كتاب عربي 21

من الحركيين إلى التقليديين: إعادة إنتاج الأفيون باسم الإسلام في زمن غزة

ساري عرابي
"جعل القضيتين متقابلتين أمر مدمّر إذا لم يُوفق من يفترض فيهم أنّهم أصحاب رأي لصياغة الموقف بنحو متوازن وعادل"- سانا
"جعل القضيتين متقابلتين أمر مدمّر إذا لم يُوفق من يفترض فيهم أنّهم أصحاب رأي لصياغة الموقف بنحو متوازن وعادل"- سانا
أولا- إعادة تلخيص: ازدواجية الحركيين: من حماس وإيران إلى سوريا وإسرائيل

قصدَتْ المقالة السابقة "أفيون الشعب في زمن الإبادة.. كيف يوظف إسلاميون الدين لإضعاف فلسطين"؛ إلى ملاحظة الكيفية التي ينحلّ فيها بعض الإسلاميين (الحركيين) من رابط مقولاتهم التي أعلنوها عقودا طويلة بسبب بعض التحولات الناجمة عن نزعات انحراف داخلية تلتقي (وهنا المفارقة) مع خصومهم، أي مع النظام الرسمي الذي لم يشتغل فحسب على تحطيم مكانة فلسطين من حيث الالتزام العربي الرسمي بها ومن حيث الحضور في الضمير العربي العام، ولكن أيضا على تحطيم جماعاتهم وملاحقتها وتشويهها، وهو الأمر الذي قد يستفيد، جزئيّا ومن زاوية توظيف خاصة، من مقولة ماركس "الدين أفيون الشعوب"، بحسب الشرح الذي تبنته المقالة من حيث أنّ المشكلة ليست فقط في التوظيف الفوقي المفروض من القوى المهيمنة والمستغلة، ولكن أيضا من استعداد ذاتي للانحراف في الوعي والتصوّر.

الموضوع والحالة هذه، هو استعداد بعض الإسلاميين للتسويغ المسبق لاحتمالات التطبيع السوري/ الإسرائيلي الذي تحاول أطراف إقليمية ودولية الترويج له، بالرغم من أنّه غير واقع بعد، وقد لا يقع أبدا في حدود التصريحات الرسمية للإدارة السورية الجديدة، أو الاستعداد للتعامل غير العادل بين حالتي حركة حماس في علاقاتها بإيران في ظلّ انغماس إيران في المذبحة السورية، وحالة الإدارة الجديدة في اتصالها المباشر بإسرائيل في غمرة الإبادة على غزة. فبحسب المثلين الحقيقيين اللذين استندت المقالة إليهما في تفسير نوازع الانحراف الضمني في الوعي، فإنّ المعاناة السورية كانت سببا كافيا لديهما بحسب منشوراتهما السابقة لعدم تفهم سياسات حماس أو بعض تعبيراتها بخصوص العلاقة بإيران، إذ لم تُؤخَذ اعتبارات حماس بعين الاعتبار، بينما الإبادة الواقعة على الشعب الفلسطيني في غزة غير كافية لاعتبارها، إذْ مُنِح الاعتبار الكامل للأسباب السورية الذاتية، وذلك من طرفين؛ أحدهما ينتمي للفضاء الإخواني، والآخر للفضاء السلفي.

أنّ المثلين دلّا على قابلية الوقوع في شرَك الهندسة الرسمية، المدفوعة بالإدارة الإمبريالية للوعي العامّ، بما في ذلك وعي الاتجاهات التي يفترض بها العمل لتغيير هذه الهندسة أصلا، وهو أمر يطرح السؤال الكبير حول الذي تريده الجماعات الإسلامية، حينما تقبل ممن تحتسبهم على نفسها ما كانت تعدّه سببا لمعارضة الأنظمة القائمة

الواقع، أنّ المثلين دلّا على قابلية الوقوع في شرَك الهندسة الرسمية، المدفوعة بالإدارة الإمبريالية للوعي العامّ، بما في ذلك وعي الاتجاهات التي يفترض بها العمل لتغيير هذه الهندسة أصلا، وهو أمر يطرح السؤال الكبير حول الذي تريده الجماعات الإسلامية، حينما تقبل ممن تحتسبهم على نفسها ما كانت تعدّه سببا لمعارضة الأنظمة القائمة.

وعلى أية حال، فإنّ تسلل الدافع الطائفي ليأخذ مكانة مركزية في دوافع بعض الإسلاميين السنة، مع ما يمكن أن نسميه تبلور ثأرية سنية، علاوة على عمق حضور المأساة السورية التي انبنى عليها تشكل الوعي الإسلامي، والإخواني منه على وجه الخصوص، منذ مطالع ثمانينيات القرن الماضي، ساعد على السقوط في شرَك ترتيب الرؤية للواقع الراهن، من حيث موقع القضية الفلسطينية، وجوهرية الصراع مع المشروع الصهيوني، ومن ثمّ راجت في سجالات بعض الإسلاميين مفاهيم هندستها الدعاية الرسمية العربية، وبجهد محموم من ذبابها الإلكتروني، لإعادة تعريف معنى الاحتلال، والأمن القومي، ومن هو العدوّ، وليس بالنحو الذي يعطي المأساة السورية حقها من الاعتبار، ولكن بالنحو الذي يستغلها لإضعاف فلسطين وتحطيمها، وبما يجعل القضيتين متقابلتين، وهو أمر مدمّر إذا لم يُوفق من يفترض فيهم أنّهم أصحاب رأي لصياغة الموقف بنحو متوازن وعادل.

ثانيا- الأفيون التقليدي: السلفية والأشعرية حين يتحوّلان إلى خطاب تعطيل

في المقابل، ثمّة حالة إسلامية تقليدية، غالبا ما تكنّ موقفا يتراوح بين التحفّز والعداء للإسلاميين الحركيين، وهو ما يمكن التمثيل عليه بمثلين، الأول التمثيل المشهور بالتيار الجامي/ المدخلي الذي يدعي التمثيل الحصري للسلفية، وهو أمر مفهوم السبب حين إدراك النزعة الانشقاقية عن عموم المسلمين في الوعي السلفي المعاصر، والثاني بالمندرجين في المؤسسات الدينية الرسمية وبعض المنشغلين في الإحيائية الأشعرية المعاصرة. وفي حين أنّ المثل الأول هو مثال مخابراتي واضح، لا يستحق الكثير من الوقوف معه لتحليل خطابه وممارسته، وإن كان ذا دلالة فاضحة على حقيقة الموقف العربي الرسمي المشغل لهذا التيار، إذ يتبنّى خطابا شديد القبح والانحطاط بشأن المأساة الغزية ومقاومة أهلها، فإنّ ثمّة مشتركا مركزيّا مُوَجِّها بين المثلين، وهو رؤية العالم من زوايا اشتغال ضيقة، ومن مشاعر غريزية، الأمر الذي ينتهي إلى تحريف الدين، وتوظيفه أفيونا للشعوب عن القيام بدورها. هذا المشترك ينحلّ في جملة مشتركات.

ممّا يُلاحظ من مشتركات بين المثلين؛ العداء للحركية بوصفها حزبية تحشر الإسلام في إطار ضيق، مما يعني إعادة تفسير الإسلام ليخدم تلك الأطر الضيقة، إلا أنّ هذا الاتهام يكشف عن ذات نرجسية، تتوهّم النقاء المطلق، مما يستبطن وعيا بحلول الإسلام في الذات، وهو نمط من الضلال، بسبب الغفلة عن عيوب الذات، ونرجسيتها في تصوّر تمثيل الإسلام، مما ينتهي إلى حشر الإسلام بالفعل في أطر ضيقة، وهي هذه الذات الجامية/ المدخلية المتورّمة بتوهم استعادة نموذج السلف المتخيل "الذي حلّ فيه الإسلام" في الذات المعاصرة، والمثل الثاني يتوهم الصوابية المطلقة في اتجاهه المشيخي، وبنحو فيه سمات الحزبية، كأن ينشغل بعض الطلبة والمشايخ في ذمّ الآخرين على أمور لا يرونها خطأ إن وقع مشايخهم فيها.

ويُلاحظ هنا في بعضهم تحويل مذاهب المسلمين الفقهية والعقدية إلى ما يشبه الرابطة الحزبية التي يزعمون تمثيلها حصرا، بالرغم من كونها مذاهب للأمة تطوّرت في التاريخ قبل الكيانات الحديثة والمعاصرة كلها، وهو ما يُعظّم من لوثة النرجسية الكاريكاتورية التي يقع فيها هؤلاء، وبما أنّ من يقاتل في غزة إسلامي/ حركي، فالموقف منه بين التحفظ والتحفز والعداء.

يُصاب هؤلاء عموما فيما يمكن تسميته بالإسقاط الدفاعي، وآلية الدفاع، حينما تفضح الفاعلية المزوّدة بالتثوير الديني لبعض الحركيين كما هو حاصل في غزّة؛ قصورهم الفادح، فيحوّلون قصورهم إلى ميزة، وينقلون النقاش عن دورهم الغائب، أو القاصر، أو المعيب، وعن الواجب إزاء مأساة المظلومين في غزّة، إلى هجوم على أصحاب تلك الفاعلية الذين ثوّرهم الدين، والتقطوا منه عناصر الدفع والتغيير والبذل والعطاء والعمل.

إنّ فاعلية التغيير باسم الإسلام تفضح فاعلية التعجيز باسم الإسلام، فينتقل العاجزون عن مراجعة دورهم، أو النظر في قصورهم، أو السؤال عمّا يمكن فعله، إلى ترك الأعداء، والهجوم على المظلومين بدعوى أنّهم قتلوا أنفسهم وشعبهم، بحركتهم غير المدروسة، ويتجاوز الأمر ذلك إلى تبنّي دعاية عدوّهم ضدهم، في اصطفاف ضمني في صفّ العدوّ، ولكن باسم الإسلام!

يلاحظ في كلا المثلين، ضمور الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية، وغياب قيم العدل والقسط والميزان، من حيث دور الدين في الاجتماع الإنساني، إذ لا تلاحظ الفاعلية التي ترقى إلى مستوى معطى الآية الكريمة التي تقول: "لَقَد أَرسَلنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وَأَنزَلنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالميزانَ لِيَقومَ النّاسُ بِالقِسطِ وَأَنزَلنَا الحَديدَ فيهِ بَأسٌ شَديدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزيزٌ" (الحديد: 25)، إذ جُعِل القيام بالقسط علة لإنزال الكتاب والميزان.

فالقضايا التي تتصل بالعدل، وحقوق الناس، يعدها أصحاب المَثَلين سياسة، ويرون الحديث فيها تصفية لحسابات سياسية مع الأنظمة والحكام، بالرغم من كون قضايا الدماء والأعراض والكرامات داخلة في صلب ما جاء الدين لحفظه، ومن ثمّ فإنّ هذا الوعي الكسيح إزاء قضايا العدل والقسط، والذي يتطوّع بعضهم لتوظيفه دفاعا عن الأنظمة والحكومات، يتضح كذلك في المأساة الغزية حينما يكفّون النقد عن الأنظمة والحكومات واضحة التواطؤ، علاوة على العجز والتخاذل، للهجوم على القائمين بواجب المدافعة، أو تسخيف أي فكرة تُطرح يسعى بها أصحابها للقيام بالواجب في حدود المستطاع، والإعذار إلى الله، وإقامة الحجة على الناس.

يظهر لدى بعضهم، والحالة هذه، انحراف شرعي في تصوّر الموالاة الإيمانية، بتبني خطاب وطني يقوم على أساس الجنسية والحدود القُطرية، ومن نافلة القول، وبسبب تشوه الفهم السياسي، فإنّه تجري المطابقة بين الحكومات القائمة والوطن، علاوة على سوء الفهم لطبيعة الدولة الحديثة وافتراقها عن التجارب السياسية في التاريخ الإسلامي.

عند بعضهم لا يُعذر المسلم الضعيف الواقع عليه الإبادة، كما هو الحال في غزة، لو عتب على من خذله من المسلمين، وإنّما يتحول خطابه هذا إلى سبب لهم لذمّه وإسقاطه والطعن فيه

وعلى أيّة حال، فإنّ الموالاة الإيمانية ليست منحصرة في حدود الجنسية، ولكن تطبيقاتها الواقعية هي المرهونة إلى الوسع والاستطاعة كشأن أيّ تكليف، ومن ثمّ يغيب في تطبيقات بعض هؤلاء لمفهوم الموالاة الإيمانية مِثلُ المعاني المندرجة في الحديث الشريف: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ؛ يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ.."، فلا يعود المعيار بالنسبة لهؤلاء الإسلام، أو الحق، أو العدل، وإنما الجنسية التي تمثلها الدولة. وعلى هذا عند بعضهم لا يُعذر المسلم الضعيف الواقع عليه الإبادة، كما هو الحال في غزة، لو عتب على من خذله من المسلمين، وإنّما يتحول خطابه هذا إلى سبب لهم لذمّه وإسقاطه والطعن فيه.

وبعض أحسن هؤلاء حالا ينتهج آلية الإزاحة، بأن ينقل غضبه من نفسه أو من مصدر التهديد الداخلي (إحساسه بالقصور والعجز) إلى الآخر الذي يفضحه بفاعليته الساعية إلى القيام بالواجب. وهذه المعضلة الأخلاقية على أية حال تكاد تكون عامّة في هذا الوقت وتتجاوز أصحاب الأمثلة التي نحن بصددها، إذ لا يستطيع أن يكبح الكثيرون إرادتهم في إزاحة الغضب من أنفسهم وعجزهم إلى من يسعى للقيام بالواجب إمّا بتسخيف ما يقوم به إن كان من خارج غزة، أو تحميله المسؤولية الكاملة عن المأساة الواقعة على الغزيين إن كان من مقاوميها، وبعض آخر لم يتعوّد الحديث في القضايا العامّة، وليس بالضرورة أن يكون ذلك جُبنا، ولكن بسبب تمركزه حول انشغالاته التي يرى العالم من خلالها، فالعالم عنده بمقدار الصراع السلفي/ الأشعري، أو استنهاض المسلمين لا يكون عنده إلا بالعودة إلى سلف متخيل، أو بإحياء علوم تراثية تتحوّل بسبب الخلل في الوعي والضمور الأخلاقي ونوازع الانحراف الداخلي التي نتحدث عنها إلى أفيون جديد؛ يغطي دخانه على عقل صاحبه وعلى بصره، ويحجب دونه رؤية المسلمين وهمومهم وأوجاعهم.

x.com/sariorabi
التعليقات (0)