفلسطينيين والعرب؛ بالكيفية التي تجري فيها مراجعة أيّ فعل فلسطيني نضاليّ، بحيث يسارع الوعي المستجيب لهندسة إسرائيل له إلى افتراض ردود فعل إسرائيلية تجعل هذا الفعل النضاليّ مجرّما سلفا في التصور الضمني، وفي قلب هذا التصوّر انزياح الوعي عن مراقبة الفعل الإسرائيلي التأسيسي، والمتقصد إعدام الإرادة النضالية، والمحو المعنوي والسياسي للفلسطينيين، إلى تحميل المسؤولية للفاعل الفلسطيني، كما في النقاشات التي دارت حول مفاوضات إنهاء الحرب. وبالرغم من كون بعض هذه النقاشات مدفوعة بانحيازات مسبقة، فإنّ الهول الذي فرضته إسرائيل على الفلسطينيين خلق مراجعة تأنيبية للذات، منصرفة بالكلية عن ملاحظة سياسات العدوّ لتنتهي بالضرورة إلى قبول الفناء الذاتي، بوصف الوجود فعلا، أو حقيقة مادية، خاطئ، تماما كالفعل النضالي، أي إنّ المراجعة للفعل النضالي، والتي تقفز من النقد المحسوب بغرض توسيع الخيارات الكفاحية وتطويرها، إلى إدانة المناضل الفلسطيني، سوف تنتهي بالضرورة إلى قبول المنطق الإسرائيلي الذي يرى جوهر المشكلة في مبدأ الوجود الفلسطيني.

لقد جاءت الضربة الإسرائيلية الفاشلة لوفد حركة حماس المفاوض في الدوحة يوم 9 أيلول/ سبتمبر، لتعطي التعبير الصحيح الكامل عن حقيقة الموقف التفاوضي منذ اليوم الأوّل في الإبادة الجماعية وحتى الآن، لم يكن القصف دليلا فقط على إرادة الاستمرار في إبادة الفلسطينيين وعدم وقف الحرب، ولكنه قصف للمنطقة كلها، ليس لأنّ هذه المنطقة بدولها ونخبها الحاكمة، أو حتى شعوبها، ممانعة للوجود الإسرائيلي، ولكن لأنّ هذا الوجود انفلت حتى يصل إلى اللحظة التي يتأكد فيها من الموت التامّ للمعنى العربي. فحتى استضافة وفد من حركة حماس بغرض التفاوض معه؛ لم يعد مقبولا إسرائيليّا، إنّ المشكلة هنا لدى إسرائيل ليست في حماس بوصفها الحركة التي نفّذت الضربة الأكثر خطورة للأمن الإسرائيلي في تاريخ الصراع برمّته ومن مكان كان يزدريه عقل التفوق العنصري الإسرائيلي، وإنّما المشكلة في الحقيقة الفلسطينية، وجودا وهوية قومية سياسية ونضالا واتصالا بالامتداد العربي، وبالرغم من أنّ هذا الامتداد في وضع مريع من التخلي عن فلسطين وأهلها، وقبول بالهيمنة الإسرائيلية، فإنّ الدرجة التي عليها هذا الوضع غير كافية للإسرائيلي، الذي لا تقبل بنيته الجوهرية إلا إبادة العرب معنويّا، بتخلّيهم عن ذاتهم، ذاتهم بما هي فاعلة، وهذه الفاعلية لا يمكن اختبارها إلا بالموقف من فلسطين.

إنّ الاستسلام العربي طويل الأمد في سيرورته التاريخية للهندسة الإسرائيلية؛ انتهى إلى مجموعة من القناعات التي عبّرت عن نفسها بهذه العناوين: "استحالة هزيمة إسرائيل"، "إسرائيل وجدت لتبقى"، "القضية الفلسطينية عبء"، "القضية الفلسطينية تضخمت أكثر مما ينبغي"، "القضية الفلسطينية مشكلة الفلسطينيين وحدهم"، "الفلسطينيون وحدهم من يتحمل المسؤولية عن استمرار معاناتهم"، ولقد تحولت هذه العناوين من موقف ضمني، يكشفه واقع الحال، إلى خطاب تُعبِّر عنه كتائب من المثقفين العرب، الذين جاهروا صراحة بادعاء مسؤولية الفلسطينيين عن استمرار معاناتهم لرفضهم كلّ الحلول المقترحة، بالرغم من تكذيب الحقيقة الصارخة لهذا الادعاء، وأنّ القضية الفلسطينية كانت سببا في ضمور التنمية العربية، في إحالة إلى الفلسطيني، لا إلى إسرائيل والتي هي الواقعة الطارئة على المنطقة بما يجعلها هي أصل المشكلة وسبب استمرارها، وأنّه لا يمكن حلّ القضية الفلسطينية إلا بتخليصها من أوزانها الزائدة، وهو أمر لا معنى له، إلا حرمان الفلسطينيين من حقهم في تجسيد هويتهم القومية وتحويلهم إلى كائنات بلا هوية ملحقة بالأمن الإسرائيلي.

لم يكن الأمر يحتاج إلى أن تقصف إسرائيل وفدا مفاوضا في دولة وسيطة، تقوم بوساطتها بالاتفاق مع الأمريكي والإسرائيلي، وقوى أساسية أخرى في المنطقة كمصر، ليتبين أنّ المشكلة الإسرائيلية في أساسها تستعصي على الإحاطة بها

لم يكن الأمر يحتاج إلى أن تقصف إسرائيل وفدا مفاوضا في دولة وسيطة، تقوم بوساطتها بالاتفاق مع الأمريكي والإسرائيلي، وقوى أساسية أخرى في المنطقة كمصر، ليتبين أنّ المشكلة الإسرائيلية في أساسها تستعصي على الإحاطة بها، فإنّ المنطق العربي التاريخي نفسه، قبل الانهيار المريع، رأى في إسرائيل مانع التنمية والاستقرار في المنطقة والحائل دون رفاهية شعوبها ودون استكمال دولها لاستقلالها الكامل بالتخلص من التبعية، علاوة على أن إزاحة النظر عن إسرائيل إلى الفلسطينيين من حيث تحمل المسؤولية، لا يصمد عند أدنى حجاج محدود، لأنّ الواقع أكبر من الأوهام المصاغة بالهندسة الإسرائيلية في الوعي العربي.

هذه الاستجابة الرسمية للهندسة الإسرائيلية، والمعبرة عن نفسها في كتائب من المثقفين والإعلاميين، وأساطيل من الوسائل الإعلامية، كان لا بدّ وأن تنعكس في الجمهور العربي نفسه، في الشعوب العربية ذاتها، التي لم تَضمُر فيها إرادة مواجهة إسرائيل فحسب، إذ هذا حاصل فيها منذ زمن، ولكن ضَمُر فيها الوعي بكون إسرائيل مشكلة لها.

وقد ساعد على إعادة هندسة وعي هذه المجتمعات والشعوب، وعلاوة على سياسات تجريف المجال العام وإعدام العمل السياسي في البلاد العربية، وسياسات الضخ الإعلامي الرامية إلى تشويه القضية الفلسطينية، جملة من التحولات الإقليمية التي أزاحت إسرائيل عن كونها مشكلة هذه المنطقة، لإحلال بدائل مكانها، كإيران، بالرغم من انتفاء وجاهة الإبدال والإحلال هذا، لكون إسرائيل حالة استعمار أجنبي مكشوف قائم على أساس مهين للعقل البشري والكرامة الآدمية، وبنحو يؤبد مأساة السكان الأصليين بعد اقتلاعهم وطردهم، ويقطع إمكان التكامل العربي الاقتصادي والأمني.

إنّ الهزيمة النفسية الأبدية، والتي هي مراد نظرية الجدار الحديدي لجابوتنسكي، والتي تروم إقناع العرب بخطيئة فعل أيّ شيء ضدّ إسرائيل، لم تنته بالعرب فقط إلى تأثيم الفلسطينيين، واحتقار حتى وجودهم في بعض ما يمكن أن تدل عليه تلك الخطابات وما لا ينفصل عنها من سياسات رسمية، ولكن انتهت بهم إلى قبول فناء المعنى الذاتي، فإنّ 57 دولة عربية وإسلامية، اجتمعت في الدوحة في 14-15 أيلول/ سبتمبر (أي بعد أربعة أيام من العدوان الإسرائيلي على الدوحة، في حين أنّ القمة العربية الإسلامية لم تجتمع بعد الإبادة الجماعية إلا يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، أي بعد أكثر من شهر من بدء الإبادة)، لا تساوي شيئا في ميزان الولايات المتحدة في مقابل ثقل إسرائيل في ميزانها، وهو أمر مفهوم بالنظر إلى خفة هذه الدول، التي لم تتخذ واحدة منها، ممن تقيم علاقات مع إسرائيل، قرارا بوزن قرارات إسبانيا العقابية ضدّ إسرائيل، بينما تلك التي لا تقيم علاقات مع إسرائيل، تبدو لنفسها وكأنّها تفعل أكثر مما هو عظيم.

لقد نجحت إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، في إفناء المعنى العربي، واليوم يلتقي العربي مع الإسرائيلي والأمريكي، لتطبيع الفلسطينيين مع العدم وإقناعهم بذلك شرطا لخلاصهم، بعد تحميلهم ذنب معاناتهم، وجعلهم الخطيئة الأنطولوجية المسؤولة عن مآسي المنطقة، بما يَحْملُهم على كراهة ذاتهم، والقبول بفنائها لا لأجل خلاصها فحسب، ولكن لأجل راحة العالم منهم أيضا!

x.com/sariorabi
التعليقات (0)