إنّ الهدف الذي يُسوَّق
له المؤتمر الذي تعتزم فرنسا والسعودية رعايته في نيويورك الأسبوع المقبل هو تعزيز
"
الاعتراف" بدولة
فلسطينية؛ غير أنّ ما تخفيه هذه النيات المعلنة شيء آخر
تماما. فالقائمون على المؤتمر يدركون أنّ الاعتراف بدولة غير قائمة لا يملك أي قيمة
حقيقية، والجميع يعلم أنّ
الدولة التي يُتحدَّث عنها ليست سوى كتابة على الماء. والمؤتمر،
المنعقد في ظل موجات الغضب الشعبي العالمي المتصاعدة ضدّ
إسرائيل جرّاء الإبادة الجماعية
التي تقترفها بلا هوادة في غزة، لا يرمي في الجوهر إلى تحقيق آمال الفلسطينيين، بل
إلى إنقاذ إسرائيل من نفسها، عبر انتزاع اعتراف عربي ودولي أوسع بها، وتثبيت وجودها
كدولة يهودية عنصرية تضمن التفوّق العرقي للمستوطنين وذريّاتهم بقوة القانون على حساب
الفلسطينيين، أصحاب الأرض الأصليين.
وهكذا يتحوّل الاعتراف
بالدولة الفلسطينية إلى وهْم سياسي يُباع للفلسطينيين والعالم ذرّا للرماد في العيون،
فيما المقصود توسيع شرعية إسرائيل وتحصينها. إنّ الاعتراف المنشود بالدولة الفلسطينية
الموهومة مشروطٌ أصلا بالاعتراف التاريخي بالدولة الصهيونية العنصرية إلى جانبها، وهو
اعتراف يتكفّل كذلك بتوفير الحماية والدعم للسلطة الفلسطينية المتعاونة مع الاحتلال
الاستيطاني، عبر إضفاء صفة "الدولة" عليها لإخفاء وظيفتها التابعة.
حين تُقدم القوى الغربية
على الاعتراف بدولة فلسطينية غير قائمة، متحدية حقيقة عدم وجودها على أرض الواقع، فإنها
تقوم بذلك في سبيل تهميش ومواراة جوهر القضية المركزية المتمثلة في الاستيطان الإسرائيلي
اليهودي المستمر للقدس الشرقية والضفة الغربية وإرهاب السكان الفلسطينيين الأصليين
في هذه المناطق، فضلا عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة والحرب المدمّرة ضد
الفلسطينيين في غزة. فلم يعد النضال، في ضوء الجهود الفرنسية والسعودية، يدور حول تفكيك
منظومة الاستعمار الاستيطاني اليهودي ولا حول منع سرقة الأراضي الفلسطينية أو وقف المذابح
اليومية التي يرتكبها المستوطنون في الضفة الغربية، بل باتت كل الطاقات، بما في ذلك
هذا المؤتمر الفاحش، تسخّر من أجل ضمان "الاعتراف" بهذه الدولة الوهمية.
حين تُقدم القوى الغربية على الاعتراف بدولة فلسطينية غير قائمة، متحدية حقيقة عدم وجودها على أرض الواقع، فإنها تقوم بذلك في سبيل تهميش ومواراة جوهر القضية المركزية المتمثلة في الاستيطان الإسرائيلي اليهودي المستمر للقدس الشرقية والضفة الغربية وإرهاب السكان الفلسطينيين الأصليين في هذه المناطق، فضلا عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة والحرب المدمّرة ضد الفلسطينيين في غزة
ليست هذه المحاولة
الأولى لإقامة دولة فلسطينية. ففي 22 أيلول/ سبتمبر 1948، تم الإعلان عن تأسيس "حكومة
عموم فلسطين" في غزة، التي ادعت السيادة على كامل أراضي فلسطين الانتدابية. غير
أن هذه الحكومة، عمليا، لم تتمكن من بسط نفوذها إلا على ما بات يُعرف بـ"قطاع
غزة"، وذلك بعد أن قامت المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية قبل ذلك في شهر أيار/
مايو، بإعلان
الاستقلال تحت مسمى دولة إسرائيل، التي احتلت نصف الأراضي المخصّصة للدولة
الفلسطينية بموجب قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
اعترفت ست دول من
أصل سبع دول أعضاء في جامعة الدول العربية آنذاك بحكومة فلسطين المستقلة فور إعلانها،
في حين رفض الأردن الاعتراف بها، إذ كان يسيطر على وسط وشرق فلسطين، والتي ضمها في
العام التالي وأعاد تسميتها "الضفة الغربية". سارع الغرب إلى الاعتراف بضم
الأردن لـ"الضفة الغربية"، لكنه امتنع عن الاعتراف بسيادته على القدس الشرقية.
غير أنّ العداء الغربي لحكومة فلسطين المستقلة، مقرونا بالتواطؤ في تقسيم فلسطين بين
إسرائيل والملك عبد الله الأول، بهدف منع أي شكل من أشكال السيادة الفلسطينية المستقلة،
أدّى إلى إضعاف الحكومة تدريجيا حتى اضطُرّت في عام 1953إلى
حلّ نفسها وإسدال الستار على واحدة من أوائل المحاولات الجادّة لتأسيس كيان سياسي فلسطيني
جامع.
في عام 1988، أعلن المجلس الوطني الفلسطيني، وهو بمثابة البرلمان
الفلسطيني في المنفى، وأحد أبرز أجهزة منظمة التحرير الفلسطينية، "الاستقلال" من طرف واحد، في خطوة وُصفت
آنذاك بأنها دعمٌ سياسي للانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993). غير أنّ
هذا الإعلان الذي رفع سقف التطلعات الوطنية لم يتحوّل إلى واقع سياسي ملموس؛ إذ انتهت
الانتفاضة لاحقا إلى التراجع والانحسار بعدما تعاملت معها منظمة التحرير الفلسطينية
باعتبارها ورقة ضغط تفاوضية، وقبلت عمليا قمع إخماد زخمها الشعبي بوصفه الثمن السياسي
الذي تعهّدت بدفعه مقابل توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993.
وبينما سارعت عشرات
الدول إلى الاعتراف بإعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988، رفضت الولايات المتحدة ذلك
بشدة، في استمرار لنهجٍ تاريخي يهدف إلى منع قيام دولة فلسطينية مستقلة. فمنذ عام 1947، لعبت واشنطن الدور الحاسم في تقويض الاستقلال
الفلسطيني عندما مارست ضغوطا واسعة على عدد من الدول لتغيير تصويتها في اللحظة الأخيرة
لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، المعروف بقرار التقسيم. وبفضل هذه
الجهود الأمريكية، مُنح المستوطنون اليهود، الذين كانوا يشكّلون أقلية سكانية آنذاك،
معظم أراضي فلسطين، لتعلن الولايات المتحدة فورا اعترافها بدولتهم الوليدة في أيار/
مايو 1948، بينما امتنعت في المقابل عن الاعتراف بحكومة
عموم فلسطين التي أُعلنت في غزة في العام نفسه. وقد شكّلت هذه الاستراتيجية ثابتا أمريكيا
استمرّ لعقود، انعكس مجددا في رفض واشنطن الاعتراف بإعلان استقلال منظمة التحرير الفلسطينية
عام 1988.
بعد توقيع اتفاقيات
أوسلو عامي 1993-1994، جرى إنشاء السلطة الفلسطينية ككيان إداري مؤقت،
بانتظار استكمال مفاوضات "الوضع النهائي" مع إسرائيل بشأن القضايا الجوهرية:
الاستقلال، وترسيم الحدود، ووضع القدس، وحق اللاجئين بالعودة. وقد حددت الاتفاقيات
فترة انتقالية مدتها خمس سنوات، كان من المفترض أن تنتهي في أيار/ مايو 1999 بإعلان
تسوية شاملة.
غير أنّ إسرائيل عمدت
إلى عرقلة جميع جهود التفاوض، متجاهلة استحقاقات المرحلة النهائية، في الوقت الذي واصلت
فيه توسيع مشاريعها الاستيطانية على نطاق غير مسبوق، لتفرض أمرا واقعا يقوّض أي إمكانية
لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة. ومع تعثّر المفاوضات بشكل كامل، هدّد رئيس السلطة الفلسطينية
آنذاك، ياسر عرفات، بإعلان استقلال فلسطين على كامل أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية
وقطاع غزة، رغم أن السلطة لم تكن تملك هناك سوى سيطرة محدودة للغاية أو معدومة. إلا
أنّ هذا التهديد سرعان ما تلاشى تحت ضغوط أمريكية هائلة، رافقتها تحذيرات صريحة من
حكومات عربية موالية لواشنطن، ما دفع عرفات في نهاية المطاف إلى التراجع عن إعلان الاستقلال.
تقوضت جميع محاولات
السلطة الفلسطينية اللاحقة للاعتراف بها من قبل الأمم المتحدة كدولة بسبب التهديدات
الأمريكية باستخدام حق النقض (الفيتو)، وقطع التمويل الأمريكي عن أي منظمة أممية تجرؤ
على قبول فلسطين كعضو فيها. وقد تجسد ذلك عمليا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 عندما
صوتت اليونسكو على القبول بفلسطين كدولة عضو فيها، لترد الولايات المتحدة بقطع تمويلها
عن المنظمة.
يرى الأوروبيون والأنظمة العربية التي تقود هذه المبادرة أن هذا النوع من الاعتراف الشكلي ومظاهر "الاستقلال" هو أفضل وسيلة لاحتواء التطلعات الفلسطينية، وتحويل نضالهم من أجل التحرير إلى وهم دولة لا يهدد نظام التفوق العرقي اليهودي الإسرائيلي
وعلى الرغم من أن
السلطة الفلسطينية لم تُعلن يوما قيام دولة فلسطينية بشكل رسمي -إذ إن منظمة التحرير
الفلسطينية هي التي قامت بإعلان الاستقلال عام 1988- إلا أن التطورات أخذت منحى مختلفا
بعد صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 67/19 في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012،
الذي رفع مكانة فلسطين إلى "دولة مراقب غير عضو" بأغلبية ساحقة. منذ ذلك الحين، بدأت
السلطة الفلسطينية رسميا استخدام اسم "دولة فلسطين" في وثائقها ومراسلاتها،
وأطلقت على مكتب بعثتها في واشنطن اسم "سفارة دولة فلسطين"، قبل أن يقوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإغلاق
المكتب في عام 2018 خلال ولايته الأولى، في خطوة عكست تصعيدا
أمريكيا متعمّدا لتصفية أي مظاهر رمزية للسيادة الفلسطينية.
منذ توقيع اتفاقيات
أوسلو عام 1993، أدت السلطة الفلسطينية دور المقاول الفرعي المخلص
للاحتلال الإسرائيلي، منخرطة في منظومة سياسية وأمنية تكرّس الهيمنة الإسرائيلية بدلا
من مواجهتها. وبدلا من السعي إلى تفكيك الاستعمار الاستيطاني واستعادة الحقوق الوطنية
المسلوبة، انخرطت السلطة في الضغط من أجل المزيد من الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية
"خيالية"، مستغلّة في ذلك الإبادة الجماعية الإسرائيلية
في غزة كأداة للحصول على مكاسب شكلية من الدول الأوروبية ذاتها التي شاركت -بشكل مباشر
أو غير مباشر- في هذه الإبادة، وذلك كمكافأة على امتثال السلطة للإملاءات الإسرائيلية.
وخلال العام الماضي،
تسارعت هذه الجهود لتشمل العديد من العواصم الأوروبية، لكنها استثنت المحرضين الرئيسين
على الإبادة الجماعية الإسرائيلية. وحتى أيار/ مايو 2025، اعترفت 143 دولة من أصل 193
دولة في العالم بـ"دولة فلسطين" كدولة مستقلة. ومن المتوقع أن يرتفع هذا
العدد الأسبوع المقبل بما لا يقل عن ست دول جديدة، بما في ذلك شركاء إسرائيل الرئيسيون
في الإبادة: فرنسا وكندا وأستراليا والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى بلجيكا والبرتغال
ومالطا، وربما فنلندا أيضا. أما الولايات المتحدة، الشريك الرئيس لإسرائيل في جميع
جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، فقد تمسّكت بموقفها التاريخي الذي اتخذته منذ عام 1948،
حيث لم تكتفِ بمنع الفلسطينيين من إقامة دولة حقيقية، بل حالت أيضا دون حتى تحقيق دولة
وهمية.
اعترضت رئيسة الوزراء
الإيطالية، جورجيا ميلوني، على مشروع الاعتراف، قائلة إن "الاعتراف بدولة فلسطين
قبل قيامها قد يكون له نتائج عكسية". وأضافت: "أنا أؤيد بشدة دولة فلسطين،
لكنني لا أؤيد الاعتراف بها قبل إقامتها". وربما تكون ميلوني محقة في جانب من
قولها، لكن مسألة إعلان استقلال دولة قبل تحقق استقلالها الفعلي ليست أمرا غريبا في
التاريخ.
في حقيقة الأمر كانت
بعض الدول قد أعلنت استقلالها بالفعل قبل فترة طويلة من حصولها عليه، وعلى رأسها الولايات
المتحدة نفسها، التي أعلنت أول استقلال على الإطلاق عام 1776، على الرغم من أن المستوطنين
البيض لم يهزموا البريطانيين حتى عام 1783. وقد اعترف الفرنسيون باستقلال الولايات
المتحدة عام 1778! وتبع اليونانيون مستوطني الولايات المتحدة بإعلانهم بدورهم الاستقلال
عام 1822، على الرغم من أن ثورتهم ضد العثمانيين لم تنتصر إلا في نهاية ذلك العقد.
وفي عام 1830، اعترفت القوى الأوروبية التي ساعدت اليونانيين في ثورتهم بدولتهم الجديدة
واستولت عليها. في المقابل، أعلنت هايتي استقلالها عام 1804، بعد 13 عاما من بدء ثورتها،
إثر نجاح المستعبَدون السابقون بالإطاحة بالعبودية والمستوطنين الفرنسيين والدولة الفرنسية
الاستعمارية، لكن الولايات المتحدة التي كانت دولة عبودية حينها؛ رفضت الاعتراف بهايتي
حتى عام 1862.
ما سيدوم من هذا الاعتراف الدولي هو الجزء الذي يؤكد أن لإسرائيل الحق في أن تكون دولة يهودية عنصرية، قائمة إلى جانب دولة فلسطينية وهمية لن ترى النور أبدا
في جميع هذه الحالات،
كان من أعلن الاستقلال هم أنفسهم من قاتلوا لطرد الإمبراطورية الحاكمة من دولتهم المستقبلية.
أما في حالة السلطة الفلسطينية، فيبدو الوضع مختلفا تماما؛ إذ تسعى الدول الإمبريالية
الأوروبية إلى منح الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، ليس للمقاومة التي تقاتل المستعمر،
بل للمتعاونين مع الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي. قد لا يكون هذا سبب اعتراض جورجيا
ميلوني، لكنه ينبغي أن يحظى باهتمام جدي لدى من يظن أن مثل هذا الاعتراف سينهي الاستعمار
الإسرائيلي وسيطرة إسرائيل على الفلسطينيين. فالواقع أن هذه الخطوة لا تُنهي الاحتلال،
بل تُعمّقه، ولا تعزز السيادة الفلسطينية، بل تعزز نفوذ المتعاونين مع المحتل.
يرى أنصار هذا المشروع
أن اعتراف الدول الإمبريالية الغربية والمستعمرات الاستيطانية البيضاء سيزيد أخيرا
عدد الدول التي تعترف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير وفي دولة، من قبل ذات الدول
التي لطالما حرمتهم من هذا الحق. ولكن ما سيتمخض عنه مؤتمر الأسبوع المقبل لن يكون
أكثر من طمأنة إسرائيل بأن حقها في الوجود كدولة يهودية عنصرية سيضمنه على أفضل وجه
اعتراف رعاتها أنفسهم بدولة فلسطينية وهمية.
ترفض الولايات المتحدة
وإسرائيل قبول هذا الدعم المقنّع لإسرائيل، وتعتقدان أن الفلسطينيين، بمن فيهم السلطة
الفلسطينية المتعاونة، يجب أن يُحرموا إلى الأبد من الاستقلال والدولة حتى على المستوى
الرمزي. في المقابل يرى الأوروبيون والأنظمة العربية التي تقود هذه المبادرة أن هذا
النوع من الاعتراف الشكلي ومظاهر "الاستقلال" هو أفضل وسيلة لاحتواء التطلعات
الفلسطينية، وتحويل نضالهم من أجل التحرير إلى وهم دولة لا يهدد نظام التفوق العرقي
اليهودي الإسرائيلي.
لذا، ما سيدوم من
هذا الاعتراف الدولي هو الجزء الذي يؤكد أن لإسرائيل الحق في أن تكون دولة يهودية عنصرية،
قائمة إلى جانب دولة فلسطينية وهمية لن ترى النور أبدا. وكما كنت قد ذكرتُ في
مقال هنا في العام الماضي، فإن السبيل الوحيد أمام هذه
الدول لمعاقبة إسرائيل دبلوماسيا هو سحب الاعتراف بحق إسرائيل في أن تكون دولة عنصرية،
ومقاطعتها وفرض عقوبات دولية عليها حتى تُلغي جميع قوانينها العنصرية، وإلا فإن المؤتمر
برمته ليس سوى عبث سياسي جديد ودليل آخر على التواطؤ المستمر للمشاركين فيه في الإبادة
الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.